کتابخانه تفاسیر
بيان المعانى، ج3، ص: 562
و إذا أريد بهم الحفظة أو الموكلون بأعمال الخلق الكاتبون لحسناتهم و سيئاتهم فيكون إحضارهم ليتلى عليهم ما دوّنوه ليسألوا عنه بحضور المكتوب عنهم ليتبين لهم هل ظلموهم بشيء من ذلك أم لا، و إذا أريد بهم الرجال العدول الأبرار من كل أمة فيكون حضورهم لسؤالهم هل أن الرسل بلغوا أممهم رسالة ربهم أم لا، لأن من الناس من يجحد مجيء الرسل، و إذا أريد بهم أمة محمد يكون المراد من حضورهم أن يشهدوا على الأمم السالفة بأن رسلهم بلغوهم أوامر اللّه و نواهيه عند ما يقولون ما جاءنا من بشير و لا نذير، فيقال لهم من أين علمتم أنهم بلغوهم و أنتم بعدهم و لم تجتمعوا معهم؟ فيقولون من كتاب أنزله اللّه علينا ذكر فيه أن الرسل بلغوا أممهم و هو حق و صدق، و من أقوال رسولنا محمد الذي أخبرت يا ربنا أنه لم ينطق عن هوى، و ان قوله وحي منك يوحى إليه، و قد علمنا أنه حق و أن رسالته صدق، و مما يدل على أن هذه الأمة تشهد يوم القيامة على الأمم التي قبلها قوله تعالى:
(وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) الآية 143 من البقرة في ج 3، و مثلها الآية الأخيرة من سورة الحج في ج 3 أيضا «وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ» لكل ما يستحقه بموجب عمله «وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ 69» شيئا فلا يزاد على سيئات المسيء، و لا ينقص من حسنات المحسن و ينال كل جزاء ما عمله إذا عاملهم بعدله، أما إذا عاملهم بفضله الواسع الذي يدخل فيه من يشاء جنته عمل أو لم يعمل فهو أهل لذلك فقد يعفو عن المسيء و يضاعف للمحسن أضعافا كثيرة و هو جل عطفه لا يسأل عما يفعل «وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ» جزاء «ما عَمِلَتْ» في دنياها من خير أو شر «وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ 70» قبل محاسبتهم و قبل الإطلاع على كتبهم و الاستشهاد عليهم إذ ليس هو بحاجة إلى كتاب أو شاهد، و لكن ليعترفوا أنفسهم بما وقع منهم، و ليعلموا أن اللّه ما ترك لهم مثقال ذرة مما عملوه، و أنه قضى عليهم و لهم بما يستوجبونه، لأن الحاكم إذا أفهم المحكوم عليه جرمه و أسبابه و أدلته التي أدانته به و وجه ثبوته عليه بالبراهين التي لا تقبل التأويل و الحجج القاطعة لرد دفاعه يوقع الحق على نفسه و يلومها و يبرأ الحاكم من الحيف و الجور و الخصومة، و لا يوقر بقلبه غلا عليه،
بيان المعانى، ج3، ص: 563
و إذا لم يفعل ذلك فيقول له لما ذا حكمت عليّ و بماذا أثبت التهمة الملصقة بي؟ و لو كان في الحقيقة فاعلا فيوقع اللوم على الحاكم و يسند إليه الجور و الحيف و الخصومة من حيث لا لوم عليه في الحقيقة إلا تقصيره بعدم بيان الأسباب المذكورة.
