کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 185
(57) سورة الحديد
مدينة و قيل مكية و آيها تسع و عشرون آية
[سورة الحديد (57): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ذكر ها هنا و في «الحشر» و «الصف» بلفظ الماضي، و في «الجمعة» و «التغابن» بلفظ المضارع إشعارا بأن من شأن ما أسند إليه أن يسبحه في جميع أوقاته، لأنه دلالة جبلّية لا تختلف باختلاف الحالات، و مجيء المصدر مطلقا في «بني إسرائيل» أبلغ من حيث إنه يشعر بإطلاقه على استحقاق التسبيح من كل شيء و في كل حال، و إنما عدي باللام و هو متعد بنفسه مثل نصحت له في نصحته أشعارا بأن إيقاع الفعل لأجل اللّه و خالصا لوجهه. وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ حال يشعر بما هو المبدأ للتسبيح.
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإنه الموجد لهما و المتصرف فيهما. يُحْيِي وَ يُمِيتُ استئناف أو خبر لمحذوف أو حال من المجرور في له وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الإحياء و الإماتة و غيرهما. قَدِيرٌ تام القدرة.
[سورة الحديد (57): الآيات 3 الى 4]
هُوَ الْأَوَّلُ السابق على سائر الموجودات من حيث إنه موجدها و محدثها. وَ الْآخِرُ الباقي بعد فنائها و لو بالنظر إلى ذاتها مع قطع النظر عن غيرها، أو هُوَ الْأَوَّلُ الذي تبتدأ منه الأسباب و تنتهي إليه المسببات، أو الْأَوَّلُ خارجا و الْآخِرُ ذهنا. وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ الظاهر وجوده لكثرة دلائله و الباطن حقيقة ذاته فلا تكتنهها العقول، أو الغالب على كل شيء و العالم بباطنه و الواو الأولى و الأخيرة للجمع بين الوصفين، و المتوسطة للجمع بين المجموعين. وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يستوي عنده الظاهر و الخفي.
وَ ما يَخْرُجُ مِنْها كالزروع. وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كالأمطار. وَ ما يَعْرُجُ فِيها كالأبخرة. وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ لا ينفك علمه و قدرته عنكم بحال. وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم عليه، و لعل تقديم الخلق على العلم لأنه دليل عليه.
[سورة الحديد (57): الآيات 5 الى 6]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 186
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ذكره مع الإعادة كما ذكره مع كالإبداء لأنه كالمقدمة لهما. وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ .
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بمكنوناتها.
[سورة الحديد (57): الآيات 7 الى 8]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ من الأموال التي جعلكم اللّه خلفاء في التصرف فيها فهي في الحقيقة له لا لكم، أو التي استخلفكم عمن قبلكم في تملكها و التصرف فيها، و فيه حث على الإنفاق و تهوين له على النفس. فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ وعد فيه مبالغات جعل الجملة اسمية و إعادة ذكر الإيمان و الإنفاق و بناء الحكم على الضمير و تنكير الأجر و وصفه بالكبر.
وَ ما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أي و ما تصنعون غير مؤمنين به كقولك: مالك قائما. وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ حال من ضمير تؤمنون، و المعنى أي عذر لكم في ترك الإيمان و الرسول يدعوكم إليه بالحجج و الآيات. وَ قَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ أي و قد أخذ اللّه ميثاقكم بالإيمان قبل، و ذلك بنصب الأدلة و التمكين من النظر، و الواو للحال من مفعول يَدْعُوكُمْ ، و قرأ أبو عمرو على البناء للمفعول و رفع مِيثاقَكُمْ . إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لموجب ما فإن هذا موجب لا مزيد عليه.
[سورة الحديد (57): الآيات 9 الى 10]
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ أي اللّه أو العبد. مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث نبهكم بالرسول و الآيات و لم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية.
