کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 195
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ توسعوا فيه و ليفسح بعضكم عن بعض من قولهم: افسح عني أي تنح، و قرئ «تفاسحوا» و المراد بالمجلس الجنس و يدل عليه قراءة عاصم بالجمع، أو مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فإنهم كانوا يتضامون به تنافسا على القرب منه و حرصا على استماع كلامه. فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ فيما تريدون التفسح فيه من المكان و الرزق و الصدر و غيرها. وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا انهضوا للتوسعة أو لما أمرتم به كصلاة أو جهاد، أو ارتفعوا عن المجلس. فَانْشُزُوا و قرأ نافع و ابن عامر و عاصم بضم الشين فيهما. يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ بالنصر و حسن الذكر في الدنيا، و إيوائهم غرف الجنان في الآخرة. وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ و يرفع العلماء منهم خاصة درجات بما جمعوا من العلم و العمل، فإن العلم مع علو درجته يقتضي العمل المقرون به مزيد رفعة، و لذلك يقتدى بالعالم في أفعاله و لا يقتدى بغيره.
و
في الحديث «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».
وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تهديد لمن لم يتمثل الأمر أو استكرهه.
[سورة المجادلة (58): الآيات 12 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً فتصدقوا قدامها مستعار ممن له يدان، و في هذا الأمر تعظيم الرسول و إنفاع الفقراء و النهي عن الإفراط في السؤال، و الميز بين المخلص و المنافق و محب الآخرة و محب الدنيا، و اختلف في أنه للندب أو للوجوب لكنه منسوخ بقوله: أَ أَشْفَقْتُمْ و هو و إن اتصل به تلاوة لم يتصل به نزولا. و
عن علي كرم اللّه وجهه إن في كتاب اللّه آية ما عمل بها أحد غيري، كان لي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم.
و هو على القول بالوجوب لا يقدح في غيره فلعله لم يتفق للأغنياء مناجاة في مدة بقائه، إذ
روي أنه لم يبق إلا عشرا
و قيل إلا ساعة. ذلِكَ أي ذلك التصدق. خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ أي لأنفسكم من الريبة و حب المال و هو يشعر بالندبية لكن قوله: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن لم يجده حيث رخص له في المناجاة بلا تصدق أدل على الوجوب.
أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ أخفتم الفقر من تقديم الصدقة أو أخفتم التقديم لما يعدكم الشيطان عليه من الفقر و جمع صَدَقاتٍ لجمع المخاطبين، أو لكثرة التناجي. فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن رخص لكم أن لا تفعلوه، و فيه إشعار بأن إشفاقهم ذنب تجاوز اللّه عنه لما رأى منهم مما قام مقام توبتهم و إذ على بابها و قيل بمعنى إذا أو إن. فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ . فلا تفرطوا في أدائهما.
وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في سائر الأوامر، فإن القيام بها كالجابر للتفريط في ذلك. وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ظاهرا و باطنا.
[سورة المجادلة (58): الآيات 14 الى 15]
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا والوا. قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني اليهود: ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لا مِنْهُمْ لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك. وَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ و هو ادعاء الإسلام. وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أن المحلوف عليه كذب كمن يحلف بالغموس، و في هذا التقييد دليل على أن الكذب يعم ما يعلم المخبر عدم مطابقته و ما لا
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 196
يعلم. و
روي أنه عليه السلام كان في حجرة من حجراته فقال «يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار و ينظر بعين شيطان، فدخل عبد الله بن نبتل المنافق و كان أزرق فقال عليه الصلاة و السلام له: علام تشتمني أنت و أصحابك، فحلف باللّه ما فعل ثم جاء بأصحابه فحلفوا فنزلت».
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً نوعا من العذاب متفاقما. إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فتمرنوا على سوء العمل و أصروا عليه.
[سورة المجادلة (58): الآيات 16 الى 17]
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ أي التي حلفوا بها، و قرئ بالكسر أي «إيمانهم» الذي أظهروه. جُنَّةً وقاية دون دمائهم و أموالهم. فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فصدوا الناس في خلال أمنهم عن دين اللّه بالتحريش و التثبيط.
فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وعيد ثان بوصف آخر لعذابهم. و قيل الأول عذاب القبر و هذا عذاب الآخرة.
