کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 198
(59) سورة الحشر
مدينة و آيها أربع و عشرون آية
[سورة الحشر (59): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
روي «أنه عليه السلام لما قدم المدينة صالح بني النضير على أن لا يكونوا له و لا عليه، فلما ظهر يوم بدر قالوا: إنه النبي المنعوت في التوراة بالنصرة، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا و نكثوا و خرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة و حالفوا أبا سفيان، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أخا كعب من الرضاعة فقتله غيلة، ثم صبحهم بالكتائب و حاصرهم حتى صالحوا على الجلاء فجلا أكثرهم إلى الشام و لحقت طائفة بخيبر و الحيرة» فأنزل اللّه تعالى
سَبَّحَ لِلَّهِ إلى قوله: وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
[سورة الحشر (59): آية 2]
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ أي في أول حشرهم من جزيرة العرب إذ لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك، أو في أول حشرهم للقتال أو الجلاء إلى الشأم، و آخر حشرهم إجلاء عمر رضي اللّه تعالى عنه إياهم من خيبر إليه، أو في أول حشر الناس إلى الشأم و آخر حشرهم أنهم يحشرون إليه عند قيام الساعة فيدركهم هناك، أو أن نارا تخرج من المشرق فتحشرهم إلى المغرب. و الحشر إخراج جمع من مكان إلى آخر. ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا لشدة بأسهم و منعتهم. وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي أن حصونهم تمنعهم من بأس اللّه، و تغيير النظم و تقديم الخبر و إسناد الجملة إلى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بحصانتها و اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة و منعة بسببها، و يجوز أن تكون حُصُونُهُمْ فاعلا ل مانِعَتُهُمْ . فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي عذابه و هو الرعب و الاضطرار إلى الجلاء، و قيل الضمير ل الْمُؤْمِنِينَ أي فأتاهم نصر اللّه، و قرئ «فآتاهم اللّه» أي العذاب أو النصر. مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا لقوة وثوقهم. وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ و أثبت فيها الخوف الذي يرعبها أي يملؤها. يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ضنا بها على المسلمين و إخراجا لما استحسنوا من آلاتها. وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فإنهم أيضا كانوا يخربون ظواهرها نكاية و توسيعا لمجال القتال. و عطفها على «أيديهم» من حيث إن تخريب المؤمنين مسبب عن نقضهم فكأنهم استعملوهم فيه، و الجملة حال أو تفسير ل الرُّعْبَ . و قرأ أبو عمرو يُخْرِبُونَ بالتشديد و هو أبلغ لما فيه من التكثير. و قيل الإخراب التعطيل أو ترك الشيء خرابا و التخريب الهدم.
فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ فاتعظوا بحالهم فلا تغدروا و لا تعتمدوا على غير اللّه، و استدل به على أن القياس حجة من حيث إنه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال و حملها عليها في حكم لما بينهما من المشاركة المقتضية
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 199
له على ما قررناه في الكتب الأصولية.
[سورة الحشر (59): الآيات 3 الى 4]
وَ لَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ الخروج من أوطانهم. لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل و السبي كما فعل ببني قريظة. وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ استئناف معناه أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ الإشارة إلى ما ذكر مما حاق بهم و ما كانوا بصدده و ما هو معد لهم أو إلى الأخير.
[سورة الحشر (59): آية 5]
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أي شيء قطعتم من نخلة فعلة من اللون و يجمع على ألوان، و قيل من اللين و معناها النخلة الكريمة و جمعها أليان. أَوْ تَرَكْتُمُوها الضمير لما و تأنيثه لأنه مفسر باللينة. قائِمَةً عَلى أُصُولِها و قرئ «أصلها» اكتفاء بالضمة عن الواو أو على أنه كرهن. فَبِإِذْنِ اللَّهِ فبأمره. وَ لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ علة لمحذوف أي و فعلتم أو و أذن لكم في القطع ليجزيهم على فسقهم بما غاظهم منه.
روي أنه عليه السلام لما أمر بقطع نخيلهم قالوا: قد كنت يا محمد تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل و تحريقها فنزلت.
و استدل به على جواز هدم ديار الكفار و قطع أشجارهم زيادة لغيظهم.
