کتابخانه تفاسیر
بحر العلوم، ج3، ص: 180
اللَّهِ واسِعَةٌ يعني: المدنية، فتهاجروا فيها. يعني: انتقلوا إليها، و اعملوا لآخرتكم، إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ يعني: هم الذين يصبرون على الطاعة للّه في الدنيا، جزاؤهم، و ثوابهم على اللّه، بِغَيْرِ حِسابٍ يعني: بلا عدد، و لا انقطاع. و روى سفيان عن عبد الملك بن عمير، عن جندب بن عبد اللّه، أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «أنا فرطكم على الحوض». قال سفيان لما نزل مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: 160] قال النبي صلّى اللّه عليه و سلم:
«ربّ زد أمّتي». فنزل: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة: 261] قال: «ربّ زد أمّتي» فنزل مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة: 245] فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «ربّ زد أمّتي» فنزل: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ فانتهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم.
له عز و جل:
[سورة الزمر (39): الآيات 11 الى 20]
قال عز و جل: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ و ذلك أن كفار قريش قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و سلم: ألا تنظر إلى ملة أبيك عبد اللّه، و ملة جدك عبد المطلب، و سادات قومك يعبدون الأصنام؟ فنزل: قُلْ يا نبي اللّه إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ يعني: التوحيد، وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ من أهل بلدي قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي و عبدت غيره، ينزل علي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي: في يوم القيامة قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ يعني: أعبد اللّه مُخْلِصاً لَهُ دِينِي أي: توحيدي. فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ من الآلهة. و هذا كقوله:
بحر العلوم، ج3، ص: 181
لَكُمْ دِينُكُمْ* [الكافرون: 6] و يقال: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ لفظه لفظ التخيير و الأمر، و المراد به التهديد و التخويف، كقوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ و كقوله: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا و يقال: قد بيّن اللّه ثواب المؤمنين، و عقوبة الكافرين. ثم قال: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ و ذلك قبل أن يؤمر بالقتال، فلما أيسوا منه أن يرجع إلى دينهم، قالوا: خسرت إن خالفت دين آبائك. فقال اللّه تعالى: قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني: أنتم الخاسرون، لا أنا. و يقال: الذين خسروا أنفسهم بفوات الدرجات، و لزوم الشركات، أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ يعني: الظاهر حيث خسروا أنفسهم، و أهلهم، و أزواجهم، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ يعني: أطباقا من نار، وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ يعني:
مهادا من نار، أو معناه: أن فوقهم نار، و تحتهم نار، ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ أي: ذلك الذي ذكر، يخوف اللّه به عباده في القرآن، لكي يؤمنوا.
يا عِبادِ فَاتَّقُونِ : أي: فوحِّدون، و أطيعون، وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ قال مقاتل:
يعني: اجتنبوا عبادة الأوثان. و قال الكلبي: الطَّاغُوتَ يعني: الكهنة أَنْ يَعْبُدُوها يعني:
أن يطيعوها، و رجعوا إلى عبادة ربهم وَ أَنابُوا إِلَى اللَّهِ أي: أقبلوا إلى طاعة اللّه. و يقال:
رجعوا من عبادة الأوثان إلى عبادة اللّه لَهُمُ الْبُشْرى يعني: الجنة. و يقال: الملائكة يبشرونهم في الآخرة، فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ يعني: القرآن فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ يعني: يعملون بحلاله، و ينتهون عن حرامه، و قال الكلبي: يعني: يجلس الرجل مع القوم، فيستمع الأحاديث، محاسن و مساوئ، فيتبع أحسنه، فيأخذ المحاسن، فيحدث بها، و يدع مساوئه. و يقال: يستمعون القرآن و يتبعون أحسن ما فيه، و هو القصاص، و العفو يأخذ العفو لقوله: وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: 126]، (و قال بعضهم: يستمع النداء، فيستجيب، و يسرع إلى الجماعة. و قال بعضهم: يستمع الناسخ، و المنسوخ، و المحكم من القرآن، فيعمل بالمحكم، و يؤمن بالناسخ و المنسوخ).
ثم قال: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ أي: وفقهم اللّه لمحاسن الأمور. و يقال: هَداهُمُ اللَّهُ أي: أكرمهم اللّه تعالى بدين التوحيد وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ يعني: ذوي العقول.