وَ ما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا و أي شيء لكم في أَلَّا تُنْفِقُوا . فِي سَبِيلِ اللَّهِ فيما يكون قربة إليه. وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يرث كل شيء فيهما فلا يبقى لأحد مال، و إذا كان كذلك فإنفاقه بحيث يستخلف عوضا يبقي و هو الثواب كان أولى. لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً بيان لتفاوت المنفقين باختلاف أحوالهم من السبق و قوة اليقين، و تحري الحاجات حثا على تحري الأفضل منها بعد الحث على الإنفاق، و ذكر القتال للاستطراد و قسيم من أنفق محذوف لوضوحه و دلالة ما بعده عليه، و الْفَتْحِ فتح مكة إذ عز الإسلام به و كثر أهله و قلت الحاجة إلى المقاتلة و الإنفاق. مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ أي من بعد الفتح. وَ قاتَلُوا وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي وعد اللّه كلّا من المنفقين المثوبة الحسنى و هي الجنة. و قرأ ابن عامر «و كلّ» بالرفع على الابتداء أي و كل وعده اللّه ليطابق ما عطف عليه. وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بظاهره و باطنه فيجازيكم على حسبه، و الآية نزلت في أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه فإنه أول من آمن و أنفق في سبيل اللّه و خاصم الكفار حتى ضرب ضربا أشرف به على الهلاك.
[سورة الحديد (57): الآيات 11 الى 12]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 187
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي من الذي ينفق ماله في سبيله رجاء أن يعوضه، فإنه كمن يقرضه و حسن الإنفاق بالإخلاص فيه و تحري أكرم المال و أفضل الجهات له. فَيُضاعِفَهُ لَهُ أي يعطي أجره أضعافا. وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ أي و ذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه ينبغي أن يتوخى و إن لم يضاعف، فكيف و قد يضاعف أضعافا. و قرأ عاصم فَيُضاعِفَهُ بالنصب على جواب الاستفهام باعتبار المعنى فكأنه قال: أ يقرض اللّه أحد فيضاعفه له. و قرأ ابن كثير «فيضعفه» مرفوعا و قرأ ابن عامر و يعقوب «فيضعفه» منصوبا.
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ظرف لقوله وَ لَهُ أو فَيُضاعِفَهُ أو مقدر باذكر يَسْعى نُورُهُمْ ما يوجب نجاتهم و هدايتهم إلى الجنة. بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين. بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ أي يقول لهم من يتلقاهم من الملائكة بُشْراكُمُ أي المبشر به جنات، أو بُشْراكُمُ دخول جنات. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الإشارة إلى ما تقدم من النور و البشرى بالجنات المخلدة.
[سورة الحديد (57): آية 13]
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بدل من يَوْمَ تَرَى . لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا انتظرونا فإنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف، أو انظروا إلينا فإنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فيستضيئون بنور بين أيديهم. و قرأ حمزة «أنظرونا» على أن اتئادهم ليلحقوا بهم إمهال لهم. نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ نصب منه. قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ إلى الدنيا. فَالْتَمِسُوا نُوراً بتحصيل المعارف الإلهية و الأخلاق الفاضلة، فإنه يتولد منها أو إلى الموقف فإنه من ثمة يقتبس، أو إلى حيث شئتم فاطلبوا نورا آخر فإنه لا سبيل لكم إلى هذا، و هو تهكم بهم و تخييب من المؤمنين أو الملائكة فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بين المؤمنين و المنافقين. بِسُورٍ بحائط. لَهُ بابٌ يدخل منه المؤمنون. باطِنُهُ باطن السور أو الباب. فِيهِ الرَّحْمَةُ لأنه يلي الجنة. وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ من جهته لأنه يلي النار.
[سورة الحديد (57): الآيات 14 الى 15]
يُنادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ يريدون موافقتهم في الظاهر. قالُوا بَلى وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بالنفاق.
وَ تَرَبَّصْتُمْ بالمؤمنين الدوائر. وَ ارْتَبْتُمْ و شككتم في الدين. وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ كامتداد العمر. حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ و هو الموت. وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ الشيطان أو الدنيا.
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ فداء و قرأ ابن عامر و يعقوب بالتاء. وَ لا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ظاهرا و باطنا.
مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ هي أولى بكم كقول لبيد:
فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه
مولى المخافة خلفها و أمامها
و حقيقته محراكم أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كقولك: هو مئنة الكرم أي مكان قول القائل
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 188
إنه لكريم، أو مكانكم عما قريب من الولي و هو القرب، أو ناصركم على طريقة قوله: تحيّة بينهم ضرب وجيع. أو متوليكم يتولاكم كما توليتم موجباتها في الدنيا. وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ النار.
[سورة الحديد (57): آية 16]
أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ألم يأت وقته يقال أنى الأمر يأني أنيا و أنا و إنا إذا جاء إناه، و قرئ «ألم يئن» بكسر الهمزة و سكون النون من آن يئين بمعنى أتى و «ألما يأن».
روي أن المؤمنين كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق و النعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت.
وَ ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ أي القرآن و هو عطف على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر، و يجوز أن يراد بالذكر أن يذكر اللّه، و قرأ نافع و حفص و يعقوب نَزَلَ بالتخفيف. و قرئ «أنزل». وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ عطف على تَخْشَعَ ، و قرأ رويس بالتاء و المراد النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكي عنهم بقوله: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ أي فطال عليهم الأجل لطول أعمارهم و آمالهم، أو ما بينهم و بين أنبيائهم فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ . و قرئ «الأمدّ» و هو الوقت الأطول. وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن دينهم رافضون لما في كتابهم من فرط القسوة.
[سورة الحديد (57): الآيات 17 الى 18]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها تمثيل لإحياء القلوب القاسية بالذكر و التلاوة بالإحياء و الإموات ترغيبا في الخشوع و زجرا عن القساوة. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ كي تكمل عقولكم.
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقاتِ إن المتصدقين و المتصدقات، و قد قرئ بهما، و قرأ ابن كثير و أبو بكر بتخفيف الصاد أي الذين صدقوا اللّه و رسوله. وَ أَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً عطف على معنى الفعل في المحلى باللام لأن معناه: الذين أصدقوا، أو صدقوا و هو على الأول للدلالة على أن المعتبر هو التصدق المقرون بالإخلاص. يُضاعَفُ لَهُمْ وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ معناه و القراءة في يُضاعَفُ كما مر غير أنه لم يجزم لأنه خبر إن و هو مسند إلى لَهُمْ أو إلى ضمير المصدر.
[سورة الحديد (57): آية 19]
وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي أولئك عند اللّه بمنزلة الصديقين و الشهداء، أو هم المبالغون في الصدق فإنهم آمنوا و صدقوا جميع أخبار اللّه و رسله و القائمون بالشهادة للّه و لهم، أو على الأمم يوم القيامة. و قيل وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ مبتدأ و خبر، و المراد به الأنبياء من قوله:
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ أو الذين استشهدوا في سبيل اللّه. لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ مثل أجر الصديقين و الشهداء و مثل نورهم و لكنه من غير تضعيف ليحل التفاوت، أو الأجر و النور الموعودان لهم.
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث إن التركيب يشعر بالاختصاص و الصحبة تدل على الملازمة عرفا.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 189
[سورة الحديد (57): آية 20]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ لما ذكر حال الفريقين في الآخرة حقر أمور الدنيا أعني ما لا يتوصل به إلى الفوز الآجل، بأن بين أنها أمور خيالية قليلة النفع سريعة الزوال لأنها لعب يتعب الناس فيه أنفسهم جدا إتعاب الصبيان في الملاعب من غير فائدة، و لهو يلهون به أنفسهم عما يهمهم و زينة كالملابس الحسنة و المراكب البهية و المنازل الرفيعة، و تفاخر بالأنساب أو تكاثر بالعدد و العدد، ثم قرر ذلك بقوله: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً و هو تمثيل لها في سرعة تقضيها و قلة جدواها بحال نبات أنبته الغيث فاستوى و أعجب به الحراث، أو الكافرون باللّه لأنهم أشداء إعجابا بزينة الدنيا و لأن المؤمن إذا رأى معجبا انتقل فكره إلى قدرة صانعه فأعجب بها، و الكافر لا يتخطى فكره عما أحس به فيستغرق فيه إعجابا، ثم هاج أي يبس بعاهة فاصفر ثم صار حطاما، ثم عظم أمور الآخرة الأبدية بقوله: وَ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ تنفيرا عن الانهماك في الدنيا و حثا على ما يوجب كرامة العقبى، ثم أكد ذلك بقوله: وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٌ أي لمن أقبل عليها و لم يطلب إلا الآخرة. وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ أي لمن أقبل عليها و لم يطلب بها الآخرة.
