کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 136
اللَّهَ في مخالفة حكمه و الإهمال فيه. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ على تقواكم.
[سورة الحجرات (49): الآيات 11 الى 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ أي لا يسخر بعض المؤمنين و المؤمنات من بعض إذ قد يكون المسخور منه خيرا عند اللّه من الساخر، و القوم مختص بالرجال لأنه إما مصدر نعت به فشاع في الجمع أو جمع لقائم كزائر و زور، و القيام بالأمور وظيفة الرجال كما قال تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ و حيث فسر بالقبيلين كقوم عاد و فرعون، فإما على التغليب أو الاكتفاء بذكر الرجال على ذكرهن لأنهن توابع، و اختيار الجمع لأن السخرية تغلب في المجامع و عَسى باسمها استئناف بالعلة الموجبة للنهي و لا خبر لها لإغناء الإسم عنه. و قرئ «عسوا أن يكونوا» و «عسين أن يكن» فهي على هذا ذات خبر. وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي و لا يغتب بعضكم بعضا فإن المؤمنين كنفس واحدة، أو لا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه. و اللمز الطعن باللسان. و قرأ يعقوب بالضم. وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ و لا يدع بعضكم بعضا بلقب السوء، فإن النبز مختص بلقب السوء عرفا. بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم الإيمان و اشتهارهم به، و المراد به إما تهجين نسبة الكفر و الفسق إلى المؤمنين خصوصا إذ
روي أن الآية نزلت في صفية بنت حيي رضي اللّه عنها، أتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقالت: إن النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها «هلا قلت إن أبي هارون و عمي موسى و زوجي محمد عليهم السلام».
أو الدلالة على أن التنابز فسق و الجمع بينه و بين الإيمان مستقبح. وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ عما نهي عنه. فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بوضع العصيان موضع الطاعة و تعريض النفس للعذاب.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ كونوا منه على جانب، و إبهام الكثير ليحتاط في كل ظن و يتأمل حتى يعلم أنه من أي القبيل، فإن من الظن ما يجب اتباعه كالظن حيث لا قاطع فيه من العمليات و حسن الظن باللّه سبحانه و تعالى، و ما يحرم كالظن في الإلهيات و النبوات و حيث يخالفه قاطع و ظن السوء بالمؤمنين، و ما يباح كالظن في الأمور المعاشية. إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ مستأنف للأمر، و الإثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه. و الهمزة فيه بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها. وَ لا تَجَسَّسُوا و لا تبحثوا عن عورات المسلمين، تفعل من الجس باعتبار ما فيه من معنى الطلب كالتلمس، و قرئ بالحاء من الحس الذي هو أثر الجس و غايته و لذلك قيل للحواس الخمس الجواس. و
في الحديث «لا تتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عوراتهم تتبع اللّه عورته حتى يفضحه و لو في جوف بيته».
وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً و لا يذكر بعضكم بعضا بالسوء في غيبته. و
سئل عليه الصلاة و السلام عن الغيبة فقال: «أن تذكر أخاك بما يكرهه، فإن كان فيه فقد اغتبته، و إن لم يكن فيه فقد بهته».
أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً تمثيل لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه مع مبالغات الاستفهام المقرر، و إسناد الفعل إلى أحد للتعميم و تعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة، و تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان و جعل المأكول أخا و ميتا و تعقيب ذلك بقوله: فَكَرِهْتُمُوهُ تقريرا و تحقيقا لذلك. و المعنى إن صح ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه و لا يمكنكم إنكار كراهته، و انتصاب مَيْتاً على الحال من اللحم أو الأخ و شدده نافع. وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ لمن اتقى ما نهي عنه و تاب مما فرط منه، و المبالغة في ال تَوَّابٌ لأنه بليغ في قبول التوبة إذ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 137
يجعل صاحبها كمن لم يذنب، أو لكثرة المتوب عليهم أو لكثرة ذنوبهم،
روي: أن رجلين من الصحابة بعثا سلمان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يبغي لهما إداما، و كان أسامة على طعامه فقال: ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فقالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها، فلما راحا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال لهما: «ما لي أرى حضرة اللحم في أفواهكما»، فقالا: ما تناولنا لحما، فقال: «إنكما قد اغتبتما» فنزلت.
