کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 245
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا لا يشوبه استعجال و اضطراب قلب و هو متعلق ب سَأَلَ لأن السؤال كان عن استهزاء أو تعنت و ذلك مما يضجره أو عن تضجر و استبطاء للنصر أو ب سَأَلَ لأن المعنى قرب وقوع العذاب فَاصْبِرْ فقد شارفت الانتقام.
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ الضمير للعذاب أو يوم القيامة بَعِيداً من الإمكان.
وَ نَراهُ قَرِيباً منه أو من الوقوع.
يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ظرف ل قَرِيباً أي يمكن يَوْمَ تَكُونُ أو لمضمر دل عليه واقِعٍ أو بدل من فِي يَوْمٍ إن علق به و المهل المذاب في «مهل» كالفلزات أو دردي الزيت.
وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ كالصوف المصبوغ ألوانا لأن الجبال مختلفة الألوان فإذا بست و طيرت في الجو أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح.
[سورة المعارج (70): الآيات 10 الى 14]
وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً و لا يسأل قريب قريبا عن حاله و عن ابن كثير وَ لا يَسْئَلُ على بناء المفعول أي لا يطلب من حميم حميم أو لا يسأل منه حاله.
يُبَصَّرُونَهُمْ استئناف أو حال تدل على أن المانع من هذا السؤال هو التشاغل دون الخفاء أو ما يغني عنه من مشاهدة الحال كبياض الوجه و سواده و جمع الضميرين لعموم الحميم. يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ حال من أحد الضميرين أو استئناف يدل على أن اشتغال كل مجرم بنفسه بحيث يتمنى أن يفتدي بأقرب الناس إليه و أعلقهم بقلبه فضلا أن يهتم بحاله و يسأل عنها و قرأ نافع و الكسائي بفتح ميم يَوْمِئِذٍ و قرئ بتنوين عَذابِ و نصب يَوْمِئِذٍ به لأنه بمعنى تعذيب.
وَ فَصِيلَتِهِ و عشيرته الذين فصل عنهم الَّتِي تُؤْوِيهِ تضمه في النسب أو عند الشدائد.
وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الثقلين أو الخلائق ثُمَّ يُنْجِيهِ عطف على يَفْتَدِي أي ثم ينجيه الافتداء و ثُمَ للاستبعاد.
[سورة المعارج (70): الآيات 15 الى 18]
كَلَّا ردع للمجرم عن الودادة و دلالة على أن الافتداء لا ينجيه إِنَّها الضمير للنار أو مبهم يفسره لَظى و هو خبر أو بدل أو للقصة و لَظى مبتدأ خبره.
نَزَّاعَةً لِلشَّوى و هو اللهب الخالص و قيل علم للنار منقول من اللظى بمعنى اللهب و قرأ حفص عن عاصم نَزَّاعَةً بالنصب على الاختصاص أو الحال المؤكدة أو المتنقلة على أن لَظى بمعنى متلظية و الشوى الأطراف أو جمع شواة و هي جلدة الرأس.
تَدْعُوا تجذب و تحضر كقول ذي الرمة:
تدعو أنفه الريب.
مجاز عن جذبها و إحضارها لمن فرّ عنها و قيل تدعو زبانيتها و قيل تدعو تهلك من قولهم دعاه اللّه إذا أهلكه مَنْ أَدْبَرَ عن الحق وَ تَوَلَّى عن الطاعة.
وَ جَمَعَ فَأَوْعى و جمع المال فجعله في وعاء و كنزه حرصا و تأميلا.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 246
[سورة المعارج (70): الآيات 19 الى 21]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً شديد الحرص قليل الصبر.
إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ الضر جَزُوعاً يكثر الجزع.
وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ السعة مَنُوعاً يبالغ بالإمساك و الأوصاف الثلاثة أحوال مقدرة أو محققة لأنها طبائع جبل الإنسان عليها و إِذا الأولى ظرف ل جَزُوعاً و الأخرى ل مَنُوعاً .
[سورة المعارج (70): الآيات 22 الى 26]
إِلَّا الْمُصَلِّينَ استثناء للموصوفين بالصفات المذكورة بعد من المطبوعين على الأحوال المذكورة قبل لمضادة تلك الصفات لها من حيث إنها دالة على الاستغراق في طاعة الحق و الإشفاق على الخلق و الإيمان بالجزاء و الخوف من العقوبة و كسر الشهوة و إيثار الآجل على العاجل و تلك ناشئة من الانهماك في حب العاجل و قصور النظر عليها.
الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ لا يشغلهم عنها شاغل.
وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ كالزكوات و الصدقات الموظفة.
لِلسَّائِلِ الذي يسأل وَ الْمَحْرُومِ الذي لا يسأل فيحسب نفسه غنيا فيحرم.
وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ تصديقا بأعمالهم و هو أن يتعب نفسه و يصرف ماله طمعا في المثوبة الأخروية و لذلك ذكر الدِّينِ .
[سورة المعارج (70): الآيات 27 الى 31]
وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ خائفون على أنفسهم.
إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ اعتراض يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذاب اللّه و إن بالغ في طاعته.
وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ سبق تفسيره في سورة «المؤمنين».
[سورة المعارج (70): الآيات 32 الى 35]
وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ حافظون و قرأ ابن كثير لأمانتهم يعني لا يخونون و لا ينكرون و لا يخفون ما علموه من حقوق اللّه و حقوق العباد.
و الّذين هم بشهادتهم قائمون و قرأ يعقوب و حفص بِشَهاداتِهِمْ لاختلاف الأنواع.
وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ فيراعون شرائطها و يكملون فرائضها و سننها و تكرير ذكر الصلاة و وصفهم بها أولا و آخرا باعتبارين للدلالة على فضلها و إنافتها على غيرها و في نظم هذه الصلاة مبالغات لا تخفى.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 247
أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ بثواب اللّه تعالى.
[سورة المعارج (70): الآيات 36 الى 38]
فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ حولك مُهْطِعِينَ مسرعين.
عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ فرقا شتى جمع عزة و أصلها عزوة من العزو و كأن كل فرقة تعتزى إلى غير من تعتزى إليه الأخرى. كان المشركون يحتفون حول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حلقا حلقا و يستهزئون بكلامه.
أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ بلا إيمان و هو إنكار لقولهم لو صح ما يقوله لنكون فيها أفضل حظا منهم كما في الدنيا.
[سورة المعارج (70): الآيات 39 الى 41]
كَلَّا ردع لهم عن هذا الطمع إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ تعليل له و المعنى أنهم مخلقون من نطفة مذرة لا تناسب عالم القدس فمن لم يستكمل بالإيمان و الطاعة و لم يتخلق بالأخلاق الملكية لم يستعد لدخولها أو إنكم مخلوقون من أجل ما تعلمون و هو تكميل النفس بالعلم و العمل فمن لم يستكملها لم يتبوأ في منازل الكاملين أو الاستدلال بالنشأة الأولى على إمكان النشأة الثانية التي بنوا الطمع على فرضها فرضا مستحيلا عندهم بعد ردعهم عنه.
فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ أي نهلكهم و نأتي بخلق أمثل منهم أو نعطي محمدا بدلكم من هو خير منكم و هم الأنصار. وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ بمغلوبين إن أردنا ذلك.
[سورة المعارج (70): الآيات 42 الى 44]
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ مر في آخر سورة «الطور».
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً مسرعين جمع سريع كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ منصوب للعبادة أو علم يُوفِضُونَ يسرعون و قرأ ابن عامر و حفص إِلى نُصُبٍ بضم النون و الصاد و الباقون من السبعة نُصُبٍ بفتح النون و سكون الصاد و قرئ بالضم على أنه تخفيف نُصُبٍ أو جمع.
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مر تفسيره ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ في الدنيا.
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم «من قرأ سورة سَأَلَ سائِلٌ أعطاه اللّه ثواب الذين هم لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ ».
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 248
(71) سورة نوح
مكية و آيها تسع أو ثمان و عشرون آية
[سورة نوح (71): الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ أي بأن أي بالإنذار، أو بأن قلنا له أَنْذِرْ ، و يجوز أن تكون مفسرة لتضمن الإرسال معنى القول، و قرئ بغير أَنْ على إرادة القول. قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ عذاب الآخرة أو الطوفان.
قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ مر في «الشعراء» نظيره و في أَنِ يحتمل الوجهان.
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ يغفر لكم بعض ذنوبكم و هو ما سبق فإن الإسلام يجبه فلا يؤاخذكم به في الآخرة وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو أقصى ما قدّر لكم بشرط الإيمان و الطاعة. إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إن الأجل الذي قدره. إِذا جاءَ على الوجه المقدر به آجلا و قيل إذا جاء الأجل الأطول. لا يُؤَخَّرُ فبادروا في أوقات الإمهال و التأخير. لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لو كنتم من أهل العلم و النظر لعلمتم ذلك، و فيه أنهم لانهماكهم في حب الحياة كأنهم شاكون في الموت.
[سورة نوح (71): الآيات 5 الى 9]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً أي دائما.
فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً عن الإيمان و الطاعة، و إسناد الزيادة إلى الدعاء على السببية كقوله:
وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ إلى الإيمان. لِتَغْفِرَ لَهُمْ بسببه. جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة. وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ تغطوا بها لئلا يروني كراهة النظر إلي من فرط كراهة دعوتي أو لئلا أعرفهم فأدعوهم، و التعبير بصيغة الطلب للمبالغة. وَ أَصَرُّوا و أكبوا على الكفر و المعاصي مستعار من أصر الحمار على العانة إذا صر أذنيه و أقبل عليها. وَ اسْتَكْبَرُوا عن اتباعي. اسْتِكْباراً عظيما.
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً أي دعوتهم مرة بعد أخرى و كرة بعد أولى على أي وجه أمكنني، و ثُمَ لتفاوت الوجوه فإن الجهار أغلظ من الإسرار و الجمع بينهما أغلظ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 249
من الإفراد لتراخي بعضها عن بعض، و جِهاراً نصب على المصدر لأنه أحد نوعي الدعاء، أو صفة مصدر محذوف بمعنى دعاء جِهاراً أي مجاهرا به أو الحال فيكون بمعنى مجاهرا.
[سورة نوح (71): الآيات 10 الى 12]
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ بالتوبة عن الكفر. إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً للتائبين و كأنهم لما أمرهم بالعبادة قالوا:
إن كنا على حق فلا نتركه و إن كنا على باطل فكيف يقبلنا و يلطف بنا من عصيناه، فأمرهم بما يجب معاصيهم و يجلب إليهم المنح و لذلك وعدهم عليه ما هو أوقع في قلوبهم. و قيل لما طالت دعوتهم و تمادى إصرارهم حبس اللّه عنهم القطر أربعين سنة، و أعقم أرحام نسائهم فوعدهم بذلك على الاستغفار عما كانوا عليه بقوله:
يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً و لذلك شرع الاستغفار في الاستسقاء. و السَّماءَ تحتمل المظلة و السحاب، و المدرار كثير الدرور و يستوي في هذا البناء المذكر و المؤنث، و المراد بال جَنَّاتٍ البساتين.
[سورة نوح (71): الآيات 13 الى 14]
ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)
ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً لا تأملون له توقيرا أي تعظيما لمن عبده و أطاعه فتكونوا على حال تأملون فيها تعظيمها إياكم، و لِلَّهِ بيان للموقر و لو تأخر لكان صلة للوقار، أو لا تعتقدون له عظمة فتخافوا عصيانه، و إنما عبر عن الاعتقاد بالرجاء التابع لأدنى الظن مبالغة.
وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً حال مقررة للإنكار من حيث إنها موجبة للرجاء فإنه خلقهم أَطْواراً أي تارات، إذ خلقهم أولا عناصر، ثم مركبات تغذى بها الإنسان، ثم أخلاطا، ثم نطفا، ثم علقا، ثم مضغا، ثم عظاما و لحوما، ثم أنشأهم خلقا آخر، فإنه يدل على أنه يمكن أن يعيدهم تارة أخرى فيعظمهم بالثواب و على أنه تعالى عظيم القدرة تام الحكمة، ثم أتبع ذلك ما يؤيده من آيات الآفاق فقال.
[سورة نوح (71): الآيات 15 الى 16]
أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً أي في السموات و هو في السماء الدنيا و إنما نسب إليهن لما بينهن من الملابسة. وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً مثلها به لأنها تزيل ظلمة الليل عن وجه الأرض كما يزيلها السراج عما حوله.
[سورة نوح (71): الآيات 17 الى 20]
وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً أنشأكم منها فاستعير الإنبات للإنشاء لأنه أدل على الحدوث و التكون من الأرض، و أصله أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ إنباتا فنبتم نباتا، فاختصره اكتفاء بالدلالة الالتزامية.
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها مقبورين. وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً بالحشر، و أكده بالمصدر كما أكد به الأول دلالة على أن الإعادة محققة كالإبداء، و أنها تكون لا محالة.
وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً تتقلبون عليها.
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً واسعة جمع فج و من لتضمن الفعل معنى الاتخاذ.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 250
[سورة نوح (71): آية 21]
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي فيما أمرتهم به. وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَساراً و اتبعوا رؤساءهم البطرين بأموالهم المغترين بأولادهم بحيث صار ذلك سببا لزيادة خسارهم في الآخرة، و فيه أنهم إنما اتبعوهم لوجاهة حصلت لهم بالأموال و الأولاد و أدت بهم إلى الخسار، و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي و البصريان وَ وَلَدُهُ بالضم و السكون على أنه لغة كالحزن و الحزن أو جمع كالأسد.
[سورة نوح (71): الآيات 22 الى 23]
وَ مَكَرُوا عطف على لَمْ يَزِدْهُ و الضمير لمن و جمعه للمعنى. مَكْراً كُبَّاراً كبيرا في الغاية فإنه أبلغ من كبار و هو من كبير، و ذلك احتيالهم في الدين و تحريش الناس على أذى نوح.