[سورة الحديد (57): آية 21]
سابِقُوا سارعوا مسارعة المسابقين في المضمار. إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ إلى موجباتها. وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أي عرضها كعرضهما و إذا كان العرض كذلك فما ظنك بالطول، و قيل المراد به البسطة كقوله: فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ فيه دليل على أن الجنة مخلوقة و أن الإيمان وحده كاف في استحقاقها. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ذلك الموعود يتفضل به على من يشاء من غير إيجاب. وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ منه التفضل بذلك و إن عظم قدره.
[سورة الحديد (57): الآيات 22 الى 23]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ كجدب و عاهة. وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ كمرض و آفة. إِلَّا فِي كِتابٍ إلا مكتوبة في اللوح مثبتة في علم اللّه تعالى. مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها نخلقها و الضمير لل مُصِيبَةٍ أو الْأَرْضِ أو للأنفس. إِنَّ ذلِكَ أي إثباته في كتاب. عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لاستغنائه تعالى فيه عن العدة و المدة. لِكَيْلا تَأْسَوْا أي أثبت و كتب كي لا تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ من نعم الدنيا وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ بما أعطاكم اللّه منها فإن من علم أن الكل مقدر هان عليه الأمر، و قرأ أبو عمرو بِما آتاكُمْ من الإتيان ليعادل ما فاتكم، و على الأول فيه إشعار بأن فواتها يلحقها إذا خليت و طباعها، و أما حصولها و إبقاؤها فلا بد لهما من سبب يوجدها و يبقيها، و المراد به نفي الآسي المانع عن التسليم لأمر اللّه و الفرح الموجب للبطر و الاختيال، و لذلك عقبه بقوله: وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ إذ قل من يثبت نفسه في حالي الضراء و السراء.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 190
[سورة الحديد (57): آية 24]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ بدل من كل مختال فإن المختال بالمال يضن به غالبا أو مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله: وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ لأن معناه و من يعرض عن الإنفاق فإن اللّه غني عنه و عن إنفاقه محمود في ذاته لا يضره الإعراض عن شكره و لا ينفعه التقرب إليه بشكر من نعمه، و فيه تهديد و إشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق و قرأ نافع و ابن عامر فإن اللّه الغني.
[سورة الحديد (57): الآيات 25 الى 26]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا أي الملائكة إلى الأنبياء أو الأنبياء إلى الأمم. بِالْبَيِّناتِ بالحجج و المعجزات.
وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ ليبين الحق و يميز صواب العمل. وَ الْمِيزانَ لتسوى به الحقوق و يقام به العدل كما قال تعالى: لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ و إنزاله إنزال أسبابه و الأمر باعداده، و قيل أنزل الميزان إلى نوح عليه السلام، و يجوز أن يراد به العدل. لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ لتقام به السياسة و تدفع به الأعداء كما قال:
وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ فإن آلات الحروب متخذة منه. وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ إذ ما من صنعة إلا و الحديد آلاتها. وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ باستعمال الأسلحة في مجاهدة الكفار و العطف على محذوف دل عليه ما قبله فإنه حال يتضمن تعليلا، أو اللام صلة لمحذوف أي أنزله ليعلم اللّه. بِالْغَيْبِ حال من المستكن في ينصره. إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌ ، على إهلاك من أراد إهلاكه. عَزِيزٌ لا يفتقر إلى نصرة و إنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به و يستوجبوا ثواب الامتثال فيه.
وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ بأن استنبأناهم و أوحينا إليهم الكتب.
و قيل المراد الكتاب الخط. فَمِنْهُمْ فمن الذرية أو من المرسل إليهم و قد دل عليهم أَرْسَلْنا . مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن الطريق المستقيم و العدول عن السنن المقابلة للمبالغة في الذم و الدلالة على أن الغلبة للضلال.
[سورة الحديد (57): آية 27]
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَ قَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى عليه السلام، و الضمير لنوح و إبراهيم و من أرسلا إليهم، أو من عاصرهما من الرسل لا للذرية، فإن الرسل الملقى بهم من الذرية. وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ و قرئ بفتح الهمزة و أمره أهون من أمر البرطيل لأنه أعجمي. وَ جَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً و قرئ «رآفة» على فعالة. وَ رَحْمَةً وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها أي و ابتدعوا رهبانية ابتدعوها، أو رهبانية مبتدعة على أنها من المجعولات و هي المبالغة في العبادة و الرياضة و الانقطاع عن الناس، منسوبة إلى الرهبان و هو المبالغ في الخوف من رهب كالخشيان من خشي، و قرئت بالضم كأنها منسوبة إلى الرهبان و هو جمع راهب كراكب و ركبان. ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ما فرضناها عليهم.
إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ استثناء منقطع أي و لكنهم ابتدعوها ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ . و قيل متصل فإن ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ بمعنى ما تعبدناهم بها و هو كما ينفي الإيجاب المقصود منه دفع العقاب ينفي الندب المقصود منه
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 191
مجرد حصول مرضاة اللّه، و هو يخالف قوله ابْتَدَعُوها إلا أن يقال ابْتَدَعُوها ثم ندبوا إليها، أو ابْتَدَعُوها بمعنى استحدثوها و أتوا بها، أولا أنهم اخترعوها من تلقاء أنفسهم. فَما رَعَوْها أي فما رعوها جميعا. حَقَّ رِعايَتِها بضم التثليث و القول بالاتحاد و قصد السمعة و الكفر بمحمد عليه الصلاة و السلام و نحوها إليها. فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا أتوا بالإيمان الصحيح و من ذلك الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و سلم و حافظوا حقوقها.
مِنْهُمْ من المتسمين باتباعه. أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن حال الاتباع.
[سورة الحديد (57): آية 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالرسل المتقدمة. اتَّقُوا اللَّهَ فيما نهاكم عنه. وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ محمد عليه الصلاة و السلام. يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ نصيبين. مِنْ رَحْمَتِهِ لإيمانكم بمحمد صلّى اللّه عليه و سلم و إيمانكم بمن قبله، و لا يبعد أن يثابوا على دينهم السابق و إن كان منسوخا ببركة الإسلام، و قيل الخطاب للنصارى الذين كانوا في عصره.
وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يريد المذكور في قوله: يَسْعى نُورُهُمْ أو الهدى الذي يسلك به إلى جناب القدس. وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
[سورة الحديد (57): آية 29]
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أي ليعلموا و «لا» مزيدة و يؤيده أنه قرئ «ليعلم» و «لكي يعلم» و «لأن يعلم» بإدغام النون في الياء. أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أن هي المخففة و المعنى: أنه لا ينالون شيئا مما ذكر من فضله و لا يتمكنون من نيله لأنهم لم يؤمنوا برسوله و هو مشروط بالإيمان به، أو لا يقدرون على شيء من فضله فضلا عن أن يتصرفوا في أعظمه و هو النبوة فيخصوها بمن أرادوا و يؤيده قوله: وَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ و قيل «لا» غير مزيدة، و المعنى لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبي و المؤمنون به على شيء من فضل اللّه و لا ينالونه، فيكون وَ أَنَّ الْفَضْلَ عطفا على لِئَلَّا يَعْلَمَ ، و قرئ «ليلا يعلم» و وجهه أن الهمزة حذفت و أدغمت النون في اللام ثم أبدلت ياء. و قرئ «ليلا» على أن الأصل في الحروف المفردة الفتح.