قال تعالى «وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ» محل تنفيذ العقوبة المترتبة عليهم بعد تفهيمهم الحكم من الحاكم العدل و بيان أسبابه و تبيانه و اعترافهم بجرمهم «زُمَراً» أفواجا بعضهم إثر بعض بواسطة شرطة العذاب الذين خصصهم اللّه تعالى لهذه الغاية في يوم النّهاية أذلاء مهانين مكبلين بالسلاسل و الأغلال بدلالة لفظ السوق «حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها» لأنها كانت مغلقة لئلا يتأذى منها من ليس من أهلها لا خشية الفرار إذ لا فرار هناك كدور السجن في الدنيا فإنها تكون دائما مغلقة حتى إذا جيء بسجين جديد فتحت فأدخل و أغلقت أيضا، إهانة لهم و إعلاما بأن إدخالهم قسرا إذلال لهم «وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها» الموكلون بها المفوضون بتعذيب أهلها بأنواع العذاب المقدر لهم بعلم اللّه و بالمكان المعين لهم من قبله حين يقضى عليهم لأن جهنم دركات الواحدة أشر من الأخرى عند إرادة إدخالهم الدركة المخصّصة لهم ليذوقوا وبال أمرهم من عذابها، و يقال لهم توبيخا و تقريعا «أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ» من جنسكم في الدنيا «يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ» المنزلة عليهم من لدنه «وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى» إذ لم يبق مجال للإنكار و الاحتجاج كما لا مجلل للفرار و لا محل لتعقيب الحكم من استئناف و تمييز و إعادة محاكمة كأحكام الدنيا إذ لا معقب لحكم اللّه، و لهذا يقول اللّه تعالى حكاية عنهم «وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ» الصادرة من الإله العظيم شديد العقاب المبينة في الآية 119 من سورة هود المارة «عَلَى الْكافِرِينَ 71» يعنون أنفسهم لأنهم كفروا باللّه و رسله و ما جاءهم من الوحي «قِيلَ» فتقول لهم الملائكة المذكورون بعنف و شدة بعد ما سمعوا قولهم «ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها» لا مخرج لكم منها البتة، و إنما قالوا أبواب لأن كلا منهم له عذاب دون الآخر، فيدخل كل الباب الذي فيه محل عذابه، ثم يقال لهم بعد أن يستقر كل في مكانه هذا مثواكم «فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ 72» عن طاعة اللّه
بيان المعانى، ج3، ص: 564
و رسله المستأنفين عن قبول النصح و الإرشاد المعرضين عن الهدى و الصواب و السداد.
قال تعالى «وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ» التي حكم لهم بدخولها و التنعم بنعيمها «زُمَراً» جماعات و زرافات على مراكبهم و مراتبهم، و جاء هنا لفظ السوق للمقابلة أو أنه للمراكب لا للراكبين لإرادة السرعة إلى دار الكرامة بالهيبة و الوقار و الاحترام، فشتان بين السوقين «حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها» قبل وصولهم زيادة في تبجيلهم و ليحصل لهم كمال السرور بدخولها رأسا من غير انتظار لأن الخزنة فتحوا أبوابها و وقفوا عليها صفوفا منتظرين قدومهم ليتشرفوا بهم كما هي الحالة في الدنيا عند قدوم أمير أو وزير أو عند ما يدخل السلطان مقامه في الأيام الرسمية ليتقبل التبريكات من رعيته و السلام عليه إذ يقف الجنود و الموظفون صفوفا عن يمين و شمال الباب الذي يجلس فيه إكراما له و إعلاما بأنها مهيأة لهم، فيدخلون بالاحترام و التكريم و تؤدى لهم التحية عنده دخولهم و خروجهم، و هكذا في الآخرة تقف الملائكة صفوفا لاستقبال أهل الجنة، و شتان بين هؤلاء الصفوف و تلك الصفوف، راجع الآية 50 من سورة ص في ج 1. و من هنا فليعلم أهل الدنيا الفرق بين تلك الحالتين، و عند ما يقبل أهل الجنة تحييهم الملائكة عن يمين الأبواب و شمالها احتراما لهم بدلالة قوله تعالى «وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ» مقاما و نفسا «فَادْخُلُوها خالِدِينَ 73» فيها أبدا فيدخل كل منهم الباب المهيء له فيها منزله بحسب عمله، اللهم اجعلنا منهم بكرمك «وَ قالُوا» بعد أن رأوا فيها ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر في الدنيا «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ» الذي وعدنا به أنبياؤه في الدنيا «وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ» ملكنا أرض الجنة بدلا من أرض الدنيا و المراد بالأرض التي استقروا عليها بعد دخولهم الجنة تشبيها بأرض الدنيا من حيث الاسم و إلا لا مشابهة و لا مقايسة، و جعلنا «نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ» من قصورها و مضاربها و منتزهاتها التي منحنا اللّه إياها مما تشتهيه أنفسنا و تلذ أعيننا «فَنِعْمَ» الأجر «أَجْرُ الْعامِلِينَ 74» خيرا الفاعلين حسنا في الدنيا، الجنة و نعيمها:
نعمت جزاء المؤمنين الجنة
دار الأماني و المنى و المنة
بيان المعانى، ج3، ص: 565
«وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ» عليهم محيطين بهم و محدقين صفوفا «مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ» إلى حيث يشاء اللّه تعالى إذ ذكر لنا ابتداء الغاية و سكت عن المغيا فلا يعلمها غيره لأن عرش الرحمن يكون في عرصات في الأرض، قال تعالى (وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) الآية 18 من سورة الحاقة الآتية، و ذلك بعد أن تبدل الأرض غير الأرض و السموات، راجع الآية 48 من سورة إبراهيم الآتية، لأن أرضنا هذه لا تحويه و هي بالنسبة له كحلقة ملقاة في فلاة، و قال تعالى:
(وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا) الآية 22 من سورة و الفجر المارة في ج 1، و قال تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا) الآية 38 من سورة النبأ الآتية و هؤلاء الملائكة ديدنهم «يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» تلذذا لا تعبدا إذ لا تكليف هناك و هذا التسبيح و التحميد من الملائكة بمقابلة أبواق الجند و ترتيلاتهم في الدنيا «وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ» من قبل الحق و وضع كل من الفريقين بمنزلته المخصصة له بقضاء قاضي القضاة الأبدي «وَ قِيلَ» و القائل و اللّه أعلم المؤمنون «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 75» شكرا على ما أولاهم من هذه الكرامة الأبدية، فالحمد الأول كان على انجاز وعده و إيراثهم الأرض، و هذا الحمد الثاني على القضاء بالحق فلا تكرار، و الأول فاصل بين الطرفين بالوعد و الوعيد و الرضى و السخط، و الثاني للتفريق بينهما بحسب الأبدان فريق في الجنة و فريق في السعير، ثم إن الملائكة تحمد اللّه تعالى أيضا على ذلك القضاء لخلاصهم من تهم ما نسبوه إليهم من العبادة. و يوجد أربع سور مختومة بمثل هذه اللفظة هذه و الصافات و القلم و كورت. هذا، و اللّه أعلم، و استغفر اللّه، و لا حول و لا قوة إلا باللّه العلي العظيم، و صلى اللّه و سلم على سيدنا محمد و على آله و أصحابه و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة المؤمن عدد 10- 60- 40
(و تسمى سورة غافر) نزلت بمكة بعد سورة الزمر عدا آيتي 56/ 57 فإنهما نزلنا في المدينة، و هي خمس و ثمانون آية، و الف و مئة و تسعون كلمة، و أربعة آلاف و تسعمئة و ستون حرفا، و يوجد في القرآن سبع سور مبدوءة بما بدئت به، و هي هذه و السجدة و الشورى و الزخرف و الدخان و الجاثية و الأحقاف، و لا يوجد مثلها في عدد الآي.
بيان المعانى، ج3، ص: 566
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «حم 1» اسم للسورة و مبدأ أسماء اللّه المحسن و الحكيم و الحاكم و الحنان و المنان و الحي و المميت و المجيد و المبدئ المعيد، قال ابن عباس: لكل شيء لباب و لباب القرآن الحواميم، و المر، و حم، و نون اسم اللّه الرحمن حروف مقطعة، و حم بمعنى حمّ أي قضي الأمر بما كان و ما سيكون من مبدأ الكون إلى منتهاه، و هذه السور السبع تسمى آل حميم.
قال الكميت بن يزيد في الهاشميات:
وجدنا لكم في آل حم آية
تأولها منا تقي و مغرب
و قال عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه: إن مثل صاحب القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلا فمر بأثر غيث، فبينما هو يسير و يتعجب منه إذ هو على روضات دمثات، فقال عجبت من الغيث الأول فهذا أعجب منه و أعجب، فقيل له إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن، و إن مثل هذه الروضات الدمثات مثل آل حم و تجمع بالمدّ كالطواسين و الطواسيم و تقرأ بالتفخيم و مد الحاء و فتحه و إسكان الميم، و قرأها حمزة و غيره بالإمالة، و قرأها قراء المدينة بين الفتح و الكسر، و قرأها بعضهم بكسر الميم و يجمعها على حاميمات، و من شواهد هذا الجمع ما قاله ابن عساكر في تاريخه:
هذا رسول اللّه في الخيرات
جاء بياسين و حاميمات