[سورة الحشر (59): آية 6]
وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ و ما أعاده عليه بمعنى صيره له أو رده عليه، فإنه كان حقيقا بأن يكون له لأنه تعالى خلق الناس لعبادته و خلق ما خلق لهم ليتوسلوا به إلى طاعته فهو جدير بأن يكون للمطيعين.
مِنْهُمْ من بني النضير أو من الكفرة. فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ فما أجريتم على تحصيله من الوجيف و هو سرعة السير. مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ ما يركب من الإبل غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه، و ذلك إن كان المراد فيء بني النضير، فلأن قراهم كانت على ميلين من المدينة فمشوا إليها رجالا غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فإنه ركب جملا أو حمارا، و لم يجر مزيد قتال و لذلك لم يعط الأنصار منه شيئا إلا ثلاثة كانت بهم حاجة.
وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ بقذف الرعب في قلوبهم. وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يريد تارة بالوسائط الظاهرة و تارة بغيرها.
[سورة الحشر (59): آية 7]
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى بيان للأول و لذلك لم يعطف عليه. فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ اختلف في قسم الفيء، فقيل يسدس لظاهر الآية و يصرف سهم اللّه في عمارة الكعبة و سائر المساجد، و قيل يخمس لأن ذكر اللّه للتعظيم و يصرف الآن سهم الرسول عليه الصلاة
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 200
و السلام إلى الإمام على قول و إلى العساكر و الثغور على قول و إلى مصالح المسلمين على قول. و قيل يخمس خمسه كالغنيمة فإنه عليه الصلاة و السلام كان يقسم الخمس كذلك و يصرف الأخماس الأربعة كما يشاء و الآن على الخلاف المذكور. كَيْ لا يَكُونَ أي الفيء الذي حقه أن يكون للفقراء. و قرأ هشام في رواية بالتاء.
دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ الدولة ما يتداوله الأغنياء و يدور بينهم كما كان في الجاهلية، و قرئ «دولة» بمعنى كيلا يكون الفيء ذا تداول بينهم أو أخذه غلبة تكون بينهم، و قرأ هشام دُولَةً بالرفع على كان التامة أي كيلا يقع دولة جاهلية. وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ و ما أعطاكم من الفيء أو من الأمر. فَخُذُوهُ لأنه حلال لكم، أو فتمسكوا به لأنه واجب الطاعة. وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ عن أخذه منه، أو عن إتيانه. فَانْتَهُوا عنه. وَ اتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة رسوله. إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن خالفه.
[سورة الحشر (59): آية 8]
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ بدل من لِذِي الْقُرْبى و ما عطف عليه فإن الرَّسُولُ لا يسمى فقيرا، و من أعطى أغنياء ذوي القربى خصص الإبدال بما بعده، أو الفيء بفيء بني النضير. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ فإن كفار مكة أخرجوهم و أخذوا أموالهم. يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً حال مقيدة لإخراجهم بما يوجب تفخيم شأنهم. وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ بأنفسهم و أموالهم. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في إيمانهم.
[سورة الحشر (59): الآيات 9 الى 10]
وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ عطف على المهاجرين، و المراد بهم الأنصار الذين ظهر صدقهم فإنهم لزموا المدينة و الإيمان و تمكنوا فيهما، و قيل المعنى تبؤوا دار الهجرة و دار الإيمان فحذف المضاف من الثاني و المضاف إليه من الأول و عوض عنه اللام، أو تبؤوا الدار و أخلصوا الإيمان كقوله: علّفتها تبنا و ماء باردا.
و قيل سمى المدينة بالإيمان لأنها مظهره و مصيره. مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل هجرة المهاجرين. و قيل تقدير الكلام و الذين تبؤوا الدار من قبلهم و الإيمان. يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ و لا يثقل عليهم. وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ في أنفسهم. حاجَةً ما تحمل عليه الحاجة كالطلب و الحزازة و الحسد و الغيظ. مِمَّا أُوتُوا مما أعطي المهاجرون من الفيء و غيره. وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ و يقدمون المهاجرين على أنفسهم حتى إن من كان عنده امرأتان نزل عن واحدة و زوجها من أحدهم. وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ حاجة من خصاص البناء و هي فرجة. وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال و بغض الإنفاق. فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالثناء العاجل و الثواب الآجل.
وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ هم الذين هاجروا حين قوي الإسلام، أو التابعون بإحسان و هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة و لذلك قيل: إن الآية قد استوعبت جميع المؤمنين. يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ أي لإخواننا في الدين. وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا حقدا لهم.
رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فحقيق بأن تجيب دعاءنا.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 201
[سورة الحشر (59): الآيات 11 الى 12]
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يريد الذين بينهم و بينهم أخوة الكفر أو الصداقة و الموالاة. لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من دياركم. لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ في قتالكم أو خذلانكم. أَحَداً أَبَداً أي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و المؤمنين. وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ لنعاوننكم. وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لعلمه بأنهم لا يفعلون ذلك كما قال:
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ و كان كذلك فإن ابن أبي و أصحابه راسلوا بني النضير بذلك ثم أخلفوهم، و فيه دليل على صحة النبوة و إعجاز القرآن. وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ على الفرض و التقدير. لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ انهزاما. ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ بعد بل يخذلهم اللّه و لا ينفعهم نصرة المنافقين، أو نفاقهم إذ ضمير الفعلين يحتمل أن يكون لليهود و أن يكون للمنافقين.
[سورة الحشر (59): الآيات 13 الى 14]
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً أي أشد مرهوبية مصدر للفعل المبني للمفعول. فِي صُدُورِهِمْ فإنهم كانوا يضمرون مخافتهم من المؤمنين. مِنَ اللَّهِ على ما يظهرونه نفاقا فإن استبطان رهبتكم سبب لإظهار رهبة اللّه. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ لا يعلمون عظمة اللّه حتى يخشوه حق خشيته و يعلموا أنه الحقيق بأن يخشى.
لا يُقاتِلُونَكُمْ اليهود و المنافقون. جَمِيعاً مجتمعين متفقين. إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ بالدروب و الخنادق. أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ لفرط رهبتهم، و قرأ ابن كثير و أبو عمرو «جدار» و أمال أبو عمرو فتحة الدال.
بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي و ليس ذلك لضعفهم و جبنهم فإنه يشتد بأسهم إذا حارب بعضهم بعضا، بل لقذف اللّه الرعب في قلوبهم و لأن الشجاع يجبن و العزيز يذل إذا حارب اللّه و رسوله. تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً مجتمعين متفقين. وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى متفرقة لافتراق عقائدهم و اختلاف مقاصدهم. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ما فيه صلاحهم و إن تشتت القلوب يوهن قواهم.
[سورة الحشر (59): الآيات 15 الى 17]
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي مثل اليهود كمثل أهل بدر، أو بني قينقاع إن صح أنهم أخرجوا قبل النضير، أو المهلكين من الأمم الماضية. قَرِيباً في زمان قريب و انتصابه بمثل إذ التقدير كوجود مثل.
ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ سوء عاقبة كفرهم في الدنيا. وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ أي مثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال كمثل الشيطان. إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ أغراه على الكفر إغراء الآمر المأمور. فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ تبرأ عنه
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 202
مخافة أن يشاركه في العذاب و لم ينفعه ذلك كما قال.
فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ و المراد من الإنسان الجنس. و قيل أبو جهل قال له إبليس يوم بدر لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ* الآية. و قيل راهب حمله على الفجور و الارتداد و قرئ «عاقبتهما» و «خالدان» على أنه خبر إن و فِي النَّارِ لغو.
[سورة الحشر (59): الآيات 18 الى 20]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ ليوم القيامة سماه به لدنوه أو لأن الدنيا كيوم و الآخرة كغده، و تنكيره للتعظيم و أما تنكير النفس فلاستقلال الأنفس النواظر فيما قدمن للآخرة كأنه قال:
فلتنظر نفس واحدة في ذلك. وَ اتَّقُوا اللَّهَ تكرير للتأكيد، أو الأول في أداء الواجبات لأنه مقرون بالعمل و الثاني في ترك المحارم لاقترانه بقوله: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ و هو كالوعيد على المعاصي.
وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ نسوا حقه. فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ فجعلهم ناسين لها حتى لم يسمعوا ما ينفعها و لم يفعلوا ما يخلصها، أو أراهم يوم القيامة من الهول ما أنساهم أنفسهم. أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون في الفسوق.
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ الذين استكملوا نفوسهم فاستأهلوا للجنة و الذين استمهنوها فاستحقوا النار، و احتج به أصحابنا على أن المسلم لا يقتل بالكافر. أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ بالنعيم المقيم.
