کتابخانه تفاسیر
بيان المعانى، ج2، ص: 390
عز و جل أو مناديه المأمور بذلك «فَيَقُولُ» للمشركين «أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» 62 في الدنيا أنهم شركاء معي في ملكي، و انهم واسطة نفعكم و ضركم الذين كنتم تتضرعون بهم زلفى و تزعمون أن لهم يدا عندنا، و مفعول زعم الأول محذوف تقديره تزعمونهم، و الثاني محذوف أيضا تقديره شركائي، لأن زعم يتعدى إلى مفعولين جائز حذفهما، قال في الكشاف: يجوز حذف المفعولين في باب ظن و لا يصح الاقتصار على أحدهما، و قال أبو حيان: إذا دل دليل على أحدهما جاز حذفه كقوله:
كان لم يكن بين إذا كان بعده
تلاق و لكن لا إخال تلاقيا
أي لا إخال بعد البين تلاقيا، قال تعالى «قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ» الوارد في الآية؟؟؟ من سورة السجدة في ج 2، أي الواجب عليهم العذاب بما جنت أيديهم، و هم المعبودون و الرؤساء الكافرون الذين كانوا يأتمرون بأمرهم، و ينتهون بنهيهم «رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا» أي أتباعنا الذين دعوناهم للغواية أَغْوَيْناهُمْ» باختيارهم و رضاهم لا بطريق القسر حتى تؤاخذ عليه، و ذلك أن الضال المضل له كفلان من العذاب، كفل على ضلاله، و كفل على إضلاله، راجع تفسير الآيتين 25 و 18 من سورة النحل في ج 2، لذلك تبرأوا منهم و عدوهم كأنفسهم بقولهم «كَما غَوَيْنا» نحن باختيارنا و رغبتنا «تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ» الآن إذ ظهر خطأنا فيه «ما كانُوا» هؤلاء «إِيَّانا يَعْبُدُونَ» 63 بل عبدوا شهواتهم راجع الآية 167 من سورة البقرة في ج 3 «وَ قِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ» من الأصنام و النجوم و النار و الحيوان و غيرها «فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ» لأن اللّه ختم على أفواه الناطقين منهم و لم يجعل قوة التكلم في الجمادات منها، فأيسوا مما كانوا يتوقعونه من شفاعتهم «وَ رَأَوُا الْعَذابَ» المهيأ لهم هناك على سوء أعمالهم و هؤلاء الخاسرون «لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ» 64 في الدنيا لما حل بهم ذلك العذاب و لكنهم ضلوا فحاق بهم ضلالهم «وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ» و اذكر يا سيد الرسل لقومك يوم يسألهم في ذلك الموقف «فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ» 65 حين دعوكم إلى الإيمان و رفض الأوثان «فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ» خفيت عليهم
بيان المعانى، ج2، ص: 391
الأخبار و اشتبهت عليهم الأعذار و وقعوا في حيرة «يَوْمَئِذٍ» يوم يلقى عليهم هذا السؤال «فَهُمْ» كلهم مشغولون بأنفسهم «لا يَتَساءَلُونَ» 66 بعضهم مع بعض عما وقع منهم بالدنيا، بل يسكتون يعلوهم الذل و الوجل رجاء أن تكون لهم حجة أو عذر عند اللّه يلقى في قلوبهم صورته، لأن ذلك الموقف يذمل فيه كل الخلق و منهم الأنبياء لشدة هوله، فيفوضون فيه الجواب عما يسألون عنه إلى علام الغيوب مع نزاهتهم عن غائلة السؤال عنه، فما ظنك بأولئك الضلال؟ و قرىء فعميّت بالتشديد، قال تعالى «فَأَمَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً» في دنياه «فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ» 67 في الدار الآخرة، وعي هنا للتحقيق أي وجب أن يكونوا من الناجحين السعداء بفضل اللّه و حسن أعمالهم و أما من كان على العكس فوجب أن يكونوا من الخاسرين المعذبين بعدل اللّه و سوء أعمالهم «وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ» من الأعيان و الاعراض، و الوقف على يختار لا على يشاء و هو معطوف على يخلق، فلا يخلق شيئا بلا اختيار، و هو أعلم بوجود الحكمة فيما يختاره، و هؤلاء المخلوقون كلهم «ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» التّخير في شيء من أمرهم، كالطيرة بمعنى النظير، بل للّه الخيرة عليهم (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ) .
مطلب نفي الاختيار عن العبد:
هذا، و في ظاهر هذه الآية نفي الاختيار عن العبد رأسا كما يقوله الجبرية و من أثبت للعبد اختيارا قال إنه لكونه بالدواعي التي لو لم يخلقها اللّه تعالى فيه لم يكن كان في حيز العدم، و هذا مذهب الأشعري على ما حققه الإمام العلامة الدّواني، قال الذي أثبته الأشعري هو تعلق قدرة العبد و إرادته الذي هو سبب عادي لخلق اللّه تعالى الفعل فيه و إذا فتشنا عن مبادئ الفعل وجدنا الإرادة منبعثة عن شوق له و رغبة فيه، و تصور له و قصد، و هذا هو الاختيار، و المعنى و اللّه أعلم، أن هؤلاء الذين يقترحون عليك الاقتراحات و يتمنون الأماني كما حكى اللّه عنهم في الآية 6 فما بعدها من سورة الفرقان المارّة و غيرها لا يليق بهم أن يتجاوزوا على اللّه و يتحكموا في طلباتهم لأن الكلام مسبوق لتجهيل المشركين في اختيارهم ما أشركوه باللّه و اصطفائهم إياه للعبادة و الشفاعة لهم يوم القيامة، كما يرمز إليه قوله آنفا (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) . أما
بيان المعانى، ج2، ص: 392
ما قيل ان هذه الآية نزلت ردا على قول الوليد بن المغيرة (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) الآية 31 من الزخرف في ج 2 فغير وجيه لأن هذه الآية لم تنزل بعد و لم يتفوّه بمقالته هذه بعد، و كذلك ما قيل إنها نزلت ردا لقول اليهود: (لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل لآمنا به) كما سنفصّله في الآية 38 من سورة البقرة في ج 3، لأن هذه الآية مكية بالاتفاق و ليس بين اليهود و حضرة الرسول أخذ ورد في مكة، و لا يصح جعل ما في قوله تعالى (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) موصولة باعتبارها مفعولا ليختار، أي يجعل الوقف على ما يشاء و الابتداء بقوله و يختار و تسليطه على ما باعتبارها مفعولة، و عليه يكون المعنى و يختار الذي فيه الخير و الصلاح لهم على أن يكون ذلك الاختيار بطريق التفضل و الكره عند أهل السنة و الجماعة، و بطريق الوجوب عند المعتزلة، بل ما في الآية نافية، لأن اللغة لا تساعد أن تكون الخيرة بمعنى الخير، و لأن قوله تعالى بعد «سُبْحانَ اللَّهِ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» لا يناسب المقام، كما أنه لا يناسب ما قبله و هو (يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ) على الإطلاق لأن في حصره بالأصلح قيدا و اللّه منزه عن القيد، و لأن فيه حذف العائد إذا جعلت ما بمعنى الذي، فيحتاج الى ضمير يعود اليه، إذ لاتتم الآية، و لا يوجد، و لمخالفته ظاهر الآية، تدبر، قال تعالى «وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ» تخفيه من عداوة لك يا محمد «وَ ما يُعْلِنُونَ» 69 منها فيما بينهم من قولهم هلا اختار اللّه غير هذا للنبوة، قاتلهم اللّه ما كان لهم الخيرة من أمرهم، فكيف يتمنون على اللّه الأماني و يعترضون عليه، راجع تفسير الآية 134 من سورة الأنعام في ج 2 «وَ هُوَ اللَّهُ» المستأثر بالإلهية و الاختيار وحده و جملة «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» تقرير لاختصاصه بها كقولك القبلة الكعبة لا قبلة غيرها، لا كقولهم الحج عرفة، لأن عرفة معظم الحج لا كله و هذا الإله المنزّه المنفرد بالألوهية المتصرف بجميع ما في الكون ناميه و جامده، جوهره و عرضه «لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى» أي الدنيا لأنها قبل الآخرة «وَ الْآخِرَةِ» لكونها بعد الدنيا، أما البرزخ الكائن بينهما فهو حاجز غير حصين لانتهائه بها، و من هذا الحمد قول السعداء في الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الآية 33
بيان المعانى، ج2، ص: 393
من سورة فاطر المارة و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) الآية 36 من سورة الزمر في ج 2 و قوله آخرها (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) و هذا الحمد على طريق التلذّذ لا التكليف لانتهائه بالآخرة «لَهُ الْحُكْمُ» القطعي بين الخلائق فيهما وحده لارادّ له و لا معقّب «وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» كلكم أيها الخلق بعد الموت و تحضرون بين يديه بعد النشور لتفهيم هذا الحكم
فيا أكرم الرسل «قُلْ» لقومك الذين يتدخلون في ما لا يعنيهم «أَ رَأَيْتُمْ» أخبروني أيها الناس «إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً» مطّردا دائما لا نهار معه «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ» نهار تطلبون فيه معاشكم و تنتشرون فيه لمصالحكم «أَ فَلا تَسْمَعُونَ» 71 قول اللّه فتذعنون إليه و تؤمنون به. قال بضياء و لم يقل بنهار كالآية الآتية إذ قابل النهار بليل، لأن منافع الضياء لا تقتصر على التصرف بالمعاش و المصالح بل هي كثيرة، و الظلام ليس بتلك المنزلة، لذلك قرن بالضياء السمع لأنه يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه، و وصف فوائده، و نعت طرائقه، و هو أفضل منه بدليل تقديمه على البصر في القرآن لأن الأصم لا يستفاد من مجالسته البتة، بخلاف الأعمى، و قرن بالليل البصر لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت، قال تعالى «قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً» لا ليل معه مستمرا متتابعا «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ» تنامون و تستريحون فيه من مشاق النهار و عناء التعب «أَ فَلا تُبْصِرُونَ» 72 هذه الشواهد العظيمة الدالة على قدرة الإله القادر، فتقفوا على معانيها و تفهموا المراد منها و تتيقنوا أن لا أحد يقدر عليها غيره تعالى، فيتّضح لكم خطأكم بعبادة غيره و ترجعون إليه تائبين، و هو الذي يقبل التوبة من عباده و يعفو عما قبلها «وَ مِنْ رَحْمَتِهِ» لكم «أن جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ» منقطعا عن النهار بقدر معلوم «وَ النَّهارَ» كذلك و جعلهما يتعاقبان بالظلمة و الضياء «لِتَسْكُنُوا فِيهِ» أي الليل «وَ لِتَبْتَغُوا» في النهار «مِنْ فَضْلِهِ» لتأمين حوائجكم «وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» 73 نعم اللّه المتوالية عليكم فيها، و تعرفون حق المنعم بها فتؤمنون به، إذ لو جعل الظلمة متصلة و الضياء متصلا لحرمتم منافع
بيان المعانى، ج2، ص: 394
و لذات كثيرة، و لما استقام لكم أمر معاشكم. و كلمة سرمدا لم تأت إلا في هذه السورة فقط، ثم كرر النداء للمشركين زيادة في توبيخهم و تقريعا على إصرارهم لعلهم ينتبهون فينتهون بقوله «وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ» على ملاء الأشهاد «فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» 74 تقدم تفسير مثله، و إن زعم تتعدى لمفعولين كقوله:
و إن الذي قد عاش يا أم مالك
يموت و لم أزعمك عن ذاك معزلا
و قد حذف في الآية هذه مفعولي زعم أيضا، و لك أن تقول فيها كما هو في الآية 64 المارة.
مطلب في أنواع البديع التفسير و لمقابلة و قصة قارون:
و جاء في الآية 73 المارة من أنواع البديع اللف و النّشر المرتب، و يسمى التفسير من أقسام المعنوي في تحسين وجوه الكلام، و منه المقابلة كقوله:
ما أحسن الدين و الدنيا إذا اجتمعا
و أقبح الكفر و الإفلاس في الرجل
و جاء مثله في القرآن بقوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَ اتَّقى وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى) لآخر الآيات من سورة و الليل المارة، قال تعالى «وَ نَزَعْنا» أفردنا و ميزنا و أخرجنا «مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ» من الأمم السالفة «شَهِيداً» يشهد عليهم بأنه بلغهم رسالة ربهم و نصحهم، لأن الأنبياء هم شهداء الأمم فيما لهم عليهم يوم القيامة «فَقُلْنا لهم» أي نقول للأمم المكذبة يوم القيامة «هاتُوا بُرْهانَكُمْ» على أن للّه شريكا بينوا حجتكم على صحة دعواكم هذه و ما كنتم تدينون به في الدنيا فصمتوا، إذ لا دليل لهم على ذلك و لا امارة «فَعَلِمُوا» حينذاك «أَنَّ الْحَقَّ» في الإلهية كله «لِلَّهِ» وحده «وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» 75 من دعوى الشرك، و جاء الفعل هنا بالماضي لتحققه، و هكذا كل ما هو محقق وقوعه، و كرر جل شأنه اللائمة على المشركين، لأنه لا شيء أجلب لغضبه من ادعاء الشرك، كما لا شيء أدخل في مرضاته من التوحيد، قال تعالى «إِنَّ قارُونَ» بن يصهر بن قاهت «كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى» قيل هو ابن عمه، لأن موسى بن عمران بن قاهت ابن لاوى بن يعقوب عليه السلام، و كان عالما لا أقرأ منه في التوراة، و لكنه نافق مثل السامري، و مثل يهوذا الأسخريوطي من حواري عيسى، و عبد اللّه بن
بيان المعانى، ج2، ص: 395
أبي بن سلول من أصحاب محمد، راجع الآية 30 من سورة الفرقان المارة، و الآية 11 من سورة الأنعام في ج 2 «فَبَغى عَلَيْهِمْ» على بني إسرائيل لأنه كان عاملا عليهم «وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ» الذهب و الفضة المدّخرة «ما إِنَّ مَفاتِحَهُ» مفاتح خزائنه إذا جعلته جمع مفتح بكسر الميم و هو ما يفتح به، و إذا جعلته جمع مفتح بفتحها فيكون مفاتحه خزائنه و هي المحال التي يدخر فيها المال، و ما موصولة في محل نصب بآتيناه، و أن اسمها و خبرها و هو «لَتَنُوأُ» تثقل لا محل لها من الإعراب صلة الموصول و هو ما، و لهذا كسرت إن هنا «بِالْعُصْبَةِ» الجماعة الكثيرة «أُولِي الْقُوَّةِ» لا الضعفاء، و العصبة ما بين الثلاثة إلى الأربعين، قال ابن عباس كان يحمل مفاتحه أربعون رجلا، و قال غيره على ستين بغلا و لا يزيد قدر الواحد على الإصبع، فإذا كانت المفاتيح هكذا فما مقدار تلك الكنوز؟ و إذا كان عاملا من عمال فرعون عنده هذا القدر فما هو مقدار الذي عند فرعون؟ و مع هذا كله يناوئون اللّه. فلذلك أخذهم، و اذكر يا محمد لقومك قصته «إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ» بحطام الدنيا و تبطر على قومك و تمرح بملك، فإنه زائل و الفرح مذموم «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» الأشرين الذين لا يشكرون نعم اللّه، قالوا له ذلك لما رأوا من زيادة تكبره و تعاظمه عليهم و إطالة ثيابه خيلاء، قال تعالى (وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) الآية 23 من سورة الحديد ج 3 لأنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها و اطمأن إليها أما من يعلم أنه سيفارقها فلا يفرح بها، و لقد أحسن أبو الطيب المتبني في قوله:
أشد الغمّ عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا
و قال ابن شمس الخلافة:
و إذا نظرت فان بؤسا زائلا
المرء خير من نعيم زائل
و العرب تمدح بترك الفرح عند إقبال الخير و يقولون:
و لست بفرّاح إذا الدهر سرّني
و لا جازع من صرفه المتقلب
هذا و يشير نفي محبة اللّه لمثل هؤلاء إلى بغضه لهم و كراهته إياهم، لأن من لا يحبه اللّه يبغضه، و ينّبه إلى أن عدم المحبة كاف في الزجر عما نهى اللّه عنه
بيان المعانى، ج2، ص: 396
«وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ» من المال في هذه الدنيا «الدَّارَ الْآخِرَةَ» بأن تنفق منه لأجلها مرضاة الذي أعطاكه و شكرا لنعمه «وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا» كي تنجو من عذاب الآخرة.
مطلب في معنى النصيب و فوائد أخرى:
و النصيب هو حظّ الرجل من عمل الدنيا بلاغا للآخرة، أي اعمل لآخرتك كما تعمل لدنياك، و قيل النصيب هو الكفن، و قيل فيه:
نصيبك مما تجمع الدهر كله
رداءان تلوّى فيهما و حنوط
و في الحقيقة ان آخر ما يأخذه ابن آدم من ماله الذي جمعه من حلال و حرام بكدّ يمينه و عرق جبينه الذي يقدم غدا على المحاسبة عليه أمام الملك العلام هو الكفن و شيء من الطيب لا غير، هذا ان قدر له الموت على الفراش، و إلا فقد لا يحصل على ذلك ان مات غرقا أو حرقا أو أكله السباع، فالسعيد من أمسك من ماله ما يكفيه و تصدق بالفضل لصلة رحمه و فقراء أمته ليدخر ثوابه في الدار الباقية، لأن هذه زائلة لا محالة و لو عمّر فيها ما عمر و قبل في المعنى:
كل ابن أنثى و إن طالت سلامته
يوما على آلة حدباء محمول