قوله عز و جل: أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ يعني: وجب له العذاب. و يقال: أ فمن في علم اللّه تعالى أنه في النار، كمن لا يجب عليه العذاب. أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ يعني: تستنقذ من هو في علم اللّه تعالى، أنه يكون في النار بعمله الخبيث. و يقال: من وجبت له النار: و قدرت عليه.
ثم ذكر حال المؤمنين المتقين فقال عز من قائل: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ يعني:
وحدوا ربهم، و أطاعوا ربهم، لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ في الجنة، و هي العلالي.
بحر العلوم، ج3، ص: 182
غرف مبنية، مرتفعة بعضها فوق بعض، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ في القرآن، لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ .
[سورة الزمر (39): الآيات 21 الى 26]
قوله عز و جل: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ أي:
فأدخله في الأرض فجعله ينابيع. يعني: عيونا في الأرض تنبع. و يقال: فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ يعني: جاريا في الأرض، و هي تجري فيها. و يقال: جعل فيها أنهارا و عيونا ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أحمر، و أصفر، و أخضر، ثُمَّ يَهِيجُ أي: يتغير فَتَراهُ مُصْفَرًّا أي: يابسا بعد الخضرة. و يقال: ثُمَّ يَهِيجُ يعني: ييبس. و يقال: يَهِيجُ أي:
يتم، و يشتد من هاج يهيج. أي: تم يتم فَتَراهُ مُصْفَرًّا متغيرا عن حاله، ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً قال القتبي: حُطاماً مثل الرفات، و الفتات. و قال الزجاج: الحطام ما تفتت، و تكسر من النبت. و قال مقاتل: حُطاماً يعني: هالكا إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى أي: فيما ذكر لعظة لِأُولِي الْأَلْبابِ يعني: لذوي العقول من الناس أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ يعني:
وسع اللّه قلبه للإسلام. و يقال: لين اللّه قلبه لقبول التوحيد، فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ يعني:
على هدى من اللّه تعالى. و جوابه مضمر. يعني أ فمن شرح اللّه صدره للإسلام، و اهتدى، كمن طبع على قلبه، و ختم على قلبه فلم يهتد. و يقال: فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ يعني: القرآن.
لأن فيه بيان الحلال و الحرام. فهو على نور من ربه لمن تمسك به. و يقال: على نور يعني:
بحر العلوم، ج3، ص: 183
التوحيد، و المعرفة. و روي في الخبر أنه لما نزلت هذه الآية: أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ قالوا: فكيف ذلك يا رسول اللّه؟ قال: «إذا دخل النّور في القلب انفسح، و انشرح».
قالوا: فهل لذلك علامة؟ قال: «نعم. التّجافي عن دار الغرور، و الإنابة إلى دار الخلود، و الاستعداد للموت قبل نزول الموت».
ثم قال: فَوَيْلٌ يعني: الشدة من العذاب لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ يعني: لمن قست، و يبست قلوبهم، مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تعالى. و يقال: القاسية. الخالية من الخير، أُولئِكَ يعني:
أهل هذه الصفة فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: في خطأ بيّن.
قوله عز و جل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني: أحكم الحديث، و هو القرآن. و ذلك أن المسلمين قالوا لبعض مؤمني أهل الكتاب، نحو عبد اللّه بن سلام: أخبرنا عن التوراة، فإن فيها علم الأولين و الآخرين. فأنزل اللّه تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني: أنزل عليكم أحسن الحديث، و هو القرآن. و يقال: أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني: أحسن من سائر الكتب، لأن سائر الكتب صارت منسوخة بالقرآن، كِتاباً مُتَشابِهاً يعني: يشبه بعضه بعضا، و لا يختلف.
و يقال: مُتَشابِهاً يعني: موافقا لسائر الكتب في التوحيد، و في بعض الشرائع. و روي عن الحسن البصري أنه قال: مُتَشابِهاً يعني: خيارا لا رذالة فيه. و يقال: مُتَشابِهاً اشتبه على الناس تأويله.
ثم قال: مَثانِيَ يعني: أن الأنباء، و القصص، تثنى فيه. و يقال: سمي مثاني، لأن فيه سورة المثاني. يعني: سورة الفاتحة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ .
ثم قال: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ يعني: ترتعد مما فيه من الوعيد، جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ .
و يقال: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ يعني: تتحرك مما في القرآن من الوعيد. و يقال: ترتعد منه الفرائض.
ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ يعني: بعد الاقشعرار إِلى ذِكْرِ اللَّهِ من آية الرحمة، و المغفرة.
يعني: إذا قرأت آيات الرجاء، و الرحمة، تطمئن قلوبهم، و تسكن، ذلِكَ يعني: القرآن هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ يعني: بالقرآن من يشاء اللّه أن يهديه إلى دينه وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن دينه فَما لَهُ مِنْ هادٍ يعني: لا يقدر أحد أن يهديه، بعد خذلان اللّه تعالى.
قوله عز و جل: أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يعني: أ فمن يدفع بوجهه شدة سوء العذاب، و جوابه مضمر. يعني: هل يكون حاله كحال من هو في الجنة. يعني: ليس الضال الذي تصل النار إلى وجهه، كالمهتدي الذي لا تصل النار إلى وجهه، ليسا سواء. و قال أهل اللغة: أصل الاتقاء في اللغة، الإوتقاء، و هو التستر. يعني: وجهه إلى النار كالذي لا يفعل ذلك به. و روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يعني: يجر على وجهه في النار، و هذا كقوله: أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما
بحر العلوم، ج3، ص: 184
شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) [فصلت: 40] و يقال: أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ معناه:
أنه يلقى في النار مغلولا، لا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه، يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ يعني: للكافرين، ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ من التكذيب.
قوله عز و جل: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: من قبل قومك، رسلهم، فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ يعني: لا يعلمون، و لا يحتسبون، و هم غافلون. فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ العذاب فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ يعني: أعظم مما عذبوا به في الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ و لكنهم لا يعلمون.
[سورة الزمر (39): الآيات 27 الى 31]
قوله عز و جل: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يعني: بيّنا في هذا القرآن من كل شيء. و قد بيّن بعضه مفسرا، و بعضه مبهما مجملا، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي:
لكي يتعظوا قُرْآناً عَرَبِيًّا يعني: أنزلناه قرآنا عربيا بلغة العرب غَيْرَ ذِي عِوَجٍ يعني: ليس بمختلف، و لكنه مستقيم. و يقال: غير ذي تناقض. و يقال: غير ذي عيب. و يقال: غَيْرَ ذِي عِوَجٍ أي: غير مخلوق. قال أبو الليث رحمه اللّه: حدثنا محمد بن داود. قال: حدثنا محمد بن أحمد بإسناده. قال: حدثنا أبو حاتم الداري، عن سليمان بن داود العتكي، عن يعقوب بن محمد بن عبد اللّه الأشعري، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال: في قوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ قال: غير مخلوق لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: لكي يتقوا الشرك ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي: بيّن شبها رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ أي: عبدا بين موالي مختلفين يأمره، هذا بأمر، و ينهاه هذا عنه. و يقال:
مُتَشاكِسُونَ أي: مختلفون، يتنازعون، وَ رَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ أي: خالصا لرجل لا شركة فيه لأحد. قرأ ابن كثير، و أبو عمر، سالما بالألف، و كسر اللام. و الباقون سَلَماً بغير ألف، و نصب السين. فمن قرأ: سالما فهو اسم الفاعل على معنى سلم، فهو سالم. و معناه:
الخالص. و من قرأ سَلَماً فهو مصدر. فكأنه أراد به رجلا ذا سلم لرجل. و معنى الآية: هل يستوي من عبد آلهة مختلفة، كمن عبد ربا واحدا. و قال قتادة: الرجل الكافر، و الشركاء الشياطين، و الآلهة، و رجلا سلما. المؤمن يعمل للّه تعالى وحده. و قال بعضهم: هذه المثل
بحر العلوم، ج3، ص: 185
للراغب، و الزاهد. فالراغب شغلته أمور مختلفة، فلا يتفرغ لعبادة ربه. فإذا كان في العبادة، فقلبه مشغول بها، و الزاهد قد يتفرغ عن جميع أشغال الدنيا، فهو يعبد ربه خوفا و طمعا، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا يعني: عنده في المنزلة يوم القيامة.
الْحَمْدُ لِلَّهِ قال مقاتل: الْحَمْدُ لِلَّهِ حين خصهم. و يقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ على تفضيل من اختاره، على من اشتغل بما دونه. و يقال: يعني: قولوا الحمد للّه، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ عبادة رب واحد، خير من عبادة أرباب شتى. و يقال: لا يَعْلَمُونَ أنهما لا يستويان. و يقال: لا يَعْلَمُونَ توحيد ربهم. إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ذلك أن كفار قريش قالوا: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: 30]، يعني: ننتظر موت محمد- عليه السلام- فنزل:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ يعني: أنت ستموت، و هم سيموتون. و يقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ يعني: إنك لميت لا محالة، و إنهم لميتون لا محالة، و الشيء إذا قرب من الشيء سمي باسمه. فالخلق كلهم إذا كانوا بقرب من الموت، فكل واحد منهم يموت لا محالة، فسماهم ميتين.
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ أي: تتكلمون بحججكم. الكافر مع المؤمن، و الظالم مع المظلوم. فإن قيل: قد قال في آية أخرى: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ [ق: 28] قيل له: إن في يوم القيامة ساعات كثيرة، و أحوالها مختلفة، مرة يختصمون، و مرة لا يختصمون.
كما أنه قال: فهم لا يتساءلون، و قال في آية أخرى: وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27)* [الصافات: 27] يعني: في حال يتساءلون، و في حال لا يتساءلون، و هذا كما قال في موضع آخر:
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ (39) [الرحمن: 39] و قال في آية أخرى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) [الحجر: 92] و كما قال في آية أخرى: لا يتكلمون، و في آية أخرى أنهم يتكلمون، و نحو هذا كثير في القرآن. و روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنه قال: «لا تزال الخصومة بين النّاس يوم القيامة، حتى تتخاصم الرّوح و الجسد، فيقول الجسد: إنّما كنت بمنزلة جزع ملقى، لا أستطيع شيئا. و تقول الرّوح: إنّما كنت ريحا، لا أستطيع أن أعمل شيئا. فضرب لهما مثل الأعمى و المقعد، فحمل الأعمى المقعد، فيدلّه المقعد ببصره، و يحمله الأعمى برجليه». و قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أنس قال: سألت أبا العالية عن قوله: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ ثم قال: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فكيف هذا؟ قال: أما قوله: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ فهو لأهل الشرك، و أما قوله: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فهو لأهل القبلة، يختصمون في مظالم ما بينهم.
بحر العلوم، ج3، ص: 186
[سورة الزمر (39): الآيات 32 الى 37]
وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37)
ثم قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ أي: فلا أحد أظلم ممن كذب على اللّه بأن معه شريكا، وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ يعني: بالقرآن، و بالتوحيد. و يقال: وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ يعني: بالصادق و هو النبي صلّى اللّه عليه و سلم أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ يعني: مأوى للذين يكفرون بالقرآن. فاللفظ لفظ الاستفهام، و المراد به التحقيق كقوله: أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) [التين: 8]. وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أي: بالقرآن وَ صَدَّقَ بِهِ أي:
أصحابه. و يقال: وَ صَدَّقَ بِهِ المؤمنون. و قال القتبي: وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ هو في موضع جماعة. و معناه: و الذين جاءوا بالصدق، و صدقوا به، و هذا موافق لخبر ابن مسعود. و قال قتادة، و الشعبي، و مقاتل، و الكلبي: وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ يعني: النبي صلّى اللّه عليه و سلم وَ صَدَّقَ بِهِ يعني: المؤمنون. و ذكر عن علي بن أبي طالب أنه قال: وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ يعني: النبي صلّى اللّه عليه و سلم وَ صَدَّقَ بِهِ يعني: أبو بكر أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ الذين اتقوا الشرك، و الفواحش. و قرأ بعضهم: و صدق بالتخفيف. يعني: النبي صلّى اللّه عليه و سلم قرأ على الناس كما أنزل عليه، و لم يزد في الوحي شيئا، و لم ينقص من الوحي شيئا.
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني: لهم ما يريدون، و يحبون في الجنة، ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أي: ثواب الموحدين، المطيعين، المخلصين لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ يعني: ليمحو عنهم، و يغفر لهم، أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا يعني: أقبح ما عملوا، مخالفا للتوحيد، وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ أي: ثوابهم بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ يعني يجزيهم بالمحاسن، و لا يجزيهم بالمساوئ، لأنه ليس لهم ذنب، و لا خطايا، فلا يجزيهم بمساوئهم.
أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ قرأ حمزة، و الكسائي: عباده بالألف بلفظ الجماعة. يعني: