کتابخانه تفاسیر
بحر العلوم، ج1، ص: 109
العرب ثلاثمائة و ستون صنما يعبدونها من دون اللّه تعالى، فدعاهم اللّه إلى التوحيد و الإخلاص لعبادته فقال: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ . و يقال: نزلت هذه الآية في صنف من المجوس يقال لهم: المانوية فكان رئيسهم يقال له: ماني، فقال لهم أرى الأشياء زوجين و ضدين، مثل الليل و النهار و النور و الظلمة و الحر و البرد و الخير و الشر و السرور و الحزن و الذي يصلح للشيء لا يصلح لضده، فمن كان خالق النور و الخيرات لا يكون خالق الشر و الظلمات؛ فهما اثنان:
أحدهما يخلق الشر و الآخر يخلق الخير، فنزلت هذه الآية وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ، أي خالقكم خالق واحد هو خالق الأشياء كلها.
و قوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ، قال بعض الناس: هذا الكلام نصفه كفر، و هو قوله: لا إله، و نصفه إيمان و هو قوله: إِلَّا هُوَ . و لكن هذا الكلام ليس بسديد، لأن اللّه تعالى أمر رسوله بأن يأمرهم حتى يقولوا: لا إله إلا اللّه، فلا يجوز أن يأمرهم بالكفر.
و قال بعضهم: النصف الأول منسوخ و النصف الثاني ناسخ. و هذا أيضا لا يصح، لأن المنسوخ هو الذي كان مباحا قبل النسخ و الكفر لم يكن مباحا أبدا. و أحسن ما قيل فيه: إن قوله: لا إِلهَ نفي معبود الكفار، و قوله: إِلَّا هُوَ إثبات معبود المؤمنين. أو نقول: لا إِلهَ نفي الألوهية عمن لا يستحق الألوهية، و قوله إِلَّا هُوَ إثبات الألوهية لمن يستحق الألوهية.
[سورة البقرة (2): آية 164]
لما نزلت هذه الآية، أنكر المشركون توحيد اللّه تعالى، و طلبوا منه دليلا على إثبات وحدانيته؛ فنزلت هذه الآية إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ، يعني في خلق السموات و الأرض دليل على وحدانية اللّه في أنه خلقها بغير عمد ترونها و زينها بمصابيح، و الأرض بسطها أيضا و جعل لها أوتادا و هي الجبال و فجر فيها الأنهار و جعل فيها البحار. وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ ، يعني في مجيء الليل و ذهاب النهار، و مجيء النهار و ذهاب الليل. و يقال:
اختلافهما في الكون. و يقال: نقصان الليل و تمام النهار، و نقصان النهار و تمام الليل. وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ . يعني السفن. و يقال للسفينة الواحدة: الفلك و لجماعة السفن: الفلك.
يعني السفن التي تسير في البحر، فتقبل مرة و تدبر مرة بريح واحدة فتسير في البحر بِما يَنْفَعُ النَّاسَ من الكسب و التجارة و غير ذلك.
بحر العلوم، ج1، ص: 110
و قوله: وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ ، يعني المطر الذي ينزل من السماء، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي اخضرت الأرض بعد يبسها وَ بَثَّ فِيها ، يقول: خلق في الأرض مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ ؛ قرأ حمزة و الكسائي: الريح بغير ألف و الباقون:
الرِّياحِ بالألف. و اختار أبو عبيدة في قراءته: أن كل ما في القرآن من ذكر العذاب الريح بغير ألف، و كل ما في القرآن من ذكر الرحمة: الرياح بالألف، و احتج بما روى أنس- رضي اللّه عنه- عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه كان إذا هاجت الريح قال: «اللّهمّ اجعلها رياحا و لا تجعلها ريحا».
و معنى قوله تعالى وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ أي هبوب الريح مرة جنوبا و مرة شمالا و مرة صبا و مرة دبورا.
قوله تعالى: وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ ، أي المذلل و المطوع، بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، أي في هذه الأشياء التي ذكر في هذه الآية، آيات لوحدانيته لمن كان له عقل و تمييز. و يقال: هذه الآية تجمع أصول التوحيد، و قد بيّن فيها دلائل وحدانيته، لأن الأمر لو كان بتدبير اثنين مختلفين في التدبير، لفسد الأمر باختلافهما. كما قال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22].