وَ قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ أي عبادتها. وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً وَ لا تَذَرُنَ هؤلاء خصوصا، قيل هي أسماء رجال صالحين كانوا بين آدم و نوح فلما ماتوا صوروا تبركا بهم، فلما طال الزمان عبدوا. و قد انتقلت إلى العرب فكان ود لكلب، و سواع لهمدان، و يغوث لمذحج، و يعوق لمراد، و نسر لحمير. و قرأ نافع وَدًّا بالضم و قرئ «يغوثا» و «يعوقا» للتناسب، و منع صرفهما للعلمية و العجمة.
[سورة نوح (71): الآيات 24 الى 25]
وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً الضمير للرؤساء أو للأصنام كقوله: إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً . وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا عطف على رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ، و لعل المطلوب هو الضلال في ترويج مكرهم و مصالح دنياهم لا في أمر دينهم، أو الضياع و الهلاك كقوله: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ .
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ من أجل خطيئاتهم، و «ما» مزيدة للتأكيد و التفخيم، و قرأ أبو عمرو «مما خطاياهم».
أُغْرِقُوا بالطوفان. فَأُدْخِلُوا ناراً المراد عذاب القبر أو عذاب الآخرة، و التعقيب لعدم الاعتداد بما بين الإغراق و الإدخال، أو لأن المسبب كالمتعقب للسبب و إن تراخى عنه لفقد شرط أو وجود مانع، و تنكير النار للتعظيم أو لأن المراد نوع من النيران. فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً تعريض لهم باتخاذ آلهة من دون اللّه لا تقدر على نصرهم.
[سورة نوح (71): الآيات 26 الى 28]
وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً أي أحدا و هو مما يستعمل في النفي العام فيعال من الدار، أو الدور و أصله ديوار ففعل به ما فعل بأصل سيد الأفعال و إلا لكان دوارا.
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً قال ذلك لما جربهم و استقرى أحوالهم ألف سنة إلا خمسين عاما فعرف شيمهم و طباعهم.
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَ لملك بن متوشلح و شمخا بنت أنوش و كانا مؤمنين. وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ منزلي أو مسجدي أو سفينتي. مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ إلى يوم القيامة. وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً هلاكا.
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح».
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 251
(72) سورة الجن
مكية، و آيها ثمان و عشرون آية
[سورة الجن (72): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَ و قرئ «أحي» و أصله وحى من وحى إليه فقلبت الواو همزة لضمتها و وحى على الأصل و فاعله: أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ و النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة، و الْجِنِ أجسام عاقلة خفية يغلب عليهم النارية أو الهوائية. و قيل نوع من الأرواح المجردة و قيل نفوس بشرية مفارقة عن أبدانها، و فيه دلالة على أنه عليه الصلاة و السلام ما رآهم و لم يقرأ عليهم و إنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها فأخبر اللّه به رسوله. فَقالُوا لما رجعوا إلى قومهم. إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً كتابا. عَجَباً بديعا مباينا لكلام الناس في حسن نظمه و دقة معناه. و هو مصدر وصف به للمبالغة.
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ إلى الحق و الصواب. فَآمَنَّا بِهِ بالقرآن. وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً على ما نطق به الدلائل القاطعة على التوحيد.
[سورة الجن (72): الآيات 3 الى 5]
وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا قرأه ابن كثير و البصريان بالكسر على أنه من جملة المحكي بعد القول، و كذا ما بعده إلا قوله: وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا وَ أَنَّ الْمَساجِدَ ، وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ فإنها من جملة الموحى به و وافقهم نافع و أبو بكر إلا في قوله: وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ على أنه استئناف أو مقول، و فتح الباقون الكل إلا ما صدر بالفاء على أن ما كان من قولهم فمعطوف على محل الجار و المجرور في بِهِ كأنه قيل: صدقناه و صدقنا أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أي عظمته من جد فلان في عيني إذا عظم، أو سلطانه أو غناه مستعار من الجد الذي هو البخت، و المعنى وصفه بالتعالي عن الصاحبة و الولد لعظمته أو لسلطانه أو لغناه و قوله: مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً بيان لذلك، و قرئ «جدا» على التمييز «جدّ ربنا» بالكسر أي صدق ربوبيته، كأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقدوه من الشرك و اتخاذ الصاحبة و الولد.
وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا إبليس أو مردة الجن. عَلَى اللَّهِ شَطَطاً قولا ذا شطط و هو البعد و مجاوزة الحد، أو هو شطط لفرط ما أشط فيه، و هو نسبة الصاحبة و الولد إلى اللّه.