[سورة المجادلة (58): الآيات 18 الى 19]
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ أي للّه تعالى على أنهم مسلمون. كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ في الدنيا و يقولون إنهم لمنكم. وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ في حلفهم الكاذب لأن تمكن النفاق في نفوسهم بحيث يخيل إليهم في الآخرة أن الأيمان الكاذبة تروج الكذب على اللّه كما تروجه عليكم في الدنيا. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ البالغون الغاية في الكذب حيث يكذبون مع عالم الغيب و الشهادة و يحلفون عليه.
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ استولى عليهم من حذت الإبل و أحذتها إذا استوليت عليها، و هو مما جاء على الأصل. فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ لا يذكرونه بقلوبهم و لا بألسنتهم. أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ جنوده و أتباعه.
أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ لأنهم فوتوا على أنفسهم النعيم المؤبد و عرضوها للعذاب المخلد.
[سورة المجادلة (58): الآيات 20 الى 21]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ في جملة من هو أذل خلق اللّه.
كَتَبَ اللَّهُ في اللوح. لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي أي بالحجة، و قرأ نافع و ابن عامر رُسُلِي بفتح الياء.
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌ على نصر أنبيائه. عَزِيزٌ لا يغلب عليه شيء في مراده.
[سورة المجادلة (58): آية 22]
لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي لا ينبغي أن تجدهم وادين
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 197
أعداء اللّه، و المراد أنه لا ينبغي أن يوادوهم. وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ و لو كان المحادون أقرب الناس إليهم. أُولئِكَ أي الذين لم يوادوهم. كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أثبته فيها، و هو دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان، فإن جزء الثابت في القلب يكون ثابتا فيه، و أعمال الجوارح لا تثبت فيه. وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ أي من عند اللّه و هو نور القلب أو القرآن، أو بالنصر على العدو. قيل الضمير ل الْإِيمانَ فإنه سبب لحياة القلب. وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بطاعتهم. وَ رَضُوا عَنْهُ بقضائه أو بما وعدهم من الثواب. أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ جنده و أنصار دينه. أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بخير الدارين.
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم «من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب اللّه يوم القيامة».
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 198
(59) سورة الحشر
مدينة و آيها أربع و عشرون آية
[سورة الحشر (59): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
روي «أنه عليه السلام لما قدم المدينة صالح بني النضير على أن لا يكونوا له و لا عليه، فلما ظهر يوم بدر قالوا: إنه النبي المنعوت في التوراة بالنصرة، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا و نكثوا و خرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة و حالفوا أبا سفيان، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أخا كعب من الرضاعة فقتله غيلة، ثم صبحهم بالكتائب و حاصرهم حتى صالحوا على الجلاء فجلا أكثرهم إلى الشام و لحقت طائفة بخيبر و الحيرة» فأنزل اللّه تعالى
سَبَّحَ لِلَّهِ إلى قوله: وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
[سورة الحشر (59): آية 2]
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ أي في أول حشرهم من جزيرة العرب إذ لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك، أو في أول حشرهم للقتال أو الجلاء إلى الشأم، و آخر حشرهم إجلاء عمر رضي اللّه تعالى عنه إياهم من خيبر إليه، أو في أول حشر الناس إلى الشأم و آخر حشرهم أنهم يحشرون إليه عند قيام الساعة فيدركهم هناك، أو أن نارا تخرج من المشرق فتحشرهم إلى المغرب. و الحشر إخراج جمع من مكان إلى آخر. ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا لشدة بأسهم و منعتهم. وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي أن حصونهم تمنعهم من بأس اللّه، و تغيير النظم و تقديم الخبر و إسناد الجملة إلى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بحصانتها و اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة و منعة بسببها، و يجوز أن تكون حُصُونُهُمْ فاعلا ل مانِعَتُهُمْ . فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي عذابه و هو الرعب و الاضطرار إلى الجلاء، و قيل الضمير ل الْمُؤْمِنِينَ أي فأتاهم نصر اللّه، و قرئ «فآتاهم اللّه» أي العذاب أو النصر. مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا لقوة وثوقهم. وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ و أثبت فيها الخوف الذي يرعبها أي يملؤها. يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ضنا بها على المسلمين و إخراجا لما استحسنوا من آلاتها. وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فإنهم أيضا كانوا يخربون ظواهرها نكاية و توسيعا لمجال القتال. و عطفها على «أيديهم» من حيث إن تخريب المؤمنين مسبب عن نقضهم فكأنهم استعملوهم فيه، و الجملة حال أو تفسير ل الرُّعْبَ . و قرأ أبو عمرو يُخْرِبُونَ بالتشديد و هو أبلغ لما فيه من التكثير. و قيل الإخراب التعطيل أو ترك الشيء خرابا و التخريب الهدم.
فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ فاتعظوا بحالهم فلا تغدروا و لا تعتمدوا على غير اللّه، و استدل به على أن القياس حجة من حيث إنه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال و حملها عليها في حكم لما بينهما من المشاركة المقتضية
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 199
له على ما قررناه في الكتب الأصولية.
[سورة الحشر (59): الآيات 3 الى 4]
وَ لَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ الخروج من أوطانهم. لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل و السبي كما فعل ببني قريظة. وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ استئناف معناه أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ الإشارة إلى ما ذكر مما حاق بهم و ما كانوا بصدده و ما هو معد لهم أو إلى الأخير.
[سورة الحشر (59): آية 5]
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أي شيء قطعتم من نخلة فعلة من اللون و يجمع على ألوان، و قيل من اللين و معناها النخلة الكريمة و جمعها أليان. أَوْ تَرَكْتُمُوها الضمير لما و تأنيثه لأنه مفسر باللينة. قائِمَةً عَلى أُصُولِها و قرئ «أصلها» اكتفاء بالضمة عن الواو أو على أنه كرهن. فَبِإِذْنِ اللَّهِ فبأمره. وَ لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ علة لمحذوف أي و فعلتم أو و أذن لكم في القطع ليجزيهم على فسقهم بما غاظهم منه.
روي أنه عليه السلام لما أمر بقطع نخيلهم قالوا: قد كنت يا محمد تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل و تحريقها فنزلت.
و استدل به على جواز هدم ديار الكفار و قطع أشجارهم زيادة لغيظهم.
[سورة الحشر (59): آية 6]
وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ و ما أعاده عليه بمعنى صيره له أو رده عليه، فإنه كان حقيقا بأن يكون له لأنه تعالى خلق الناس لعبادته و خلق ما خلق لهم ليتوسلوا به إلى طاعته فهو جدير بأن يكون للمطيعين.
مِنْهُمْ من بني النضير أو من الكفرة. فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ فما أجريتم على تحصيله من الوجيف و هو سرعة السير. مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ ما يركب من الإبل غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه، و ذلك إن كان المراد فيء بني النضير، فلأن قراهم كانت على ميلين من المدينة فمشوا إليها رجالا غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فإنه ركب جملا أو حمارا، و لم يجر مزيد قتال و لذلك لم يعط الأنصار منه شيئا إلا ثلاثة كانت بهم حاجة.
وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ بقذف الرعب في قلوبهم. وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يريد تارة بالوسائط الظاهرة و تارة بغيرها.
[سورة الحشر (59): آية 7]
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى بيان للأول و لذلك لم يعطف عليه. فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ اختلف في قسم الفيء، فقيل يسدس لظاهر الآية و يصرف سهم اللّه في عمارة الكعبة و سائر المساجد، و قيل يخمس لأن ذكر اللّه للتعظيم و يصرف الآن سهم الرسول عليه الصلاة
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 200
و السلام إلى الإمام على قول و إلى العساكر و الثغور على قول و إلى مصالح المسلمين على قول. و قيل يخمس خمسه كالغنيمة فإنه عليه الصلاة و السلام كان يقسم الخمس كذلك و يصرف الأخماس الأربعة كما يشاء و الآن على الخلاف المذكور. كَيْ لا يَكُونَ أي الفيء الذي حقه أن يكون للفقراء. و قرأ هشام في رواية بالتاء.
دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ الدولة ما يتداوله الأغنياء و يدور بينهم كما كان في الجاهلية، و قرئ «دولة» بمعنى كيلا يكون الفيء ذا تداول بينهم أو أخذه غلبة تكون بينهم، و قرأ هشام دُولَةً بالرفع على كان التامة أي كيلا يقع دولة جاهلية. وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ و ما أعطاكم من الفيء أو من الأمر. فَخُذُوهُ لأنه حلال لكم، أو فتمسكوا به لأنه واجب الطاعة. وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ عن أخذه منه، أو عن إتيانه. فَانْتَهُوا عنه. وَ اتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة رسوله. إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن خالفه.