أما معناها فأحسن الأقوال فيها قول من قال اللّه أعلم بمراده بذلك كما هو الحال فيما تقدم من الأقوال في الر و الم و المص و طسم و طس و ق و نون و ص، و شبهها لأنها رموز بين اللّه تعالى و رسوله لا يعرفها على الحقيقة غيرهما، راجع ما ذكرناه أوائل السور المذكورة تجد ما تريده، إذ لم نترك قولا قيل فيها و زدنا فيها ما لم يقله أحد و هو أنها رموز بين اللّه و رسوله، و منها اتخذ الملوك و الأمراء الشفرة التي لا يعرفها غيرهما، لأن جميع ما في الدنيا أخذ من كتب اللّه السماوية، سواء ما يتعلق بالملوك و الحكام و الأحكام و الآداب و الأخلاق و التنعيم و التعذيب و الحراسة و المراسيم و غيرها. «تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ» الغالب المنيع، و الكلام فيها كالكلام في مبدأ سورة الزمر المارة لفظا و معنى و إعرابا، إلا أنه هنا يجوز
بيان المعانى، ج3، ص: 567
جعل تنزيل فما بعده خبرا لحميم، و هناك ختم الآية بلفظ الحكيم، و هنا بلفظ «الْعَلِيمِ 2» بكل ما كان و سيكون في الدنيا و الآخرة و هو من تفتن النظم و لا شك أن البليغ علمه بالأشياء و كنهها يكون حكيما بتصرفاتها و وصفها و وضعها في محالها «غافِرِ الذَّنْبِ» مهما كان لمن يشاء عدا الشرك «وَ قابِلِ التَّوْبِ» من أي كان مهما كان فاعلا، و ساتر لما كان قبل التوبة من الذنوب «شَدِيدِ الْعِقابِ» لمن يبقى مصرا على كفره و عناده لاستكباره عن الرجوع إلى ربه «ذِي الطَّوْلِ» السعة و الغنى و الأنعام الدائم «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ 3» و المرجع في الآخرة. قد اشتملت هذه الآية العظيمة على ست صفات من صفات اللّه تعالى ملزمة للإقرار بربوبيته و استحقاقه للعبادة إذ جمعت بين الوعد و الوعيد و الترغيب و الترهيب و هي وحدها كافية للإيمان به تعالى و بما جاء عنه من كتاب و رسول لمن كان له قلب واع و آذان صاغية.
مطلب الجدال المطلوب و الممنوع و بحث في العرش و الملائكة و محاورة أهل النار:
قال تعالى «ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» باللّه و رسله و كتبه، أما المؤمنون فلا يجادلون بل يمتثلون أوامر ربهم فيه و ينقادون لها و يسلمون لما جاء به الرسل و يحققونه فعلا. و اعلم أن هذه الآية و الآية 176 من سورة البقرة في ج 3 و هي (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) من أشد آيات القرآن على المجادلين فيه. أخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: إن جدالا في القرآن كفر، و قال المراء في القرآن كفر.
و عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قوما يتمارون، فقال إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب اللّه عزّ و جل بعضه ببعض، و إنما أنزل الكتاب ليصدق بعضه بعضا، فلا تكذبوا بعضه ببعضه فما علمتم منه فقولوه و ما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه. و روى مسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال:
هاجرت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج صلّى اللّه عليه و سلم يعرف في وجهه الغضب، فقال إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب.
و قد نزلت هذه الآية في الحارث بن قيس السلمي أحد المستهزئين، و المراد بالجدال
بيان المعانى، ج3، ص: 568
ما كان منه بالباطل من الطعن في آيات اللّه المبرأة من الطعن، و ما كان القصد منه ادحاض الحق و إطفاء نور اللّه عز و جل، يؤيد هذا ما سيأتي من تشبيه حال كفار مكة بكفرة الأحزاب قبلهم. أما الجدال في آيات اللّه لإيضاح ملتبسها و حل مشكلها و مقاومة آراء أهل العلم في استنباط معانيها و بلاغة مبانيها و ردّ شبه أهل الزيغ عنها و إحراقهم بإفحامهم و إظهار جهلهم فيها؛ فهو أعظم من الجهاد في سبيل اللّه تعالى، و هو لازم على كل قادر كامل عارف في كلام اللّه. هذا، و ما نقلناه من الأخبار أعلاه يومىء إلى هذا إذ يشعر أن نوعا من الجدال في القرآن كفر فدحضه من أعظم القربات للّه تعالى و هذا يسمى جدالا عن آيات اللّه لا في آيات اللّه، فلذلك كان محمودا لأن الجدال يتعدى بعن إذا كان للمنع و الذّب عن الشيء، و يتعدى بغي إذا كان بخلافه و هو المذموم «فَلا يَغْرُرْكَ» يا سيد الرسل «تَقَلُّبُهُمْ» تصرف الكفرة المجادلين «فِي الْبِلادِ 4» ذاهبين آئبين سالمين غانمين في تجاراتهم و زراعاتهم و زياراتهم، فإن عاقبة أمرهم الهلاك و الخسار، و مرجعهم إلى العذاب و الدمار.