کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 250
[سورة نوح (71): آية 21]
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي فيما أمرتهم به. وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَساراً و اتبعوا رؤساءهم البطرين بأموالهم المغترين بأولادهم بحيث صار ذلك سببا لزيادة خسارهم في الآخرة، و فيه أنهم إنما اتبعوهم لوجاهة حصلت لهم بالأموال و الأولاد و أدت بهم إلى الخسار، و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي و البصريان وَ وَلَدُهُ بالضم و السكون على أنه لغة كالحزن و الحزن أو جمع كالأسد.
[سورة نوح (71): الآيات 22 الى 23]
وَ مَكَرُوا عطف على لَمْ يَزِدْهُ و الضمير لمن و جمعه للمعنى. مَكْراً كُبَّاراً كبيرا في الغاية فإنه أبلغ من كبار و هو من كبير، و ذلك احتيالهم في الدين و تحريش الناس على أذى نوح.
وَ قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ أي عبادتها. وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً وَ لا تَذَرُنَ هؤلاء خصوصا، قيل هي أسماء رجال صالحين كانوا بين آدم و نوح فلما ماتوا صوروا تبركا بهم، فلما طال الزمان عبدوا. و قد انتقلت إلى العرب فكان ود لكلب، و سواع لهمدان، و يغوث لمذحج، و يعوق لمراد، و نسر لحمير. و قرأ نافع وَدًّا بالضم و قرئ «يغوثا» و «يعوقا» للتناسب، و منع صرفهما للعلمية و العجمة.
[سورة نوح (71): الآيات 24 الى 25]
وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً الضمير للرؤساء أو للأصنام كقوله: إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً . وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا عطف على رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ، و لعل المطلوب هو الضلال في ترويج مكرهم و مصالح دنياهم لا في أمر دينهم، أو الضياع و الهلاك كقوله: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ .
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ من أجل خطيئاتهم، و «ما» مزيدة للتأكيد و التفخيم، و قرأ أبو عمرو «مما خطاياهم».
أُغْرِقُوا بالطوفان. فَأُدْخِلُوا ناراً المراد عذاب القبر أو عذاب الآخرة، و التعقيب لعدم الاعتداد بما بين الإغراق و الإدخال، أو لأن المسبب كالمتعقب للسبب و إن تراخى عنه لفقد شرط أو وجود مانع، و تنكير النار للتعظيم أو لأن المراد نوع من النيران. فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً تعريض لهم باتخاذ آلهة من دون اللّه لا تقدر على نصرهم.
[سورة نوح (71): الآيات 26 الى 28]
وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً أي أحدا و هو مما يستعمل في النفي العام فيعال من الدار، أو الدور و أصله ديوار ففعل به ما فعل بأصل سيد الأفعال و إلا لكان دوارا.
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً قال ذلك لما جربهم و استقرى أحوالهم ألف سنة إلا خمسين عاما فعرف شيمهم و طباعهم.
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَ لملك بن متوشلح و شمخا بنت أنوش و كانا مؤمنين. وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ منزلي أو مسجدي أو سفينتي. مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ إلى يوم القيامة. وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً هلاكا.
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح».
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 251
(72) سورة الجن
مكية، و آيها ثمان و عشرون آية
[سورة الجن (72): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَ و قرئ «أحي» و أصله وحى من وحى إليه فقلبت الواو همزة لضمتها و وحى على الأصل و فاعله: أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ و النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة، و الْجِنِ أجسام عاقلة خفية يغلب عليهم النارية أو الهوائية. و قيل نوع من الأرواح المجردة و قيل نفوس بشرية مفارقة عن أبدانها، و فيه دلالة على أنه عليه الصلاة و السلام ما رآهم و لم يقرأ عليهم و إنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها فأخبر اللّه به رسوله. فَقالُوا لما رجعوا إلى قومهم. إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً كتابا. عَجَباً بديعا مباينا لكلام الناس في حسن نظمه و دقة معناه. و هو مصدر وصف به للمبالغة.
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ إلى الحق و الصواب. فَآمَنَّا بِهِ بالقرآن. وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً على ما نطق به الدلائل القاطعة على التوحيد.
[سورة الجن (72): الآيات 3 الى 5]
وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا قرأه ابن كثير و البصريان بالكسر على أنه من جملة المحكي بعد القول، و كذا ما بعده إلا قوله: وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا وَ أَنَّ الْمَساجِدَ ، وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ فإنها من جملة الموحى به و وافقهم نافع و أبو بكر إلا في قوله: وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ على أنه استئناف أو مقول، و فتح الباقون الكل إلا ما صدر بالفاء على أن ما كان من قولهم فمعطوف على محل الجار و المجرور في بِهِ كأنه قيل: صدقناه و صدقنا أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أي عظمته من جد فلان في عيني إذا عظم، أو سلطانه أو غناه مستعار من الجد الذي هو البخت، و المعنى وصفه بالتعالي عن الصاحبة و الولد لعظمته أو لسلطانه أو لغناه و قوله: مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً بيان لذلك، و قرئ «جدا» على التمييز «جدّ ربنا» بالكسر أي صدق ربوبيته، كأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقدوه من الشرك و اتخاذ الصاحبة و الولد.
وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا إبليس أو مردة الجن. عَلَى اللَّهِ شَطَطاً قولا ذا شطط و هو البعد و مجاوزة الحد، أو هو شطط لفرط ما أشط فيه، و هو نسبة الصاحبة و الولد إلى اللّه.
وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً اعتذار عن اتباعهم السفيه في ذلك بظنهم أن أحدا لا يكذب على اللّه، و كَذِباً نصب على المصدر لأنه نوع من القول أو الوصف المحذوف، أي قولا مكذوبا فيه، و من قرأ أَنْ لَنْ تَقُولَ كيعقوب جعله مصدرا لأن التقول لا يكون إلا كَذِباً .
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 252
[سورة الجن (72): الآيات 6 الى 7]
وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ فإن الرجل كان إذا أمسى بقفر قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه. فَزادُوهُمْ فزادوا الجن باستعاذتهم بهم. رَهَقاً كبرا و عتوا، أو فزاد الجن الإنس غيا بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم، و الرهق في الأصل غشيان الشيء.
وَ أَنَّهُمْ و أن الإنس. ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أيها الجن أو بالعكس، و الآيتان من كلام الجن بعضهم لبعض أو استئناف كلام من اللّه تعالى، و من فتح أن فيهما جعلهما من الموحى به. أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً ساد مسد مفعولي ظَنُّوا .
[سورة الجن (72): الآيات 8 الى 9]
وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ طلبنا بلوغ السماء أو خبرها، و اللمس مستعار من المس للطلب كالجس يقال لمسه و التمسه و تلمسه كطلبه و اطلبه و تطلبه. فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً حراسا اسم جمع كالخدم. شَدِيداً قويا و هم الملائكة الذين يمنعونهم عنها. وَ شُهُباً جمع شهاب و هو المضيء المتولد من النار.
وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ مقاعد خالية عن الحرس و الشهب، أو صالحة للترصد و الاستماع، و لِلسَّمْعِ صلة ل نَقْعُدُ أو صفة ل مَقاعِدَ . فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً أي شهابا راصدا له و لأجله يمنعه عن الاستماع بالرجم، أو ذوي شهاب راصدين على أنه اسم جمع للراصد، و قد مر بيان ذلك في «الصافات».
[سورة الجن (72): الآيات 10 الى 11]
وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ بحراسة السماء. أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً خيرا.
وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ المؤمنون الأبرار. وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ أي قوم دون ذلك فحذف الموصوف و هم المقتصدون. كُنَّا طَرائِقَ ذوي طرائق أي مذاهب، أو مثل طرائق في اختلاف الأحوال أو كانت طرائقنا طرائق. قِدَداً متفرقة مختلفة جمع قدة من قدّ إذا قطع.
[سورة الجن (72): الآيات 12 الى 13]
وَ أَنَّا ظَنَنَّا علمنا. أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ كائنين في الأرض أينما كنا فيها. وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً هاربين منها إلى السماء، أو لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمرا و لن نعجزه هربا إن طلبنا.
وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى أي القرآن. آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ فهو لا يخاف، و قرئ «فلا يخف» و الأول أدل على تحقيق نجاة المؤمنين و اختصاصها بهم. بَخْساً وَ لا رَهَقاً نقصا في الجزاء و لا أن يرهقه ذلة، أو جزاء بخس لأنه لم يبخس لأحد حقا و لم يرهق ظلما، لأن من حق المؤمن بالقرآن أن يجتنب ذلك.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 253
[سورة الجن (72): الآيات 14 الى 15]
وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ الجائرون عن طريق الحق و هو الإيمان و الطاعة. فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً توخوا رشدا عظيما يبلغهم إلى دار الثواب.
وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً توقد بهم كما توقد بكفار الإنس.
[سورة الجن (72): الآيات 16 الى 17]
وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا أي أن الشأن لو استقام الجن أو الإنس أو كلاهما. عَلَى الطَّرِيقَةِ أي على الطريقة المثلى. لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لوسعنا عليهم الرزق، و تخصيص الماء الغدق و هو الكثير بالذكر لأنه أصل المعاش و السعة و لعزة وجوده بين العرب.
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنختبرهم كيف يشكرونه، و قيل معناه أن لو استقام الجن على طريقتهم القديمة و لم يسلموا باستماع القرآن لوسعنا عليهم الرزق مستدرجين لهم لنوقعهم في الفتنة و نعذبهم في كفرانهم. وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ عن عبادته أو موعظته أو وحيه. يَسْلُكْهُ يدخله و قرأ غير الكوفيين بالنون. عَذاباً صَعَداً شاقا يعلو المعذب و يغلبه مصدر وصف به.
[سورة الجن (72): الآيات 18 الى 19]
وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ مختصة به. فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً فلا تعبدوا فيها غيره، و من جعل أَنَ مقدرة باللام علة للنهي ألغى فائدة الفاء، و قيل المراد ب الْمَساجِدَ الأرض كلها لأنها جعلت للنبي عليه الصلاة و السلام مسجدا. و قيل المسجد الحرام لأنه قبلة المساجد و مواضع السجود على أن المراد النهي عن السجود لغير اللّه، و آرابه السبعة أو السجدات على أنه جمع مسجد.
وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ أي النبي عليه الصلاة و السلام و إنما ذكر بلفظ العبد للتواضع فإنه واقع موقع كلامه عن نفسه، و الإشعار بما هو المقتضى لقيامه. يَدْعُوهُ يعبده كادُوا كاد الجن. يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً متراكمين من ازدحامهم عليه تعجبا مما رأوا من عبادته و سمعوا من قراءته، أو كاد الإنس و الجن يكونون عليه مجتمعين لإبطال أمره، و هو جمع لبدة و هي ما تلبد بعضه على بعض كلبدة الأسد، و عن ابن عامر «لبدا» بضم اللام جمع لبدة و هي لغة. و قرئ «لبدا» كسجدا جمع لا بد و لِبَداً كصبر جمع لبود.
[سورة الجن (72): الآيات 20 الى 21]
قال إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً فليس ذلك ببدع و لا منكر يوجب تعجبكم أو إطباقكم على مقتي، و قرأ عاصم و حمزة قُلْ على الأمر للنبي عليه الصلاة و السلام ليوافق ما بعده.
قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا رَشَداً و لا نفعا أو غيا، عبر عن أحدهما باسمه و عن الآخر باسم سببه أو مسببه إشعارا بالمعنيين.
[سورة الجن (72): الآيات 22 الى 24]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 254
قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ إن أراد بي سوءا. وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً منحرفا أو ملتجأ و أصله المدخل من اللحد.
إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ استثناء من قوله لا أملك فإن التبليغ إرشاد و إنفاع و ما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة، أو من ملتحدا أو معناه أن لا أبلغ بلاغا و ما قبله دليل الجواب. وَ رِسالاتِهِ عطف على بَلاغاً و مِنَ اللَّهِ صفته فإن صلته
عن كقوله صلّى اللّه عليه و سلم: «بلغوا عني و لو آية».
وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في الأمر بالتوحيد إذ الكلام فيه. فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ و قرئ «فإن» على فجزاؤه أن. خالِدِينَ فِيها أَبَداً جمعه للمعنى.
حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ في الدنيا كوقعة بدر، أو في الآخرة و الغاية لقوله: يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً بالمعنى الثاني، أو لمحذوف دل عليه الحال من استضعاف الكفار له و عصيانهم له. فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً هو أم هم.
[سورة الجن (72): الآيات 25 الى 27]
قُلْ إِنْ أَدْرِي ما أدري. أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً غاية تطول مدتها كأنه لما سمع المشركون حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ قالوا متى يكون إنكارا، فقيل قل إنه كائن لا محالة و لكن لا أدري ما وقته.
عالِمُ الْغَيْبِ هو عالم الغيب. فَلا يُظْهِرُ فلا يطلع. عَلى غَيْبِهِ أَحَداً أي على الغيب المخصوص به علمه.
إِلَّا مَنِ ارْتَضى لعلم بعضه حتى يكون له معجزة. مِنْ رَسُولٍ بيان ل مَنِ ، و استدل به على إبطال الكرامات، و جوابه تخصيص الرسول بالملك و الإظهار بما يكون بغير وسط، و كرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون تلقيا عن الملائكة كاطلاعنا على أحوال الآخرة بتوسط الأنبياء. فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ من بين يدي المرتضى وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً حرسا من الملائكة يحرسونه من اختطاف الشياطين و تخاليطهم.
[سورة الجن (72): آية 28]
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا أي ليعلم النبي الموحى إليه أن قد أبلغ جبريل و الملائكة النازلون بالوحي، أو ليعلم اللّه تعالى أن قد أبلغ الأنبياء بمعنى ليتعلق علمه به موجودا. رِسالاتِ رَبِّهِمْ كما هي محروسة من التغيير. وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ بما عند الرسل. وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً حتى القطر و الرمل.
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم «من قرأ سورة الجن كان له بعدد كل جني صدق محمدا أو كذب به عتق رقبة».
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 255
(73) سورة المزمل
مكية، و آيها تسع عشرة أو عشرون
[سورة المزمل (73): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2)
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ أصله المتزمل من تزمل بثيابه إذا تلفف بها فأدغم التاء في الزاي و قد قرئ به، و ب «المزّمّل» مفتوحة الميم و مكسورتها أي الذي زمله غيره، أو زمل نفسه، سمي به النبي عليه الصلاة و السلام تهجينا لما كان عليه فإنه كان نائما، أو مرتعدا مما دهشه من بدء الوحي متزملا في قطيفة أو تحسينا له. إذ
روي: أنه عليه الصلاة و السلام كان يصلي متلففا بمرط مفروش على عائشة رضي اللّه تعالى عنها فنزلت.
أو تشبيها له في تثاقله بالمتزمل لأنه لم يتمرن بعد في قيام الليل، أو من تزمل الزمل إذا تحمل الحمل أي الذي تحمل أعباء النبوة.
قُمِ اللَّيْلَ أي قم إلى الصلاة، أو داوم عليها فيه، و قرئ بضم الميم و فتحها للإتباع أو التخفيف.
[سورة المزمل (73): الآيات 3 الى 5]
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ الاستثناء من اللَّيْلَ و نِصْفَهُ بدل من قَلِيلًا و قلته بالنسبة إلى الكل، و التخيير بين قيام النصف و الزائد عليه كالثلثين و الناقص عنه كالثلث، أو نِصْفَهُ بدل من اللَّيْلَ و الاستثناء منه و الضمير في مِنْهُ و عَلَيْهِ للأقل من النصف كالثلث فيكون التخيير بينه و بين الأقل منه كالربع، و الأكثر منه كالنصف أو للنصف و التخيير بين أن يقوم أقل منه على البت و أن يختار أحد الأمرين من الأقل و الأكثر، أو الاستثناء من إعداد الليل فإنه عام و التخيير بين قيام النصف و الناقص عنه و الزائد عليه. وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا اقرأه على تؤدة و تبيين حروف بحيث يتمكن السامع من عدها من قوله ثغر رتل و رتل إذا كان مفلجا.
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا يعني القرآن فإنه لما فيه من التكاليف الشاقة ثقيل على المكلفين سيما على الرسول صلّى اللّه عليه و سلم إذ كان عليه أن يتحملها و يحملها أمته، و الجملة اعتراض يسهل التكليف عليه بالتهجد، و يدل على أنه مشق مضاد للطبع مخالف للنفس، أو رصين لرزانة لفظه و متانة معناه، أو ثقيل على المتأمل فيه لافتقاره إلى مزيد تصفية للسر و تجريد للنظر، أو ثقيل في الميزان أو على الكفار و الفجار، أو ثقيل تلقيه
لقوله عائشة رضي اللّه تعالى عنها: رأيته عليه الصلاة و السلام ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه و إن جبينه ليرفض عرقا.
و على هذا يجوز أن يكون صفة للمصدر و الجملة على هذه الأوجه للتعليل مستأنف، فإن التهجد يعد للنفس ما به تعالج ثقله.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 256
[سورة المزمل (73): الآيات 6 الى 7]
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ إن النفس التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة من نشأ من مكانه إذا نهض و قام قال:
نشأنا إلى خوص برى نهيا السّرى
و ألصق منها مشرفات القماحد
أو قيام الليل على أن ال ناشِئَةَ له أو العبادة التي تنشأ بالليل أي تحدث، أو ساعات الليل لأنها تحدث واحدة بعد أخرى، أو ساعاتها الأول من نشأت إذا ابتدأت. هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً أي كلفة أو ثبات قدم، و قرأ أبو عمرو و ابن عامر وَطْئاً بكسر الواو و ألف ممدودة أي مواطأة القلب اللسان لها، أو فيها أو موافقة لما يراد منها من الخضوع و الإخلاص. وَ أَقْوَمُ قِيلًا أي و أسد مقالا أو أثبت قراءة لحضور القلب و هدوء الأصوات.
إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا تقلبا في مهماتك و اشتغالا بها فعليك بالتهجد، فإن مناجاة الحق تستدعي فراغا. و قرئ «سبخا» أي تفرق قلب بالشواغل مستعار من سبخ الصوف و هو نفشه و نشر أجزائه.
[سورة المزمل (73): الآيات 8 الى 9]
وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ و دم على ذكره ليلا و نهارا، و ذكر اللّه يتناول كل ما يذكر به من تسبيح و تهليل و تمجيد و تحميد و صلاة و قراءة قرآن و دراسة علم. وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا و انقطع إليه بالعبادة و جرد نفسك عما سواه، و لهذه الرمزة و مراعاة الفواصل وضعه موضع تبتلا.
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ خبر محذوف أو مبتدأ خبره: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ و قرأ ابن عامر و الكوفيون غير حفص و يعقوب بالجر على البدل من ربك، و قيل بإضمار حرف القسم و جوابه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ . فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا مسبب عن التهليل، فإن توحده بالألوهية يقتضي أن توكل إليه الأمور.
[سورة المزمل (73): الآيات 10 الى 11]
وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من الخرافات. وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا بأن تجانبهم و تداريهم و لا تكافئهم و تكل أمرهم إلى اللّه فاللّه يكفيكهم كما قال:
وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ دعني و إياهم و كل أمرهم فإن بي غنية عنك في مجازاتهم. أُولِي النَّعْمَةِ أرباب التنعم، يريد صناديد قريش. وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا زمانا أو إمهالا.
[سورة المزمل (73): الآيات 12 الى 14]
إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا تعليل للأمر، و النكل القيد الثقيل. وَ جَحِيماً .
وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ طعاما ينشب في الحلق كالضريع و الزقوم. وَ عَذاباً أَلِيماً و نوعا آخر من العذاب مؤلما لا يعرف كنهه إلا اللّه تعالى، و لما كانت العقوبات الأربع مما تشترك فيها الأشباح و الأرواح فإن النفوس العاصية المنهمكة في الشهوات تبقى مقيدة بحبها و التعلق بها، عن التخلص إلى عالم المجردات متحرقة بحرقة الفرقة متجرعة غصة الهجران معذبة بالحرمان عن تجلي أنوار القدس، فسر العذاب بالحرمان عن لقاء اللّه تعالى.