[سورة الحشر (59): الآيات 21 الى 22]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تمثيل و تخييل كما مر في قوله:
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ و لذلك عقبه بقوله: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فإن الإشارة إليه و إلى أمثاله. و المراد توبيخ الإنسان على عدم تخشعه عند تلاوة القرآن لقساوة قلبه و قلة تدبره، و التصدع التشقق.
و قرئ «مصدعا» على الإدغام.
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ما غاب عن الحس من الجواهر القدسية و أحوالها، و ما حضر له من الأجرام و أعراضها، و تقديم الْغَيْبِ لتقدمه في الوجود و تعلق العلم القديم به، أو المعدوم و الموجود، أو السر و العلانية. و قيل الدنيا و الآخرة. هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ .
[سورة الحشر (59): الآيات 23 الى 24]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ البالغ في النزاهة عما يوجب نقصانا. و قرئ بالفتح و هو لغة فيه. السَّلامُ ذو السلامة من كل نقص و آفة، مصدر وصف به للمبالغة. الْمُؤْمِنُ واهب الأمن،
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 203
و قرئ بالفتح بمعنى المؤمن به على حذف الجار. الْمُهَيْمِنُ الرقيب الحافظ لكل شيء مفيعل من الأمن قلبت همزته هاء. الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الذي جبر خلقه على ما أراده، أو جبر حالهم بمعنى أصلحه. الْمُتَكَبِّرُ الذي تكبر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصانا. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ إذ لا يشركه في شيء من ذلك.
هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ المقدر للأشياء على مقتضى حكمته. الْبارِئُ الموجد لها بريئا من التفاوت.
الْمُصَوِّرُ الموجد لصورها و كيفياتها كما أراد. (و من أراد الإطناب في شرح هذه الأسماء و أخواتها فعليه بكتابي المسمى ب «منتهى المنى». لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى لأنها دالة على محاسن المعاني. يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لتنزهه عن النقائص كلها. وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الجامع للكمالات بأسرها فإنها راجعة إلى الكمال في القدرة و العلم.
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم «من قرأ سورة الحشر غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر».
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 204
(60) سورة الممتحنة
مدينة و آيها ثلاث عشرة آية
[سورة الممتحنة (60): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ
نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، فإنه لما علم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يغزو أهل مكة كتب إليهم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يريدكم فخذوا حذركم، و أرسل كتابه مع سارة مولاة بني المطلب، فنزل جبريل عليه السلام فأعلم رسول اللّه، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عليا و عمارا و طلحة و الزبير و المقداد و أبا مرثد و قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب حاطب إلى أهل مكة، فخذوه منها و خلوها فإن أبت فاضربوا عنقها، فأدركوها ثمة فجحدت فهموا بالرجوع، فسل علي رضي اللّه تعالى عنه السيف فأخرجته من عقاصها، فاستحضر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حاطبا و قال: ما حملك عليه؟ فقال: يا رسول اللّه ما كفرت منذ أسلمت و لا غششتك منذ نصحتك و لكني كنت امرأ ملصقا في قريش و ليس لي فيهم من يحمي أهلي، فأردت أن آخذ عندهم يدا و قد علمت أن كتابي لا يغني عنهم شيئا، فصدقه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و عذره.
تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ تفضون إليهم المودة بالمكاتبة، و الباء مزيدة أو أخبار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بسبب المودة، و الجملة حال من فاعل لا تَتَّخِذُوا أو صفة لأولياء جرت على غير من هي له، و لا حاجة فيها إلى إبراز الضمير لأنه مشروط في الاسم دون الفعل. وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ حال من فاعل أحد الفعلين. يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ أي من مكة و هو حال من كَفَرُوا أو استئناف لبيانه. أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ بأن تؤمنوا به و فيه تغليب المخاطب و الالتفات من التكلم إلى الغيبة للدلالة على ما يوجب الإيمان.
إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ عن أوطانكم. جِهاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي علة للخروج و عمدة للتعليق و جواب الشرط محذوف دل عليه لا تَتَّخِذُوا . تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ بدل من تُلْقُونَ أو استئناف معناه: أي طائل لكم في إسرار المودة أو الإخبار بسبب المودة. وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ أي منكم. و قيل أَعْلَمُ مضارع و الباء مزيدة و «ما» موصولة أو مصدرية. وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ أي من يفعل الاتخاذ. فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أخطأه.
[سورة الممتحنة (60): الآيات 2 الى 3]