کتابخانه تفاسیر
بحر العلوم، ج1، ص: 13
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة (1): الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم حدثنا القاضي الخليل بن أحمد قال: حدثنا السراج قال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال:
حدثنا خالد، عن داود، عن عامر قال: كان النبي صلى اللّه عليه و سلم يكتب: باسمك اللهم؛ فلما نزل في سورة هود بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها [هود: 41] كتب: بسم اللّه؛ فلما نزل في سورة بني إسرائيل قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: 110] كتب؛ بسم اللّه الرحمن؛ فلما نزل في سورة النمل إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النمل: 30] كتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم.
ففي هذا الخبر دليل على أنه ليس من أول كل سورة، و لكنه بعض آية من كتاب اللّه تعالى من سورة النمل. فأما تفسير قوله: بِسْمِ اللَّهِ ، يعني: بدأت باسم اللّه، و لكن لم يذكر بدأت، لأن الحال ينبئ أنك مبتدئ فيستغنى عن ذكره. و أصله: باسم اللّه بالألف، و لكن حذفت من الاسم لكثرة الاستعمال، لأنها ألف وصل، و ليست بأصلية، بدليل أنها تسقط عند التصغير، فتقول سميّ. و قال بعضهم: معنى قوله بِسْمِ اللَّهِ ، يعني: بدأت بعون اللّه و توفيقه و بركته، و هذا تعليم من اللّه تعالى لعباده، ليذكروا اسم اللّه تعالى عند افتتاح القراءة و غيرها، حتى يكون الافتتاح ببركة اسم اللّه تعالى. و قوله اللَّهِ هو اسم موضوع ليس له اشتقاق، و هو أجلّ من أن يذكر له الاشتقاق، و هو قول الكسائي. قال أبو الليث رحمه اللّه: هكذا سمعت أبا جعفر يقول: روي عن محمد بن الحسن أنه قال: هو اسم موضوع ليس له اشتقاق. و روي عن الضحاك أنه قال: إنّما سمي اللَّهِ إلها، لأن الخلق يولهون إليه في قضاء حوائجهم، و يتضرعون إليه عند شدائدهم. و ذكر عن الخليل بن أحمد البصري أنه قال: لأن الخلق يألهون إليه، بنصب اللام، و يألهون بكسر اللام أيضا، و هما لغتان و قيل أيضا: إنه اشتق من الارتفاع.
و كانت العرب تقول للشيء المرتفع «لاه»، و كانوا يقولون إذا طلعت الشمس: طلعت لاهة، غربت لاهة و قيل أيضا: إنما سمي اللَّهِ ، لأنه لا تدركه الأبصار، «ولاه» معناه احتجب كما قال القائل:
لاه ربّي عن الخلائق طرّا
خالق الخلق لا يرى و يرانا
بحر العلوم، ج1، ص: 14
و قيل أيضا: سمي اللَّهِ لأنه يوله قلوب العباد بحبه.
و أما «الرحمن» فالعاطف على جميع خلقه بالرزق لهم، و لا يزيد في رزق التقيّ لأجل تقاه، و لا ينقص من رزق الفاجر لأجل فجوره. و ما كان في لغة العرب على ميزان «فعلان» يراد به المبالغة في وصفه، كما يقال: شبعان، و غضبان، إذا امتلأ غضبا. فلهذا سمى نفسه رحمانا، لأن رحمته وسعت كل شيء، فلا يجوز أن يقال لغير اللّه تعالى «الرحمن»، لأن هذا الوصف لا يوجد في غيره.
و أما «الرحيم» فالرفيق بالمؤمنين خاصة، يستر عليهم ذنوبهم في الدنيا، و يرحمهم في الآخرة، و يدخلهم الجنة. و قيل أيضا: إنما سمى نفسه رحيما، لأنه لا يكلف عباده جميع ما يطبقون، و كل ملك يكلف عباده جميع ما يطيقون، فليس برحيم.
و روي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال في قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ قال:
اسمه شفاء من كل داء، و عون على كل دواء. و أما الرحمن فهو عون لمن آمن به، و هو اسم لم يسم به غيره. و أما «الرحيم» فلمن تاب و آمن و عمل صالحا.
و قد فسره بعضهم على الحروف، و روى عبد الرحمن المديني، عن عبد اللّه بن عمر:
أن عثمان بن عفان- رضي اللّه عنهم- سأل صلى اللّه عليه و سلم عن تفسير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فقال:
أما الباء: فبلاء اللّه و روحه، و نصره و بهاؤه؛ و أما السين: فسناء اللّه، و أما الميم: فملك اللّه؛ و أما اللّه: فلا إله غيره؛ و أما الرحمن: فالعاطف على البر و الفاجر من خلقه؛ و أما الرحيم:
فالرفيق بالمؤمنين خاصة.
و روي عن كعب الأحبار أنه قال: الباء، بهاؤه، و السين: سناؤه و لا شيء أعلى منه، و الميم: ملكه، و هو على كل شيء قدير، فلا شيء يعازه. و قد قيل: إن كل حرف هو افتتاح اسم من أسمائه؛ فالباء: مفتاح اسمه بصير، و السين: مفتاح اسمه سميع، و الميم: مفتاح اسمه ملك، و الألف: مفتاح اسمه اللّه، و اللام: مفتاح اسمه لطيف، و الهاء: مفتاح اسمه هادي، و الراء: مفتاح اسمه رزاق، و الحاء: مفتاح اسمه حليم، و النون: مفتاح اسمه نور. و معنى هذا كله: دعاء اللّه عند الافتتاح.
بحر العلوم، ج1، ص: 15
سبع آيات مدنية روي عن مجاهد أنه قال: سورة فاتحة الكتاب مدنية، و روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: هي مكية. و يقال: نصفها نزل بمكة و نصفها نزل بالمدينة. حدثنا الحاكم أبو الفضل، محمد بن الحسين الحدادي قال: حدثنا أبو حامد المروزي قال: حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: حدثنا عمر بن يونس قال: حدثنا جهضم بن عبد اللّه بن العلاء عن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «إنّ في كتاب اللّه لسورة ما أنزل اللّه على نبيّ مثلها، فسأله أبي بن كعب عنها فقال: إنّي لأرجو أن لا تخرج من الباب حتّى تعلمها، فجعلت أتبطّأ، ثم سأله أبيّ عنها فقال: كيف تقرأ في صلاتك؟ قال: بأمّ الكتاب.
فقال: و الّذي نفسي بيده، ما أنزل في التّوراة و الإنجيل و القرآن مثلها، و إنّها السّبع المثاني و القرآن العظيم الّذي أعطيته» و قال بعضهم: السبع المثاني، هي السبع الطوال سورة: البقرة، و آل عمران، و الخمس التي بعدها، و سماها مثاني لذكر القصص فيها مرتين. و قال أكثر أهل العلم: هي سورة الفاتحة؛ و إنما سميت السبع، لأنها سبع آيات؛ و إنما سميت المثاني، لأنها تثنى بقراءتها في كل صلاة.
و قال: حدثنا أبي قال: حدثنا أبو عبد اللّه، محمد بن حامد الخزعوني قال: حدثنا علي بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن مروان، عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي
بحر العلوم، ج1، ص: 16
صالح، مولى أم هانئ، عن ابن عباس- رضي اللّه عنهما- في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ قال:
الشكر للّه. و معنى قول ابن عباس: الشكر للّه، يعني الشكر للّه على نعمائه كلها و قد قيل:
(الحمد للّه) يعني الوحدانية للّه. و قد قيل: الألوهية للّه. و روي عن قتادة أنه قال: معناه الحمد للّه، الذي لم يجعلنا من المغضوب عليهم و لا الضالين. ثم معنى قوله (الحمد للّه) قال بعضهم: «قل» فيه مضمر يعني: قل: الحمد للّه. و قال بعضهم: حمد الرب نفسه، ليعلم عباده فيحمدوه.
و قال أهل اللغة: الحمد هو الثناء الجميل، و حمد اللّه تعالى هو: الثناء عليه بصفاته الحسنى، و بما أنعم على عباده، و يكون في الحمد معنى الشكر و فيه معنى المدح و هو أعم من الشكر، لأن الحمد يوضع موضع الشكر، و لا يوضع الشكر موضع الحمد. و قال بعضهم:
الشكر أعم، لأنه باللسان و بالجوارح و بالقلب، و الحمد يكون باللسان خاصة. كما قال اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً [سبأ: 13].
و روي عن ابن عباس أنه قال: الحمد للّه كلمة كل شاكر، و ذلك أن آدم عليه السلام، قال حين عطس: الحمد للّه فقال اللّه تعالى: يرحمك اللّه، فسبقت رحمته غضبه. و قال اللّه تعالى لنوح: فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون: 28] و قال إبراهيم- عليه السلام-: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ [إبراهيم: 39] و قال في قصة داود و سليمان: وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [النمل: 15] و قال لمحمد- عليه السلام-: وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الإسراء: 111] و قال أهل الجنة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر: 34] فهي كلمة كل شاكر.
و قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ قال ابن عباس- رضي اللّه عنهما-: سيد العالمين. و هو رب كل ذي روح تدب على وجه الأرض. و يقال: معنى قوله رَبِّ الْعالَمِينَ : خالق الخلق و رازقهم و مربيهم و محولهم من حال إلى حال، من نطفة إلى علقة، و من علقة إلى مضغة.
و الرب في اللغة: هو السيد قال اللّه تعالى: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ [يوسف: 50]، يعني إلى سيدك. و الربّ: هو المالك يقال: ربّ الدار، و ربّ الدابة و الرب هو المربي من قولك: ربي يربي. و قوله: (العالمين) كل ذي روح و يقال: كل من كان له عقل يخاطب، مثل بني آدم و الملائكة و الجن، و لا يقع على البهائم و لا على غيرها. و روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال:
«إنّ للّه تعالى ثمانية عشر ألف عالم، و إنّ دنياكم منها عالم واحد» و يقال: كل صنف من الحيوان عالم على حده.
قوله عز و جل: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ؛ قال في رواية الكلبي: هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر. و قال بعض أهل اللغة: هذا اللفظ شنيع، فلو قال: هما اسمان لطيفان، لكان
بحر العلوم، ج1، ص: 17
أحسن و لكن معناه عندنا- و اللّه أعلم- أنه أراد بالرقة الرحمة، يقال: رق فلان لفلان إذا رحمه. يقال: رق يرق إذا رحم. و قوله: أحدهما أرق من الآخر قال بعضهم: الرحمن أرق، لأنه أبلغ في الرحمة لأنه يقع على المؤمنين و الكافرين و قال بعضهم: الرحيم أرق، لأنه في الدنيا و في الآخرة. و قال بعضهم: كل واحد منهما أرق من الآخر من وجه، فلهذا المعنى لم يبين، و قال: أحدهما أرق من الآخر، يعني كل واحد منهما أرق من الآخر.
قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ؛ قرأ نافع و ابن كثير و حمزة و أبو عمرو بن العلاء و ابن عامر: ملك بغير الألف، و قرأ عاصم و الكسائي بالألف. فأما من قرأ بالألف قال: لأن المالك أبلغ في الوصف، لأنه يقال: مالك الدار، و مالك الدابة، و لا يقال ملك: إلا لملك من ملوك.