[سورة الحجرات (49): آية 13]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى من آدم و حواء عليهما السلام، أو خلقنا كل واحد منكم من أب و أم فالكل سواء في ذلك فلا وجه للتفاخر بالنسب. و يجوز أن يكون تقريرا للأخوة المانعة عن الاغتياب.
وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ الشعب الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد و هو يجمع القبائل. و القبيلة تجمع العمائر. و العمارة تجمع البطون. و البطن تجمع الأفخاذ. و الفخذ يجمع الفضائل، فخزيمة شعب، و كنانة قبيلة، و قريش عمارة، و قصي بطن، و هاشم فخذ، و عباس فصيلة. و قيل الشعوب بطون العجم و القبائل بطون العرب. لِتَعارَفُوا ليعرف بعضكم بعضا لا للتفاخر بالآباء و القبائل. و قرئ «لتعارفوا» بالإدغام و «لتتعارفوا» و «لتعرفوا». إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ فإن التقوى بها تكمل النفوس و تتفاضل بها الأشخاص، فمن أراد شرفا فليلتمسه منها كما
قال عليه الصلاة و السلام «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق اللّه»
و
قال عليه السلام «يا أيها الناس إنما الناس رجلان مؤمن تقي كريم على اللّه، و فاجر شقي هين على اللّه».
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بكم خَبِيرٌ ببواطنكم.
[سورة الحجرات (49): آية 14]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا نزلت في نفر من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة و أظهروا الشهادتين، و كانوا يقولون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أتيناك بالأثقال و العيال، و لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدون الصدقة و يمنون. قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا إذ الإيمان تصديق مع ثقة و طمأنينة قلب، و لم يحصل لكم و إلا لما مننتم على الرسول عليه الصلاة و السلام بالإسلام و ترك المقاتلة كما دل عليه آخر السورة. وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا فإن الإسلام انقياد و دخول في السلم و إظهار الشهادتين و ترك المحاربة، يشعر به و كان نظم الكلام أن يقول لا تقولوا آمنا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ، أو لم تؤمنوا و لكن أسلمتم فعدل منه إلى هذا النظم احترازا من النهي عن القول بالإيمان و الجزم بإسلامهم، و قد فقد شرط اعتباره شرعا. وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ توقيت ل قُولُوا فإنه حال من ضميره أي: وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا و لم تواطئ قلوبكم ألسنتكم بعد. وَ إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ بالإخلاص و ترك النفاق. لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ لا ينقصكم من أجورها. شَيْئاً من لات يليت ليتا إذا نقص، و قرأ البصريان «لا يألتكم» من الألت و هو لغة غطفان. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما فرط من المطيعين.
رَحِيمٌ بالتفضل عليهم.
[سورة الحجرات (49): الآيات 15 الى 16]
.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 138
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا لم يشكوا من ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة، و فيه إشارة إلى ما أوجب نفي الإيمان عنهم، و ثُمَ للإشعار بأن اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإيمان ليس حال الإيمان فقط بل فيه و فيما يستقبل فهي كما في قوله: ثُمَّ اسْتَقامُوا* . وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طاعته و المجاهدة بالأموال و الأنفس تصلح للعبادات المالية و البدنية بأسرها. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ الذين صدقوا في ادعاء الإيمان.
قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أ تخبرونه به بقولكم آمَنَّا . وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لا يخفى عليه خافية، و هو تجهيل لهم و توبيخ.
روي أنه لما نزلت الآية المتقدمة جاءوا و حلفوا أنهم مؤمنون معتقدون فنزلت هذه الآية.
[سورة الحجرات (49): الآيات 17 الى 18]
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا يعدون إسلامهم عليك منة و هي النعمة التي لا يستثيب موليها ممن بذلها إليه، من المن بمعنى القطع لأن المقصود بها قطع حاجته. و قيل النعمة الثقيلة من المن. قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أي بإسلامكم، فنصب بنزع الخافض أو تضمين الفعل معنى الاعتدال. بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ على ما زعمتم مع أن الهداية لا تستلزم الاهتداء، و قرئ «إن هداكم» بالكسر و «إذ هداكم».
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ادعاء الإيمان، و جوابه محذوف يدل عليه ما قبله أي فللّه المنة عليكم، و في سياق الآية لطف و هو أنهم لما سموا ما صدر عنهم إيمانا و منوا به فنفى أنه إيمان و سماه إسلاما بأن قال يمنون عليكم بما هو في الحقيقة إسلام و ليس بجدير أن يمن به عليك، بل لو صح ادعاؤهم للإيمان فلله المنة عليهم بالهداية له لا لهم.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ما غاب فيهما. وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ في سركم و علانيتكم فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم، و قرأ ابن كثير بالياء لما في الآية من الغيبة.
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم «من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر بعدد من أطاع اللّه و عصاه».
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 139
(50) سورة ق
مكية، و هي خمس و أربعون آية
[سورة ق (50): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ الكلام فيه كما مر في ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ . و الْمَجِيدِ ذو المجد و الشرف على سائر الكتب، أو لأنه كلام المجيد، أو لأن من علم معانيه و امتثل أحكامه مجد.
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، و هو أن ينذرهم أحد من جنسهم أو من أبناء جلدتهم. فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ حكاية لتعجبهم، و هذا إشارة إلى اختيار اللّه محمدا للرسالة، و إضمار ذكرهم ثم إظهاره للأشعار بتعنتهم بهذا المقال، ثم التسجيل على كفرهم بذلك أو عطف لتعجبهم من البعث على تعجبهم من البعثة، و المبالغة فيه بوضع الظاهر موضع ضميرهم و حكاية تعجبهم مبهما إن كانت الإشارة إلى مبهم يفسره ما بعده، أو مجملا إن كانت الإشارة إلى محذوف دل عليه منذر، ثم تفسيره أو تفصيله لأنه أدخل في الإنكار إذ الأول استبعاد لأن يفضل عليهم مثلهم، و الثاني استقصار لقدرة اللّه تعالى عما هو أهون مما يشاهدون من صنعه.
أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً أي أ نرجع إذا متنا و صرنا ترابا، و يدل على المحذوف قوله: ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أي بعيد عن الوهم أو العادة أو الإمكان. و قيل الرجع بمعنى المرجوع.
[سورة ق (50): الآيات 4 الى 5]
قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ما تأكل من أجساد موتاهم، و هو رد لاستبعادهم بإزاحة ما هو الأصل فيه، و قيل إنه جواب القسم و اللام محذوف لطول الكلام. وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ حافظ لتفاصيل الأشياء كلها، أو محفوظ عن التغيير، و المراد إما تمثيل علمه بتفاصيل الأشياء بعلم من عنده كتاب محفوظ يطالعه، أو تأكيد لعلمه بها بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده.
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ يعني النبوة الثابتة بالمعجزات، أو النبي صلّى اللّه عليه و سلم، أو القرآن. لَمَّا جاءَهُمْ و قرئ «لمّا» بالكسر. فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب من مرج الخاتم في إصبعه إذا خرج، و ذلك قولهم تارة أنه شاعِرٌ* و تارة أنه ساحِرٌ* و تارة أنه كاهن.
[سورة ق (50): الآيات 6 الى 8]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 140
أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا حين كفروا بالبعث. إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ إلى آثار قدرة اللّه تعالى في خلق العالم.
كَيْفَ بَنَيْناها رفعناها بلا عمد. وَ زَيَّنَّاها بالكواكب. وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ فتوق بأن خلقها ملساء متلاصقة الطباق.
وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها. وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت. وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي من كل صنف. بَهِيجٍ حسن.
تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع إلى ربه متفكر في بدائع صنعه، و هما علتان للأفعال المذكورة معنى و إن انتصبتا عن الفعل الأخير.
[سورة ق (50): الآيات 9 الى 11]
وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً كثير المنافع فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ أشجارا و أثمارا. وَ حَبَّ الْحَصِيدِ و حب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالبر و الشعير.
وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ طوالا أو حوامل من أبسقت الشاة إذا حملت فيكون من أفعل فهو فاعل، و إفرادها بالذكر لفرط ارتفاعها و كثرة منافعها. و قرئ «باصقات» لأجل القاف. لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ منضود بعضه فوق بعض، و المراد تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من الثمر.
رِزْقاً لِلْعِبادِ علة ل أَنْبَتْنا أو مصدر، فإن الإنبات رزق. وَ أَحْيَيْنا بِهِ بذلك الماء. بَلْدَةً مَيْتاً أرضا جدبة لا نماء فيها. كَذلِكَ الْخُرُوجُ كما حييت هذه البلدة يكون خروجكم أحياء بعد موتكم.
[سورة ق (50): الآيات 12 الى 14]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِّ وَ ثَمُودُ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ أراد بفرعون إياه و قومه ليلائم ما قبله و ما بعده. وَ إِخْوانُ لُوطٍ أخدانه لأنهم كانوا أصهاره.
وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَ قَوْمُ تُبَّعٍ سبق في «الحجر» و «الدخان». كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ أي كل واحد أو قوم منهم أو جميعهم، و إفراد الضمير لإفراد لفظه. فَحَقَّ وَعِيدِ فوجب و حل عليه و عيدي، و فيه تسلية للرسول صلى اللّه عليه و سلم و تهديد لهم.
[سورة ق (50): الآيات 15 الى 16]
أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ أي أ فعجزنا عن الإبداء حتى نعجز عن الإعادة، من عيي بالأمر إذا لم يهتد لوجه عمله و الهمزة فيه للإنكار. بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ أي هم لا ينكرون قدرتنا على الخلق الأول بل هم في خلط، و شبهة في خلق مستأنف لما فيه من مخالفة العادة، و تنكير الخلق الجديد لتعظيم شأنه و الإشعار بأنه على وجه غير متعارف و لا معتاد.
وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ما تحدثه به نفسه و هو ما يخطر بالبال، و الوسوسة الصوت الخفي و منها وسواس الحلي، و الضمير ل ما إن جعلت موصولة و الباء مثلها في صوت بكذا، أو ل الْإِنْسانَ إن جعلت مصدرية و الباء للتعدية. وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أي و نحن أعلم بحاله ممن
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 141
كان أقرب إليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ، تجوز بقرب الذات لقرب العلم لأنه موجبه و حَبْلِ الْوَرِيدِ مثل في القرب قال: و الموت أدنى من الوريد. و ال حَبْلِ العرق و إضافته للبيان، و الوريدان عرقان مكتنفان بصفحتي العنق في مقدمها متصلان بالوتين يردان من الرأس إليه، و قيل سمي وريدا لأن الروح ترده.
[سورة ق (50): الآيات 17 الى 18]
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ مقدر باذكر أو متعلق ب أَقْرَبُ ، أي هو أعلم بحاله من كل قريب حين يتلقى أي يتلقن الحفيظان ما يتلفظ به، و فيه إيذان بأنه غني عن استحفاظ الملكين فإنه أعلم منهما و مطلع على ما يخفى عليهما، لكنه لحكمة اقتضته و هي ما فيه من تشديد يثبط العبد عن المعصية، و تأكيد في اعتبار الأعمال و ضبطها للجزاء و إلزام للحجة يوم يقوم الاشهاد. عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أي عَنِ الْيَمِينِ قعيد وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ، أي مقاعد كالجليس فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كقوله: فإني و قيار بها لغريب.
و قد يطلق الفعيل للواحد و المتعدد كقوله: وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ .
ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ما يرمي به من فيه. إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ ملك يرقب عمله. عَتِيدٌ معد حاضر، و لعله يكتب عليه ما فيه ثواب أو عقاب و
في الحديث «كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا، و إذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر».
[سورة ق (50): الآيات 19 الى 20]
وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ لما ذكر استبعادهم البعث للجزاء و أزاح ذلك بتحقيق قدرته و علمه أعلمهم بأنهم يلاقون ذلك عن قريب عند الموت و قيام الساعة، و نبه على اقترابه بأن عبر عنه بلفظ الماضي، و سكرة الموت شدته الذاهبة بالعقل و الباء للتعدية كما في قولك: جاء زيد بعمرو. و المعنى و أحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر أو الموعود الحق، أو الحق الذي ينبغي أن يكون من الموت أو الجزاء، فإن الإنسان خلق له أو مثل الباء في تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ . و قرئ «سكرة الحق بالموت» على أنها لشدتها اقتضت الزهوق أو لاستعقابها له كأنها جاءت به، أو على أن الباء بمعنى مع. و قيل سكرة الحق سكرة اللّه و إضافتها إليه للتهويل. و قرئ «سكرات الموت». ذلِكَ أي الموت. ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ تميل و تنفر عنه و الخطاب للإنسان.
وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ يعني نفخة البعث. ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ أي وقت ذلك يوم تحقق الوعيد و إنجازه و الإشارة إلى مصدر نُفِخَ .
[سورة ق (50): الآيات 21 الى 22]
وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ ملكان أحدهما يسوقه و الآخر يشهد بعمله، أو ملك جامع للوصفين. و قيل السائق كاتب السيئات، و الشهيد كاتب الحسنات. و قيل السائق نفسه أو قرينه و الشهيد جوارحه أو أعماله، و محل مَعَها النصب على الحال من كل لإضافته إلى ما هو في حكم المعرفة.
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا على إضمار القول و الخطاب لِكُلِّ نَفْسٍ إذ ما من أحد إلا و له اشتغال ما عن الآخرة أو للكفار. فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ الغطاء الحاجب لأمور المعاد، و هو الغفلة و الانهماك في المحسوسات و الإلف بها و قصور النظر عليها. فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ نافذ لزوال المانع للإبصار. و قيل
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 142
الخطاب للنبي عليه الصلاة و السلام و المعنى: كنت في غفلة من أمر الديانة فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي و تعليم القرآن، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ترى ما لا يرون و تعلم ما لا يعلمون. و يؤيد الأول قراءة من كسر التاء و الكافات على خطاب النفس.
[سورة ق (50): الآيات 23 الى 25]
وَ قالَ قَرِينُهُ قال الملك الموكل عليه. هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ هذا ما هو مكتوب عندي حاضر لدي، أو الشيطان الذي قيض له هذا ما عندي و في ملكتي عتيد لجهنم هيأته لها باغوائي و إضلالي، و ما إن جعلت موصوفة ف عَتِيدٌ صفتها و إن جعلت موصولة فبدلها أو خبر بعد خبر أو خبر محذوف.
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ خطاب من اللّه تعالى للسائق و الشهيد، أو لملكين من خزنة النار، أو لواحد و تثنية الفاعل منزل منزلة تثنية الفعل و تكريره كقوله:
فإن تزجراني يا ابن عفّان أنزجر
و إن تدعاني أحم عرضا ممنعا
أو الألف بدل من نون التأكيد على إجراء الوصل مجرى الوقف، و يؤيده أنه قرئ «ألقين» بالنون الخفيفة. عَنِيدٍ معاند للحق.
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ كثير المنع للمال عن حقوقه المفروضة. و قيل المراد بالخير الإسلام فإن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة لما منع بني أخيه عنه. مُعْتَدٍ متعد. مُرِيبٍ شاك في اللّه و في دينه.
[سورة ق (50): الآيات 26 الى 27]
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ مبتدأ متضمن معنى الشرط و خبره. فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ أو بدل من كُلَّ كَفَّارٍ فيكون فَأَلْقِياهُ تكريرا للتوكيد، أو مفعول لمضمر يفسره فَأَلْقِياهُ .
قالَ قَرِينُهُ أي الشيطان المقيض له، و إنما استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول فإنه جواب لمحذوف دل عليه. رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ كأن الكافر قال هو أطغاني ف قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ بخلاف الأولى فإنها واجبة العطف على ما قبلها للدلالة على الجمع بين مفهوميهما في الحصول، أعني مجيء كل نفس مع الملكين و قول قرينه: وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ فأعنته عليه فإن إغواء الشياطين إنما يؤثر فيمن كان مختل الرأي مائلا إلى الفجور كما قال: وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي .
[سورة ق (50): الآيات 28 الى 29]
قالَ أي اللّه تعالى. لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ أي في موقف الحساب فإنه لا فائدة فيه، و هو استئناف مثل الأول. وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ على الطغيان في كتبي و على ألسنة رسلي فلم يبق لكم حجة. و هو حال فيه تعليل للنهي أي لا تَخْتَصِمُوا عالمين بأني أوعدتكم، و الباء مزيدة أو معدية على أن قدم بمعنى تقدم، و يجوز أن يكون بِالْوَعِيدِ حالا و الفعل واقعا على قوله: