کتابخانه تفاسیر
بيان المعانى، ج2، ص: 104
أبي بكر رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟
قلنا بلى يا رسول اللّه، قال الإشراك باللّه و عقوق الوالدين و كان متكئا فجلس و قال: ألا و قول الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت .. و كان عمر ابن الخطاب رضي اللّه عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة و يسخم وجهه و يطوف به بالأسواق. فليتنا نفعل بعض هذا في هؤلاء الذين تجارأوا على اللّه في شهاداتهم و أتلفوا حقوق ذوي الحقوق. اللهم سخر عبادك لاتباع الهدى و سلوك سنن الصلاح و اجعلهم داخلين في قولك «وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً» 72 معرضين عنه لا يلتفتون إليه و لا يلقون له بالا، و أسرعوا عن أهله تنزيها لأنفسهم الطاهرة من أن يسمعوا كلام الغواة المتفحشين بالكلام البذيء الذي يجب أن يتباعد عنه و على العقلاء أن يعرضوا عن أهل اللغو و لا يجالسوهم و لا يرافقوهم حفظا لكرامتهم و هيبة لوقارهم و احتراما لمكانتهم و إهانة لهم، أخرج ابن عساكر عن إبراهيم بن ميسرة قال: بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضا و لم يقف فقال صلى اللّه عليه و سلم لقد أصبح ابن مسعود و أمسى كريما، ثم تلا هذه الآية. فالوقوف مواقف هؤلاء و الخوض معهم قد يؤدي للانخراط معهم و لذلك وصف صلى اللّه عليه و سلم ابن مسعود بالكرم لإعراضه عن اللهو، فمن أراد أن يكون كريما عند اللّه و عند الناس فلا يقفنّ مواقف التهم.
و لا معنى لقول من قال أن هذه الآية منسوخة بآية القتال لأن الإعراض عن مثل هذا مطلوب قبل الأمر بالقتال و بعده ثم ذكر صفتهم عند ما يوعظون فقال «وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ» أو زجروا فيها و حذروا مخالفتها فسمعوها سماع قبول بدليل قوله «لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها» أي يسقطوا و ينكبوا «صُمًّا وَ عُمْياناً» 73 بأن لا يلقوا لها بالا، بل يتلقون تلك الآيات التي ذكروا بها بالقبول، و يعوها بالإذعان، و يرعوها بالطاعة، و يخروا لها سجدا و بكيا، بآذان واعية و قلوب منكسرة و قوالب خاضعة مخبته، لا كالكفرة الذين لا يسمعونها إذا تليت و لا يعقلونها و لا ينظرون إليها و لم يقبلوها و لم يستكينوا لربهم.
بيان المعانى، ج2، ص: 105
مطلب قرة العين و سخنها و الذرية:
ثم ذكر صفة دعائهم لأنفسهم بقوله «وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا» أولادهم و أولادهم و اجعلهم لنا «قُرَّةَ أَعْيُنٍ» أبرارا صالحين أتقياء فائزين تقر أعيننا بهم لما هم عليه من عمل صالح و خلق كريم و ذكر حسن. و اعلم أن ليس أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته و أولاده و أحفاده طائعين لأوامر اللّه مطيعين له ليطمع أن يحلوا معه في الجنة فيتم سروره بهم في الدنيا و الآخرة، و إقرار العين بردها لما يرد على صاحبها من الفرح و السرور، فتدمع دمعا باردا لشدة انشراح صدره، لهذا يقال أقرّ اللّه عينيك. و ضدّه حمانا اللّه، أسخن اللّه عينيك. و اسخان العين حرها لما يرد على صاحبها من الضيق و الحزن فتدمع دمعا حارا لما حل به من الكرب و ضيق الصدر، قال أبو تمام:
فأما عيون العاشقين فأسخنت
و أما عيون الشامتين فقرت
و قال الآخر:
نعم الإله على العباد كثيرة
و أجلهن نجابة الأولاد
و قال تعالى هنا، أعين جمعا للعيون الباهرة، لأن لفظ العيون في القرآن العظيم كله جمع للعيون الجارية. و قرئ ذرّيتنا بالإفراد و قرئت بالجمع قال تعالى «وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً» 74 يقتدى بنا في أفعال الخير اللهم اجعلنا منهم و قرّ أعيننا بأولادنا و أحفادنا يا اللّه يا اللّه يا اللّه بجاهك على نفسك، و حرمة كتبك و حق أنبيائك و مكانة أوليائك عليك و إمام يستعمل مفردا و جمعا و اختير على أئمة المطابق لما قبله لكونه أوفق للفواصل التي قبله و بعده، و المراد هنا الجمع رعاية لمفعول جعل قال تعالى «أُوْلئِكَ» الذين هذه صفاتهم الممدوحة «يُجْزَوْنَ» من ربهم يوم الجزاء «الْغُرْفَةَ» الدرجة العالية في الجنة، لأن الغرف تطلق على البيوت الفوقية و الحجر على السفلية و البيت عليهما، و ذلك الجزاء الحسن ينالهم «بِما صَبَرُوا» على طاعة ربهم و عن شهوات أنفسهم في الدنيا هذا على أن الباء في بما سببية أو بدل صبرهم على أنها مصدرية و عليه قوله:
بيان المعانى، ج2، ص: 106
فليت لي بهم قوما إذا ركبوا
شنّوا الإغارة فرسانا و ركبانا
و علاوة على الجزاء الحسن الذي يعطونه و يرون ثوابه فإنهم يكرمون عليه «وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً» 75 من كل مكروه و لا مكروه في الجنة أي دعاء بالبقاء فيها و دعاء بالسلامة، و السلام من اللّه و ملائكته و من بعضهم أيضا، و هؤلاء يبقون في هذا النعيم «خالِدِينَ فِيها» أي الجنة الموصوفة بالغرفة التي هي أعلى منازلها و تسمى محل الأمن من الأكوار قال تعالى «وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ» الآية 78 من سورة سبأ في ج 2 «حَسُنَتْ» تلك المنزلة الكريمة «مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً» 76 كرمت مقاما و قرارا و هذا بمقابل «ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً» الآية 66 المارة بسياق أهل العذاب الجهنميين «قُلْ» يا أكرم الرسل إن الفائزين بتلك النعم الجليلة التي يتنافس بها المتنافسون إنما نالوها بما عدد من محاسنهم، و لولاها لم يعتدّ بهم كغيرهم، كما أن أولئك الساقطين بتلك البلايا القبيحة التي يتباعد عنها المتباعدون إنما عوقبوا عليها بما عدد من مساويهم الخبيثة و لولاها لكانوا كغيرهم منعمين، و لهذا أكد عليهم يا حبيبي و قل لهم «ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي» ما يصنع و ما يبالي بكم «لَوْ لا دُعاؤُكُمْ» إياه عند الشدائد الملمات، و لكن لا ينفع هذا نفعا دائما إلا إذا آمنتم به و برسوله و بكتابه، فإذ ذاك يظهر لكم عند ربكم وزن و قيمة و يعلو قدركم و تسمو مكانتكم عنده، لأنه لم يخلق الخلق إلا ليعبدوه و يحمدوه و يشكروا آلاءه لا لحاجة بهم- راجع تفسير الآية 56 من الذاريات في ج 2- لأن معنى عبأ ثقل و العبء في الأصل ثقل، و النفي منه معناه عدم الاعتناء و الاعتداد و الاكتراث بالشيء. أي أيّ اعتداد يعتد بكم ربكم إذا لم يكن لكم عنده قدر، فوجودكم لديه و عدمه سواء، و جواب لو لا محذوف و تقديره لما اعتد بكم، لأنه لو لا ما يقع منكم من الدعاء لكنتم و البهائم سواسية، و هذا بيان لحال المؤمنين من هذا الخطاب العام، أما حال الكفرة منهم فقد ذكره بقوله «فَقَدْ كَذَّبْتُمْ» برسولي و كتابي أيها الكفرة و جحدتم ربوبيتي و رفضتم توحيدي و عبادتي و كذبتم بي و أصررتم على مخالفة حكمي، و لم تقتدوا بأولئك الطائعين الصالحين من عبادي،
بيان المعانى، ج2، ص: 107