[سورة البقرة (2): الآيات 165 الى 167]
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً ، يعني بعض الناس وصفوا للّه شركاء و أعدالا و هي الأوثان. يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ، قال بعضهم: معناه يحبون الأوثان كحبهم للّه تعالى، لأنهم كانوا يقرون باللّه تعالى. و قال بعضهم: معناه، يحبون الأوثان كحب المؤمنين للّه تعالى وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ، لأن الكفار يعبدون أوثانهم في حال الرخاء، فإذا أصابتهم شدة تركوا عبادتها؛ و المؤمنون يعبدون اللّه تعالى في حال الرخاء و الشدة، فهذا معنى قوله تعالى:
وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ . فإن قيل: إذا كان المؤمنون أشد حبا للّه فما معنى قوله:
يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ؟ قيل له: يحتمل أن بعض المؤمنين حبهم مثل حبهم و بعضهم أشد حبا، و في أول الآية ذكر بعض المؤمنين، و في آخر الآية ذكر المؤمنين الذين هم أشد حبا للّه.
بحر العلوم، ج1، ص: 111
و الحب للّه أن يطيعوه في أمره و ينتهوا عن نهيه، فكل من كان أطوع للّه فهو أشد حبا له. كما قال القائل:
لو كان حبّك صادقا لأطعته
إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع
ثم قال لمحمد صلى اللّه عليه و سلم: وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا يا محمد. إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ ، يعني حين يرون العذاب. أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ، و في الآية مضمر و معناه: يا محمد لو رأيت الذين ظلموا في العذاب، لرأيت أمرا عظيما؛ كما تقول: لو رأيت فلانا تحت السياط فيستغني عن الجواب، لأن معناه مفهوم. فكذلك هاهنا لم يذكر الجواب، لأن المعنى معلوم. قرأ نافع و ابن عامر: و لو ترى بالتاء على معنى المخاطب للنبي صلى اللّه عليه و سلم. و قرأ الباقون: بالياء؛ و معناه و لو يرى عبدة الأوثان اليوم ما يرون يوم القيامة، أن الأوثان لا تنفعهم شيئا و أن القوة للّه جميعا، تركوا عبادتها. و قرأ ابن عامر إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ بضم الياء على معنى فعل ما لم يسم فاعله؛ و قرأ الباقون بنصب الياء على معنى الخبر عنهم. و قرأ الحسن و قتادة: أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً على معنى الابتداء، و قرأ العامة أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ بالنصب على معنى البناء، يعني بأن القوة للّه جميعا وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ ، يعني للرؤساء و الاتباع من أهل الأوثان.
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا ، يعني القادة مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا و هم السفلة وَ رَأَوُا الْعَذابَ ، يقال حين يروا العذاب وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ، أي العهود و الحلف التي كانت بينهم في الدنيا. و قال القتبي: الأسباب يعني الأسباب التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا. و قال بعضهم وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ، أي الخلة و المواصلة، كما قال في آية أخرى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67]؛ و يقال: الأرحام و المودة التي كانوا يتواصلون بها فيما بينهم.
قوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ، أي السفلة: لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً ، أي رجعة إلى الدنيا؛ و ذلك أن الرؤساء لما تبرؤوا منهم و لا ينفعونهم شيئا، ندمت السفلة على اتباعهم في الدنيا و يقولون في أنفسهم: لو أن لنا كرة أي رجعة إلى الدنيا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ ، أي من القادة كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا القادة. قال اللّه تعالى: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ لأنهم يرون أعمالهم غير مقبولة، لأنها كانت لغير وجه اللّه تعالى فيكون ذلك حسرة عليهم. و قوله تعالى:
وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ ، يعني التابع و المتبوع و العابد و المعبود.
[سورة البقرة (2): الآيات 168 الى 169]
بحر العلوم، ج1، ص: 112
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً ، و ذلك أن قوما من العرب مثل بني عامر و بني مدلج و خزاعة و غيرهم، حرموا على أنفسهم أشياء مما أحل اللّه من الحرث و الأنعام و البحيرة و السائبة و غير ذلك، فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً من الحرث و الأنعام، و حلالا نصب على الحال. وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ، يعني طاعات الشيطان. و قال مقاتل: يعني تزيين الشيطان. و يقال: و ساوس الشيطان. و قال القتبي: الخطوات جمع الخطوة. و قال الزجاج: خطواته أي طرقه، و معناه: لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ، أي ظاهر العداوة.
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشاءِ ، يعني بالإثم و القبيح من العمل. و يقال: السوء الذي يجب به الحبس و الحساب، و الفحشاء: التي يستوجب بها العقوبة في النار. و يقال: السوء الذي يجب به التعزير في الدنيا، و الفحشاء التي يجب بها الحد. وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ، يعني أن الشيطان يأمركم بأن تكذبوا على اللّه، لأنهم كانوا يقولون هذه الأشياء حرم اللّه علينا.
[سورة البقرة (2): آية 170]
وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ ، أي اعملوا بما أنزل اللّه في القرآن من تحليل ما أحل اللّه و تحريم ما حرم اللّه. قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا ، يعني ما وجدنا عليه آباءنا. قال اللّه تعالى: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ ، معناه أ يتبعون آباءهم و إن كانوا جهالا فيتابعوهم بغير حجة؟ فكأنه نهاهم عن التقليد و أمرهم بالتمسك بالحجة. و هذه الواو مفتوحة و هي واو: أ و لو لأنها واو العطف أدخلت عليها ألف التوبيخ و هي ألف الاستفهام.
قرأ أبو عمرو و من تابعه من أهل البصرة: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ [البقرة: 167] بكسر الهاء و الميم، و كذلك في كل موضع تكون الهاء و الميم بعدهما ألف و لام. مثل قوله تعالى:
وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [البقرة: 61] وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ [الحجر: 3]. و كان عاصم و ابن عامر و نافع يقرءون بكسر الهاء و ضم الميم. و كان حمزة و الكسائي يقرآن: بضم الهاء و الميم. و كان ابن كثير يقرأ: إنه لكم عدو مبين بضم الميم، و كذلك إِنَّما يَأْمُرُكُمْ ؛ و كذلك كل ميم نحو هذا مثل: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7]، عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ [البقرة: 7]. و كان نافع في رواية ورش عنه يقرأ: سكون الميم، إلا أن يستقبله ألف أصلية فيضم الميم مثل قوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ* [البقرة: 6 و يس: 10] إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ [الكهف: 21]، وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً [نوح: 14]. و كان حمزة و الكسائي يقرءون بسكون الميم، إلا أن يستقبله ألف و لام مثل قوله: وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [البقرة: 61].
بحر العلوم، ج1، ص: 113
و أما قوله: خُطُواتِ الشَّيْطانِ* [البقرة: 168 و غيرها] كان نافع و أبو عمرو و حمزة و عصام في رواية أبي بكر يقرءون خُطُواتِ بجزم الطاء. و قرأ الكسائي و ابن كثير و عاصم في رواية حفص: خُطُواتِ بضم الطاء؛ و هما لغتان و معناهما واحد.
[سورة البقرة (2): آية 171]
ثم قال تعالى: وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَ نِداءً . فهذا مثل ضربه اللّه تعالى لأهل الكفر، إنهم مثل البهائم لا يعقلون شيئا سوى ما يسمعون من النداء.
و في الآية إضمار و معناه: مثلك يا محمد مع الكفار، كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء. و هذا قول الزجاج. و قال القتبي: قال الفراء: و مثل واعظ الذين كفروا فحذف ذكر الواعظ. كما قال تعالى: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82]. و قال القتبي أيضا: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ، يعني و مثلنا في وعظهم، فحذف اختصارا إذ كان في الكلام ما يدل عليه، كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ ، يعني الراعي إذا صاح في الغنم لا يسمع إلا دعاء و نداء فحسب، و لا تفهم قولا و لا تحسن جوابا، فكذلك الكافر لا يعقل المواعظ. صُمٌ عن الخبر فهم لا يسمعون بُكْمٌ ، أي خرس لا يتكلمون بالحق عُمْيٌ لا يبصرون الهدى. و يقال: كأنّهم صم، لأنهم يتصاممون عن سماع الحق. فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ الهدى.
[سورة البقرة (2): الآيات 172 الى 173]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ، يعني من الحلال من الحرث و الأنعام. وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ، يعني إن كنتم تريدون بترك أكله رضاء اللّه تعالى فكلوه، فإن رضي اللّه تعالى أن تحلوا حلاله و تحرموا حرامه. و يقال: إن محرّم ما أحل اللّه مثل محل ما حرم اللّه. و يقال: في هذه الآية بيان فضل هذه الأمة، لأنه تعالى خاطبهم بما خاطب به أنبياءه- عليهم الصلاة و السلام- لأنه قال لأنبيائه: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون: 51]، و قال لهذه الأمة كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ و قال في أول الآية: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً [البقرة: 168]. فلما أمر اللّه تعالى بأكل هذه الأشياء التي كانوا يحرمونها على أنفسهم. قالوا للنبي صلى اللّه عليه و سلم: إن لم يكن هذه الأشياء محرمة فالمحرمات ما هي؟ فبيّن اللّه
بحر العلوم، ج1، ص: 114
تعالى المحرمات، فقال: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ . و الميتة سوى السمك و الجراد، و الدم يعني الدم المسفوح أي الجاري. كما قال في آية أخرى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الأنعام: 145]، يعني حرم عليكم، و لحم الخنزير فذكر اللحم خاصة و المراد به اللحم و الشحم و جميع أجزائه. و هذا شيء قد أجمع المسلمون على تحريمه فقد ذكر الميتة و إنما انصرف إلى بعض منها و أحل البعض منها و هو السمك و الجراد؛ و ذكر الدم و إنما المراد به بعض الدم، لأنه لم يدخل فيه الكبد و الطحال؛ و ذكر لحم الخنزير فانصرف النهي إلى اللحم و غيره. وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ، يعني ما ذبح بغير اسم اللّه تعالى. و الإهلال في اللغة: هو رفع الصوت. و كان أهل الجاهلية إذا ذبحوا، رفعوا الصوت بذكر آلهتهم؛ فحرم اللّه تعالى على المؤمنين أكل ما ذبح لغير اسم اللّه تعالى. و في الآية دليل: أنه إذا ترك التسمية عمدا لا يؤكل، لأنه قد ذبح بغير اسم اللّه تعالى.
ثم إن اللّه تعالى علم أن بعض الناس يبتلون بأكل الميتة عند الضرورة، فرخص لهم في ذلك بقوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ . قرأ حمزة و عاصم و أبو عمرو: فَمَنِ اضْطُرَّ بكسر النون و قرأ الباقون بالضم؛ و هما لغتان و معناهما واحد. يقول: فمن أجهد إلى شيء مما حرم اللّه إلى أكل الميتة غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ، يعني غير مفارق الجماعة و لا عاد على المسلمين بالسيف؛ فمن خرج لقطع الطريق، أو خرج على إمام المسلمين فلا رخصة له عند بعضهم.
و قال بعضهم: من خرج في معصية فلا رخصة له. و قال بعضهم: كل من اضطر إلى أكل الميتة رخص له أن يأكل سواء أخرج للمعصية أو غيرها. و هذا قول أصحابنا. و معنى قوله:
غَيْرَ باغٍ ، أي غير طالب للحرام و لا راض بأكله. وَ لا عادٍ ، يعني لا يعود إلى أكله بعد أكل مقدار ما يسد به الرمق.
و روي عن ابن عباس نحو هذا. قال: حدثنا محمد بن سعيد الترمذي قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال: حدثنا محمد بن الحجاج الحضرمي قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ قال: من أكل شيئا من هذه الأشياء و هو مضطر، فلا حرج عليه؛ و من أكله و هو غير مضطر، فقد بغى و اعتدى.
ثم اختلفوا في حد الاضطرار الذي يحل له أكل الميتة. قال بعضهم: إذا كان بحال يخاف على نفسه التلف و هو قول الشافعي. و روي عن ابن المبارك أنه قال: إذا كان بحال لو دخل السوق لا ينظر إلى شيء سوى الخبز. و قال بعضهم: إذا كان بحال يضعفه عن أداء الفرائض.
و قد اختلفوا أيضا في أكله: قال بعضهم: أكله حرام إلا أنه لا إثم عليه، ألا ترى أنه قال
بحر العلوم، ج1، ص: 115
في سياق الآية: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . و قال بعضهم: هو حلال و لا يسعه تركه، لأنه قال في آية أخرى: وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام: 119]، فلما استثني منه ثبت أنه حلال. و روي عن مسروق أنه قال: من اضطر إلى ميتة فلم يأكل حتى مات، دخل النار.
[سورة البقرة (2): الآيات 174 الى 176]
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ ، نزلت في رؤساء اليهود كانوا يرجون أن يكون النبي- عليه السلام- منهم، فلما كان من غيرهم خشوا بأن تذهب منافعهم من السفلة، فعمدوا إلى صفة النبي صلى اللّه عليه و سلم فغيّروها. و يقال: غيروا تأويلها فنزلت هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ ، يعني في التوراة بكتمان صفة النبي صلى اللّه عليه و سلم وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا ، يعني يختارون به عرضا يسيرا من منافع الدنيا. أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ، يعني يأكلون الحرام. و إنما سمي الحرام نارا، لأنه يستوجب به النار، كما قال في آية أخرى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: 10].
وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، أي لا يكلمهم بكلام الخير، لأنه يكلمهم بكلام العذاب حيث قال تعالى: اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108]، وَ لا يُزَكِّيهِمْ ، أي و لا يطهرهم من الأعمال الخبيثة السيئة. و قال الزجاج: و لا يزكيهم أي لا يثني عليهم خيرا، و من لا يثني عليه فهو معذب؛ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ، أي وجيع يعني الذين يكتمون ما أنزل اللّه من الكتاب، و كذلك كل من كان عنده علم فاحتاج الناس إلى ذلك فكتمه، فهو من أهل هذه الآية. و هذا كما روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «من كتم علما، ألجمه اللّه تعالى يوم القيامة بلجام من نار».