[سورة الحشر (59): آية 8]
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ بدل من لِذِي الْقُرْبى و ما عطف عليه فإن الرَّسُولُ لا يسمى فقيرا، و من أعطى أغنياء ذوي القربى خصص الإبدال بما بعده، أو الفيء بفيء بني النضير. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ فإن كفار مكة أخرجوهم و أخذوا أموالهم. يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً حال مقيدة لإخراجهم بما يوجب تفخيم شأنهم. وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ بأنفسهم و أموالهم. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في إيمانهم.
[سورة الحشر (59): الآيات 9 الى 10]
وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ عطف على المهاجرين، و المراد بهم الأنصار الذين ظهر صدقهم فإنهم لزموا المدينة و الإيمان و تمكنوا فيهما، و قيل المعنى تبؤوا دار الهجرة و دار الإيمان فحذف المضاف من الثاني و المضاف إليه من الأول و عوض عنه اللام، أو تبؤوا الدار و أخلصوا الإيمان كقوله: علّفتها تبنا و ماء باردا.
و قيل سمى المدينة بالإيمان لأنها مظهره و مصيره. مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل هجرة المهاجرين. و قيل تقدير الكلام و الذين تبؤوا الدار من قبلهم و الإيمان. يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ و لا يثقل عليهم. وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ في أنفسهم. حاجَةً ما تحمل عليه الحاجة كالطلب و الحزازة و الحسد و الغيظ. مِمَّا أُوتُوا مما أعطي المهاجرون من الفيء و غيره. وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ و يقدمون المهاجرين على أنفسهم حتى إن من كان عنده امرأتان نزل عن واحدة و زوجها من أحدهم. وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ حاجة من خصاص البناء و هي فرجة. وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال و بغض الإنفاق. فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالثناء العاجل و الثواب الآجل.
وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ هم الذين هاجروا حين قوي الإسلام، أو التابعون بإحسان و هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة و لذلك قيل: إن الآية قد استوعبت جميع المؤمنين. يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ أي لإخواننا في الدين. وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا حقدا لهم.
رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فحقيق بأن تجيب دعاءنا.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 201
[سورة الحشر (59): الآيات 11 الى 12]
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يريد الذين بينهم و بينهم أخوة الكفر أو الصداقة و الموالاة. لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من دياركم. لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ في قتالكم أو خذلانكم. أَحَداً أَبَداً أي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و المؤمنين. وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ لنعاوننكم. وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لعلمه بأنهم لا يفعلون ذلك كما قال:
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ و كان كذلك فإن ابن أبي و أصحابه راسلوا بني النضير بذلك ثم أخلفوهم، و فيه دليل على صحة النبوة و إعجاز القرآن. وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ على الفرض و التقدير. لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ انهزاما. ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ بعد بل يخذلهم اللّه و لا ينفعهم نصرة المنافقين، أو نفاقهم إذ ضمير الفعلين يحتمل أن يكون لليهود و أن يكون للمنافقين.
[سورة الحشر (59): الآيات 13 الى 14]
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً أي أشد مرهوبية مصدر للفعل المبني للمفعول. فِي صُدُورِهِمْ فإنهم كانوا يضمرون مخافتهم من المؤمنين. مِنَ اللَّهِ على ما يظهرونه نفاقا فإن استبطان رهبتكم سبب لإظهار رهبة اللّه. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ لا يعلمون عظمة اللّه حتى يخشوه حق خشيته و يعلموا أنه الحقيق بأن يخشى.
لا يُقاتِلُونَكُمْ اليهود و المنافقون. جَمِيعاً مجتمعين متفقين. إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ بالدروب و الخنادق. أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ لفرط رهبتهم، و قرأ ابن كثير و أبو عمرو «جدار» و أمال أبو عمرو فتحة الدال.
بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي و ليس ذلك لضعفهم و جبنهم فإنه يشتد بأسهم إذا حارب بعضهم بعضا، بل لقذف اللّه الرعب في قلوبهم و لأن الشجاع يجبن و العزيز يذل إذا حارب اللّه و رسوله. تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً مجتمعين متفقين. وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى متفرقة لافتراق عقائدهم و اختلاف مقاصدهم. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ما فيه صلاحهم و إن تشتت القلوب يوهن قواهم.
[سورة الحشر (59): الآيات 15 الى 17]
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي مثل اليهود كمثل أهل بدر، أو بني قينقاع إن صح أنهم أخرجوا قبل النضير، أو المهلكين من الأمم الماضية. قَرِيباً في زمان قريب و انتصابه بمثل إذ التقدير كوجود مثل.
ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ سوء عاقبة كفرهم في الدنيا. وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.