الذين بوأتهم دار كرامتي بإنابتهم و إخباتهم لأوامري. قالوا قرأ ابن عباس و ابن الزبير و عبد اللّه «فقد كذّب الكافرون» و هذه ان صحّت عنهم فإنهم عنوا بها تفسيرا لا قراءة، و إلا فهي قراءة لا يعتدّ بها و لا يجوز نقلها لما فيها من الزيادة على ما في المصاحف المجمع عليها. على أن الآية تؤدي هذا المعنى دون حاجة للجنوح إلى هذه القراءة غير الصحيحة المخالفة للإجماع. أما ما قاله بعض المفسرين من أن الخطاب لكفرة قريش خاصة، و أن المعنى ما يعبأ بكم لو لا إرادته لدعائكم له لعبادته لما عبأ بكم و لا خلقكم، فلا ينافي ما ذكر في تفسيرها، لأن الخطاب فيها عام يشمل كفرة قريش و غيرهم كما يشمل المؤمنين صدرها عامة أيضا، و قد أوضحنا هذا أعلاه، ثم هدد الكافرين المرادين بقوله «فَقَدْ كَذَّبْتُمْ» بقوله جل قوله «فَسَوْفَ يَكُونُ» عذابي لكم «لِزاماً» 77 لا يفارقكم و لا ينفك عنكم بل يحيق بكم و يلزمكم حتى يكبكم في النار و يصليكم فيها، و هذا غاية في التهديد و نهاية في الوعيد لأن المعنى أن التكذيب لازم لمن كذب فلا يعطى التوبة كي ينال جزاءه، أجارنا اللّه من ذلك و لم تكرر هذه الكلمة في القرآن إلا هنا و في الآية 129 من سورة طه الآتية فقط. هذا، و اللّه أعلم، و أستغفر اللّه، و لا حول و لا قوة إلا باللّه العلي العظيم، و صلى اللّه على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم.
تفسير سورة فاطر عدد 43- 35
نزلت بمكة بعد سورة الفرقان و هي خمس و أربعون آية، و تسعمائة و سبعون كلمة، و ثلاثة آلاف و مائة و ثلاثون حرفا، و تسمى سورة الملائكة و قد ذكرنا في أول سورة الفاتحة المارة ما يتعلق بأولها، و مثلها في عدد الآي سورة ق.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
قال تعالى «الْحَمْدُ لِلَّهِ» المحمود بكل مكان، المعبود في كل زمان، حمد نفسه بنفسه، جلت عظمة ذاته و قسمه تكريما لقدره، و تعليما لعباده، كي يمجّدوا خالقهم و رازقهم و مانحهم نعمه «فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» بفتقها بعضها عن بعض، لأن الفاطر معناه الشاق و أصل الفطر
بيان المعانى، ج2، ص: 108
الشق طولا، تقول فطره أي شقه قال تعالى «أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما» الآية 20 من سورة الأنبياء في ج 2 راجع تفسيرها لأنها من معجزات القرآن و الأمور الغيبية. ثم تجوز فيه لكل شق، و المعنى أنه موجد خلقهما و العوالم التي فيهما لكونهما من الممكن، و الأصل في كل ممكن العدم ليشير إليه قوله تعالى «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» الآية من آخر سورة القصص الآتية، و نظيرتها الآية 37 من سورة الرحمن في ج 3 من حيث المعنى و قوله صلى اللّه عليه و سلم ما شاء اللّه كان و ما لم يشأ لم يكن، و قد صرح بذلك فلاسفة الإسلام بقولهم:
الممكن في نفسه ليس
و هو عن علته ايس
فذلك الإله الذي ابتدعها على غير مثال سابق، و شقها بعضها عن بعض، هو المستحق وحده للحمد. قال ابن عباس: ما كنت أدري ما معنى فاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما إني فطرتها أي ابتدأتها بالشق يعني هو الذي حفرها أولا و هو أحق بها. و هو كذلك شرعا إذا كانت الأرض التي فيها غير مملوكة للغير و إلا فلا «جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا» منه إلى أنبيائه يبلغونهم أوامره و نواهيه و غيرها بالوحي و التكليم، أما الإلهام و الرؤيا الصادقة اللذان من جملة أقسام الوحي فليسا بواسطة الرسل- راجع بحث الوحي و الإرهاص و الفرق بين الوحي و الإلهام في المقدمة.
مطلب جواز إضمار الموصول و لا مجال في طلب الرزق:
و قريء فطر و جعل ماضيين، على إضمار اسم الموصول على مذهب الكوفيين، و أجازه الأخفش و ذهب إليه ابن مالك، و حجتهم قوله تعالى «آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ» الآية 46 من سورة العنكبوت في ج 2 أي و الذي أنزل إليكم و قول حسان:
أمن يهجو رسول اللّه منكم
و ينصره و يمدحه سواء
أي و من ينصره و من يمدحه، و مثله قول الآخر:
ما الذي دأبه احتياط و عزم
و هواه أطاع يستويان
بيان المعانى، ج2، ص: 109
أي الذي هواه أطاع. و لم يجز البصريون حذف الموصول الاسمي البتة، و ان ابن مالك اشترط لجوازه أن يكون معطوفا على موصول آخر موجود، كما هو في الآية و البيتين و ما نحن فيه ليس كذلك، لعدم وجود هذا الشرط في هذه الآية، تدبّر. ثم وصف اللّه تعالى ملائكته هؤلاء بكونهم «أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى» اثنين اثنين «وَ ثُلاثَ» ثلاثة ثلاثة «وَ رُباعَ» أربعة أربعة. و اعلم أن العدد هنا ليس للتقييد، فالآية على حد قوله تعالى فمنهم من يمشي على رجلين الآية 49 من سورة النور في ج 3 لأن من الملائكة من له ستمائة جناح كما روى عن جبريل عليه السلام، و يوجد في الحيوانات من لها سبع و سبعون رجلا، و لكن العمدة على أربع. هذا، و اعلم أنه لا يستنبط من هذا أن من الملائكة من له تسع أجنحة، و إن كان يجوز وجوده، و عليه فلا يصح الجمع هنا بين الأصناف الثلاثة و يجزم يكون ملكا له تسعة أجنحة على رأي من ضم هذه الأعداد بعضها لبعض في سورة النساء الآية 3 في ح 3، إذ لا يصح أن يجمع أحد بين تسع نسوة، راجع تفسيرها هناك تجد ما يقنعك على أن اللغة العربية تأبى الجمع في مثل هذا، تأمل قدرة القادر فإنه «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ» لم يتقيد بعدد و نوع مخصوص أو جنس من أجناس الخلق كله من حسن و قبيح، و هذه الزيادة تتفاوت في الخلق و الخلق و الصوت و الملاحة في العين و الأنف و الوجه و خفة الروح و جعودة الشعر و فلج الأسنان و طلاقة الوجه و بشاشته و حلاوة المنطق و الطول و أضداد ذلك، و في الصنعة من خياطة و صياغة و حياكة و تجارة و حجامة و نجارة و غيرها، و في الصفة في الدين و الفقر و الغنى و المال و العلم و الجهل و العقل، و غيرها من كل شيء، لأن الآية عامة تشمل الأوصاف الحسية و المعنوية «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 1 و هذا تعليل بطريق التحقيق للحكم المذكور، أي أن شمول قدرته تعالى بجميع الأشياء مما يوجب قدرته جل شأنه على الزيادة في الخلق كله قال تعالى «ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ» رزق و صحة و ولد و مطر و غيره من جميع ما يشمله معنى الرحمة «فَلا مُمْسِكَ لَها» من أحد ما البتة «وَ ما يُمْسِكْ» من تلك
بيان المعانى، ج2، ص: 110