و أما الذي قرأ: ملك بغير ألف قال: «لأن الملك أبلغ في الوصف، لأنك إذا قلت: فلان ملك هذه البلدة، يكون ذلك كناية عن الولاية دون الملك؛ و إذا قلت فلان مالك هذه البلدة، كان ذلك عبارة عن ملك الحقيقة. و روى مالك بن دينار عن أنس بن مالك قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أبو بكر و عمر و عثمان و علي يفتتحون الصلاة ب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و كلهم يقرءون مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بالألف. قال الفقيه- رحمه اللّه-: سمعت أبي يحكي بإسناده عن أبي عبد اللّه، محمد بن شجاع البلخي يقول: كنت أقرأ بقراءة الكسائي مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بالألف، فقال لي بعض أهل اللغة: الملك أبلغ في الوصف، فأخذت بقراءة حمزة و كنت أقرأ ملك يوم الدين، فرأيت في المنام كأنه أتاني آت فقال لي: لم حذفت الألف من مالك؟ أما بلغك الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «اقرءوا القرآن فخما مفخما»، فلم أترك القراءة ب: «ملك» حتى أتاني بعد ذلك آت في المنام فقال لي: لم حذفت الألف من مالك؟ أما بلغك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: من قرأ القرآن فله بكلّ حرف عشر حسنات، فلم نقّصت من حسناتك عشرا في كل قراءة؟ فلما أصبحت، أتيت قطربا- و كان إماما في اللغة- فقلت له: ما الفرق بين ملك و مالك؟ فقال: بينهما فرق كثير. فأما ملك فهو ملك من الملوك، و أما مالك فهو مالك الملوك. فرجعت إلى قراءة الكسائي.
ثم معنى قوله «مالك» يعني: قاضي و حاكم يَوْمِ الدِّينِ يعني: يوم الحساب كما قال تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [التوبة: 36 و غيرها]، يعني الحساب القيم. و قيل أيضا: معنى يوم الدين، يعني يوم القضاء. كما قال تعالى: ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف: 76] يعني: في قضائه و قيل أيضا: يوم الدين أي يوم الجزاء، كما يقال: كما تدين تدان، يعني كما تجازي تجازى به. فإن قيل: ما معنى تخصيص يوم الدين؟ و هو مالك يوم الدين و غيره، قيل له: لأن في الدنيا، كانوا منازعين له في الملك، مثل فرعون و نمرود و غيرهما. و في ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه، و كلهم خضعوا له. كما قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16]
بحر العلوم، ج1، ص: 18
فأجاب جميع الخلق لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [الرعد: 16، و غيرها] فكذلك هاهنا. قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يعني في ذلك اليوم لا يكون مالك، و لا قاض، و لا مجاز غيره.
قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ هو تعليم؛ علم المؤمنين كيف يقولون، إذا قاموا بين يديه في الصلاة، فأمرهم بأن يذكروا عبوديتهم و ضعفهم، حتى يوفقهم و يعينهم فقال إِيَّاكَ نَعْبُدُ أي نوحد و نطيع. و قال بعضهم إِيَّاكَ نَعْبُدُ يعني إياك نطيع طاعة نخضع فيها لك. و قوله تعالى:
وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يقول: بك نستوثق على عبادتك و قضاء الحقوق. و في هذا دليل على أن الكلام قد يكون بعضه على وجه المغايبة و بعضه على وجه المخاطبة، لأنه افتتح السورة بلفظ المغايبة و هو قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثم ذكر بلفظ المخاطبة، فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ؛ و هذا كما قال في آية أخرى هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ [يونس: 22] فذكر بلفظ المخاطبة، ثم قال: وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها [يونس: 22] هذا ذكر على المغايبة؛ و مثل هذا في القرآن كثير.
قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ رويت القراءتان عن ابن كثير أنه قرأ «السراط» بالسين، و روي عن حمزة أنه قرأ بالزاي، و قرأ الباقون بالصاد؛ و كل ذلك جائز، لأن مخرج السين و الصاد واحد، و كذلك الزاي مخرجه منهما قريب، و القراءة المعروفة بالصاد قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: اهْدِنَا يعني أرشدنا، الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ و هو الإسلام فإن قيل:
أليس هو الطريق المستقيم؟ و هو الإسلام فما معنى السؤال؟ قيل له: الصراط المستقيم، هو الذي ينتهي بصاحبه إلى المقصود. فإنما يسأل العبد ربه أن يرشده إلى الثبات على الطريق الذي ينتهي به إلى المقصود، و يعصمه من السبل المتفرقة. و قد روي عن عبد اللّه بن مسعود- رضي اللّه عنه- أنه قال: خط لي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خطا مستقيما، و خط بجنبه خطوطا، ثم قال: إن هذا الصراط المستقيم و هذه السبل، و على رأس كل طريق شيطان يدعو إليه و يقول: هلم إلى الطريق. و في هذا نزلت هذه الآية وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] فلهذا قال: اهدنا الصراط المستقيم و اعصمنا من السبل المتفرقة. قال الكلبي: أمتنا على دين الإسلام.
و روي عن علي بن أبي طالب- رضي اللّه عنه- أنه قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ يعني ثبتنا عليه. و معنى قول علي: ثبتنا عليه. يعني احفظ قلوبنا على ذلك، و لا تقلبها بمعصيتنا. و هذا موافق لقول اللّه تعالى: وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً [الفتح: 2] فكذلك هاهنا.
قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يعني طريق الذين مننت عليهم، فحفظت قلوبهم على الإسلام حتى ماتوا عليه. و هم أنبياؤه و أصفياؤه و أولياؤه. فامنن علينا كما مننت عليهم.
بحر العلوم، ج1، ص: 19
أخبرنا الفقيه، أبو جعفر قال: حدثنا أبو بكر، أحمد بن محمد بن سهل، القاضي قال:
حدثنا أحمد بن جرير قال: حدثنا عمر بن إسماعيل بن مجالد قال: حدثنا هشام بن القاسم قال: حدثنا حمزة بن المغيرة، عن عاصم، عن أبي العالية في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ قال: هو النبي عليه السلام و صاحباه من بعده أبو بكر- و عمر رضي اللّه عنهما- قال عاصم: فذكرت ذلك للحسن البصري فقال: صدق و اللّه أبو العالية و نصح.
و قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ أي غير طريق اليهود. يقول: لا تخذلنا بمعصيتنا، كما خذلت اليهود فلم تحفظ قلوبهم، حتى تركوا الإسلام.
وَ لَا الضَّالِّينَ يعني و لا النصارى، لم تحفظ قلوبهم و خذلتهم بمعصيتهم حتى تنصروا. و قد أجمع المفسرون أن المغضوب عليهم أراد به اليهود، و الضالين أراد به النصارى، فإن قيل: أليس النصارى من المغضوب عليهم؟ و اليهود أيضا من الضالين؟ فكيف صرف المغضوب إلى اليهود، و صرف الضالين إلى النصارى؟ قيل له: إنّما عرف ذلك بالخبر و استدلالا بالآية. فأما الخبر، فما روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أن رجلا سأله و هو بوادي القرى:
من المغضوب عليهم؟ قال: اليهود قال: و من الضالين؟ فقال: النصارى؛ و أما الآية، فلأن اللّه تعالى قال في قصة اليهود: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ [البقرة: 90] و قال تعالى في قصة النصارى: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77].
«آمين» ليس من السورة. و لكن روي عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه كان يقوله و يأمر به، و معناه ما قال ابن عباس: يعني كذلك يكون. و روي عن مجاهد أنه قال: هو اسم ن أسماء اللّه تعالى و يكون معناه: يا اللّه استجب دعاءنا. و قال بعضهم: هي لغة بالسريانية. و روي عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: ما حسدتكم اليهود في شيء، كحسدهم في «آمين» خاتم رب العالمين، يختم به دعاء عباده المؤمنين. و قال مقاتل: هو قوة للدعاء و استنزال للرحمة. و روى الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس- رضي اللّه عنهما-: سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما معنى آمين؟ قال: ربّ افعل. و يقال: فيه لغتان «أمين» بغير مد، و «آمين» بالمد، و معناهما واحد، و قد جاء في أشعارهم كلا الوجهين. قال القائل:
تباعد عني فطحل إذ دعوته
آمين فزاد اللّه ما بيننا بعدا
و قال الآخر:
يا رب لا تسلبنّي حبّها أبدا
و يرحم اللّه عبدا قال: آمينا