کتابخانه تفاسیر
بحر العلوم، ج1، ص: 189
[سورة البقرة (2): الآيات 285 الى 286]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ روي عن الحسن و عن مجاهد: أن هذه الآية نزلت في قصة المعراج، و هكذا روي في بعض الروايات عن عبد اللّه بن عباس.
و قال بعضهم جميع القرآن نزل به جبريل على محمد صلى اللّه عليه و سلم إلا هذه الآية، فإن النبي صلى اللّه عليه و سلم سمعها ليلة المعراج. و قال بعضهم: لم يكن ذلك في قصة المعراج، لأن ليلة المعراج كانت بمكة، و هذه السورة كلها مدنية، فأما من قال: إنها كانت في ليلة المعراج. قال: لما صعد النبي صلى اللّه عليه و سلم، و بلغ فوق السموات في مكان مرتفع، و معه جبريل حتى جاوز سدرة المنتهى. فقال له جبريل: إني لم أجاوز هذا الموضع، و لم يؤمر أحد بالمجاوزة عن هذا الموضع غيرك، فجاوز النبي صلى اللّه عليه و سلم حتى بلغ الموضع الذي شاء اللّه، فأشار إليه جبريل بأن يسلم على ربه. فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم: «التّحيّات للّه و الصّلوات الطّيّبات». فقال اللّه تعالى: السّلام عليك أيّها النّبي و رحمة اللّه و بركاته، فأراد النبي صلى اللّه عليه و سلم أن يكون لأمته حظ في السلام فقال: «السّلام علينا، و على عباد اللّه الصّالحين». فقال جبريل: و أهل السموات كلهم، أشهد أن لا إله إلّا اللّه، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله. قال اللّه تعالى على معنى الشكر آمن الرسول، أي: صدق النبي صلى اللّه عليه و سلم بما أنزل إليه من ربه، فأراد النبي صلى اللّه عليه و سلم أن يشارك أمته في الفضيلة فقال: وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ يعني: يقولون آمنا بجميع الرسل، و لا نكفر بواحد منهم، و لا نفرق بينهم، كما فرقت اليهود و النصارى.
فقال له ربه عز و جل: كيف قبولهم للآي التي أنزلتها؟ و هي قوله: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ [البقرة: 284]، فقال: رسول اللّه: وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا أي أطعنا مغفرتك يا ربنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي: المرجع قال اللّه تعالى عند ذلك: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي طاقتها.
بحر العلوم، ج1، ص: 190
و يقال: إلا دون طاقتها و يقال لا يكلف الصلاة قائما لمن لا يقدر عليها لَها ما كَسَبَتْ من الخير وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ من الشر فقال له جبريل عند ذلك: سل تعط فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم:
«ربّنا لا تؤاخذنا إن نّسينا» يعني: إن جهلنا أَوْ أَخْطَأْنا يعني: إن تعمدنا، و يقال إن عملنا بالنسيان، أو أخطأنا يعني عملنا بالخطإ، فقال له جبريل: قد أعطيت ذلك قد رفع عن أمتك الخطأ و النسيان شيئا آخر، فقال عند ذلك: رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً يعني ثقلا كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا و هو أنه حرم عليهم الطيبات بظلمهم، و كانوا إذا أذنبوا بالليل، وجدوه مكتوبا على بابهم، و كانت الصلوات عليهم خمسين، فخففت عن هذه الأمة، و حطّ عنهم بعد ما فرض عليهم إلى خمس صلوات ثم قال: رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ يقول: لا تكلفنا من العمل ما لا نطيق، فتعذبنا. و يقال: ما يشق ذلك علينا، لأنه لو أمر بخمسين صلاة، لكانوا يطيقون ذلك، و لكنه يشق عليهم، و لا يطيقون الإدامة على ذلك وَ اعْفُ عَنَّا من ذلك كله وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أي: تجاوز عنا و يقال: و اعف عنا من المسخ، و اغفر لنا من الخسف، و ارحمنا من القذف، لأن الأمم الماضية بعضهم أصابهم المسخ، و بعضهم أصابهم الخسف، و بعضهم القذف ثم قال: أَنْتَ مَوْلانا أي: أنت ولينا و حافظنا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فاستجيب دعاؤه.
و روي عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «نصرت بالرّعب مسيرة شهر». و يقال: إن الغزاة إذا خرجوا من بلادهم بالنية الخالصة، و ضربوا الطبل، وقع الرعب و الهيبة في قلوب الكفار مسيرة شهر، علموا بخروجهم أو لم يعلموا، ثم إن النبي صلى اللّه عليه و سلم لما رجع، أوحى اللّه تعالى إليه هذه الآيات، ليعلم أمته بذلك. و لهذه الآية تفسير آخر قال الزجاج: لما ذكر اللّه تعالى فرض الصلاة و الزكاة في هذه السورة، و بيّن أحكام الحج، و حكم الحيض، و الطلاق و الإيلاء، و أقاصيص الأنبياء، و بيّن حكم الربا و الدين، ثم ذكر تعظيمه بقوله تعالى: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ* [لقمان: 26] الآية.
ثم ذكر تصديق جميع ذلك حيث قال: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ، أي صدق الرسل بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها، و كذلك المؤمنون. كلهم صدقوا باللّه و ملائكته و كتبه و رسله.
قرأ حمزة و الكسائي و كتابه على معنى الوحدان. و قرأ الباقون و كتبه على معنى الجمع.
ثم قال: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ، فأخبر عن المؤمنين بأنهم يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله.
قرأ الحضرمي لا يفرق بالياء، و معنا كل آمن باللّه، و كل لا يفرق.
و قرأ ابن مسعود لا يفرقون بين أحد من رسله. وَ قالُوا: سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ، أي قبلنا ما سمعنا، لأن من سمع و لم يقبل قيل له: أصم، لأنه لم ينتفع بسماعه.
بحر العلوم، ج1، ص: 191
و قرأ أبو عمرو من رسله، برفع السين، و كذلك في جميع القرآن غير هذه الحروف الأربعة، مثل رسلنا و رسلهم يقرأ بالسكون، و قرأ الباقون برفع السين في جميع القرآن. و معنى قوله: غُفْرانَكَ رَبَّنا ، أي اغفر غفرانك، و هو من أسماء المصادر كالكفران و الشكران وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ . يعني نحن مقرون بالبعث.
ثم قال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها يعني: طاقتها قال الفقيه: حدثنا أبو الحسين قال: حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا محمد بن عبد اللّه قال: حدثنا مروان عن عطاء بن عجلان عن زرارة بن أبي أوفى عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «إنّ اللّه تجاوز عن هذه الأمّة ما حدّثت به أنفسها، أو همّت به ما لم تعمل به، أو تتكلّم به» ثم قال لَها ما كَسَبَتْ، وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ، رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا ، أي لا تؤاخذ أحدا بذنوب غيره، كما قال في آية أخرى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى* [الأنعام: 164] و قوله: إن نسينا أي إن تركنا أو أخطأنا، يعني إن كسبنا خطيئة، فأخبر اللّه تعالى بهذا عن النبي صلى اللّه عليه و سلم، و عن المؤمنين، و جعله في كتابه ليكون دعاء النبي صلى اللّه عليه و سلم لهم دعوة يدعون بها من بعده، لأن هذا الدعاء قد استجيب له، فينبغي أن يحفظ، و يدعى به كثيرا.
قال الفقيه: حدثنا القاضي الخليل قال: حدثنا السراج قال: حدثنا أحمد بن سعيد الرازي قال: حدثنا سهل بن بكار قال: حدثنا أبو عوانة عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «فضّلنا على النّاس بثلاث خصال: جعلت لنا الأرض كلّها مسجدا، و جعلت تربتها لنا طهورا، و جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، و أوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعط أحد قبلي، و لا تعطى أحدا بعدي».
و روى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «تعلّموا البقرة و آل عمران، فإنّهما تجيئان يوم القيامة كالغمامتين- أو كالغيايتين، أو كفرقتين- من طير صوافّ، و يحاجّان عن صاحبهما». ثم قال: «تعلّموا سورة البقرة، فإنّ أخذها بركة، و تركها حسرة، و لا يستطيعها البطلة»، يعني السّحرة.
و روي عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه نزل عليه ملك فقال له: إن اللّه يبشرك بنورين، لم يعطهما نبيا قبلك، فاتحة الكتاب، و خواتيم سورة البقرة، لا يقرأ بحرف منهما إلا أعطيته نورا. و روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «لو بلغت سورة البقرة ثلاثمائة آية، لتكلّمت» يعني: لصارت بحال تتكلم، لأنه لا يبقى شيء، إلا اجتمع فيها من كثرة ما فيها من العجائب. و اللّه سبحانه و تعالى أعلم، و صلى اللّه على سيدنا محمد.
بحر العلوم، ج1، ص: 192
سورة آل عمران
مائتا آية و هي مدنية
[سورة آلعمران (3): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
الم قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: أنا اللّه أعلم اللَّهُ يعني، هو اللّه الذي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الذي لا يموت و لا يزول أبدا.
و يقال الحي الذي لا بادئ له الْقَيُّومُ يعني القائم على كل نفس بما كسبت. و يقال:
القائم بتدبير الخلق.
و روى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: الحي قبل كل حي، و الحي بعد كل حي، الدائم الذي لا يموت؛ و لا تنقضي عجائبه، و القائم على العباد بأرزاقهم و آجالهم. و يقال: الحي القيوم هو اسم اللّه الأعظم. و يقال: إن عيسى ابن مريم عليهما السلام، كان إذا أراد أن يحيي الموتى، يدعو بهذا الاسم يا حيّ يا قيّوم. و يقال: إن آصف بن برخيا لما أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان- عليه السلام- دعا بقوله يا حيّ يا قيوم- و يقال: إن بني إسرائيل، سألوا موسى- عليه السلام- عن اسم اللّه الأعظم فقال لهم: قولوا اهيا- يعني يا حي- شراهيا- يعني يا قيوم- و يقال: هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يدعون به، ثم قال تعالى:
[سورة آلعمران (3): الآيات 3 الى 5]
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني أنزل عليك جبريل بالقرآن بِالْحَقِ أي بالعدل و يقال لبيان الحق مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يعني موافقا للكتب المتقدمة في التوحيد، و في بعض الشرائع
بحر العلوم، ج1، ص: 193
وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ يعني أنزل التوراة على موسى، و الإنجيل على عيسى من قبل هذا الكتاب.
و روي عن الفراء أنه قال: اشتقاق التوراة من وري الزند و هو ما يظهر من النور و الضياء، فسمي التوراة بها، لأنه ظهر بها النور و الضياء لبني إسرائيل، و من تابعهم، و إنما سمي الإنجيل، لأنه أظهر الدين بعد ما درس، و قد سمي القرآن إنجيلا أيضا لما روي في قصة مناجاة موسى- عليه السلام- أنه قال: يا رب أرى في الألواح أقواما أناجيلهم في صدورهم، فاجعلهم أمتي قال اللّه تعالى: هم أمة محمد صلى اللّه عليه و سلم. و إنما أراد بالأناجيل القرآن.
قرأ حمزة و الكسائي، و ابن عامر التوراة بكسر الراء، و الباقون بالفتح ثم قال تعالى:
هُدىً لِلنَّاسِ معناه: و أنزل التّوراة على موسى، و الإنجيل على عيسى عليهما السلام، بيانا لبني إسرائيل من الضلالة وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ على محمد صلى اللّه عليه و سلم بعد التوراة و الإنجيل.
و قال الكلبي الفرقان هو الحلال و الحرام، يعني بيان الحلال و الحرام. و يقال: المخرج من الشبهات إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي جحدوا بمحمد صلى اللّه عليه و سلم، و بالقرآن، و ما أوتي من آيات نبوته لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة.
قال الكلبي: نزلت هذه الآية في وفد نجران، قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و جادلوه بالباطل. و يقال: في شأن اليهود. و يقال: في شأن مشركي العرب. وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ أي منيع بالنقمة ينتقم ممن عصاه إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ لا يذهب و لا يغيب عليه شيء فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ معناه أنه لا يخفى عليه قول الكفار و عملهم، فيجازيهم يوم القيامة، و هم وفد نجران، و سائر المشركين.
[سورة آلعمران (3): آية 6]
ثم أخبر عن صنعه، ليعتبروا بذلك فقال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ أي يخلقكم كيف يشاء قصيرا أو طويلا، حسنا أو ذميما، ذكرا أو أنثى.
و يقال: شقيا أو سعيدا. و هذا كما روي عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال: الشقي من شقي في بطن أمّه، و السعيد من سعد في بطن أمه ثم قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول: «الولد يكون في بطن أمّه، يكون نطفة أربعين يوما، ثمّ يصير علقة أربعين يوما، ثمّ يصير مضغة أربعين يوما، ثمّ ينفخ فيه الرّوح، ثمّ يكتب شقيّ أم سعيد».
و ذكر عن إبراهيم بن أدهم أن القراء اجتمعوا إليه، ليسألوا ما عنده من الحديث. فقال لهم: إني مشغول بأربعة أشياء، فلا أتفرغ لرواية الحديث فقيل له: و ما ذاك الشغل؟ فقال
بحر العلوم، ج1، ص: 194
أحدها: إني أتفكر في يوم الميثاق. حيث قال: هؤلاء في الجنة، و لا أبالي، و هؤلاء في النار و لا أبالي، فلا أدري من أي الفريقين كنت في ذلك الوقت. و الثاني حيث صوّرني في رحم أمي فقال الملك الموكل على الأرحام: يا رب شقي أم سعيد؟ فلا أدري كيف كان الجواب في ذلك الوقت. و الثالث حيث يقبض روحي ملك الموت فيقول: يا رب أ مع الكفار أم مع المؤمنين؟ فلا أدري كيف يخرج الجواب. و الرابع حيث يقول: وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: 59]، فلا أدري من أي الفريقين أكون. ثم قال تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يعني لا خالق و لا مصور إلا هو الْعَزِيزُ يعني المنيع بالنقمة لمن جحده الْحَكِيمُ يحكم تصوير الخلق على ما يشاء.
[سورة آلعمران (3): الآيات 7 الى 9]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني أنزل عليك جبريل بالقرآن مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ يعني من القرآن آيات واضحات و يقال مبينات بالحلال و الحرام. و يقال: ناسخات لم تنسخ قط هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ يعني أصل كل كتاب، و هي ثلاث آيات من سورة الأنعام و هو قوله تعالى:
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام: 151] و روي عن ابن عباس أنه سمع رجلا يقول: فاتحة الكتاب أم الكتاب؟ فقال له ابن عباس: بل أم الكتاب قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام: 151] إلى آخر ثلاث آيات الآية.
ثم قال تعالى وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ قال الضحاك أي منسوخات و قال الكلبي يعني ما اشتبه على اليهود كعب بن الأشرف و أصحابه ألم، و المص و يقال المحكم ما كان واضحا لا يحتمل التأويل، و المتشابه الذي يكون اللفظ يشبه اللفظ، و المعنى مختلف.
و يقال: المحكم الذي هو حقيقة اللغة، و المتشابه ما كان مجاوزا. و يقال: المحكمات التي فيها دلالة نبوة محمد صلى اللّه عليه و سلم، و المتشابه الذي اشتبهت الدلالة فيه، فإن قيل: إذا أنزل القرآن للبيان، فكيف لم يجعل كله، واضحا؟ قيل: الحكمة في ذلك، و اللّه أعلم أن يظهر فضل العلماء، لأنه لو كان الكل واضحا، لم يظهر فضل العلماء بعضهم على بعض. و هكذا يفعل
بحر العلوم، ج1، ص: 195
كل من يصنف تصنيفا يجعل بعضه واضحا، و بعضه مشكلا، و يترك للحيرة موضعا، لأن ما هان وجوده، قل بهاؤه.
ثم قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يعني ميل عن الحق و هم اليهود فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ قال الضحاك: يعني ما نسخ منه ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أي طلب الشرك و استبقاؤه ما هم عليه وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أي طلب ثناء هذه الأمة. و يقال: طلب وقت قيام الساعة وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ يعني منتهى ملك هذه الأمة، و ذلك أن جماعة من اليهود دخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و فيهم حيي بن أخطب و غيره، فقالوا: بلغنا أنه نزل عليك ألم، فإن كنت صادقا في مقالتك، فإن ملك أمتك يكون إحدى و سبعين سنة، لأن الألف في حساب الجمل واحد، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون، فنزل وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ، يعني: منتهى ملك هذه الأمة، ثم قال تعالى: وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قال الكلبي و مقاتل: استأنف الكلام يعني لما قال وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ، فقد تم الكلام ثم استأنف فقال: وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أي البالغون العلم في كتبهم التوراة و الإنجيل يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ يعني القرآن كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ناسخه و منسوخه، و محكمه و متشابهه، و هو عبد اللّه بن سلام و أصحابه. و قال بعضهم:
هو معطوف عليه. يقول: و ما يعلم تأويله إلا اللّه، و الراسخون في العلم يعني يعلمون تأويله.
و يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا .
و روى ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أنه كان يقرأ، و ما يعلم تأويله إلا اللّه، و يقول الراسخون في العلم: آمنا به، و هذا يوافق قول الكلبي و مقاتل. و قال عامر الشعبي: لو كان ابن عباس بين أظهرنا ما سألته عن آية من التفسير، لأني أحلّ حلاله، و أحرّم حرامه، و أو من بمتشابهه، و أكل ما لم أعلم منه إلى عالمه.
ثم قال تعالى: وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ يعني ما يتعظ بما أنزل من القرآن إلا ذوو العقول من الناس. ثم قال عبد اللّه بن سلام و أصحابه، حين سمعوا قول اليهود و تكذيبهم:
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا يعني لا تحوّل قلوبنا عن الهدى بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا يعني بعد ما أكرمتنا بالإسلام، و هديتنا لدينك وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً يني ثبتنا على الهدى إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ أي المعطي المثبت للمؤمنين رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ بعد الموت لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ أي في يوم لا شك فيه عند المؤمنين أنه كائن لا محالة.