کتابخانه تفاسیر
تبيين القرآن، ص: 420
[33] وَ إِذا مَسَ أصاب النَّاسَ ضُرٌّ شدة دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إليه وحده فلا يرجعون إلى الأصنام ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً بأن خلصهم الله من الشدة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ جماعة منهم و هم من اعتادوا عبادة الأصنام بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ يجعلون له شريكا.
[34] لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فإن الشرك كفران لنعمة النجاة فَتَمَتَّعُوا تلذذوا بالحياة، و هذا أمر تهديدي فَسَوْفَ عند الموت تَعْلَمُونَ العاقبة السيئة لتمتعكم.
[35] أَمْ أن شركهم ليس عن علم، بل لأنّا أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً حجة على الشرك فَهُوَ فذلك السلطان يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ بأن يقول بصحة شركهم.
[36] وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً كنعمة و خلاص من شدة فَرِحُوا بِها بسببها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ شدة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بسبب أعمالهم السيئة إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ من الرحمة.
[37] أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يوسع الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ يضيق على من يشاء إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دلالات، إذ لو لم يكن الإله يجب أن يكون الأكثر سعيا أحسن رزقا، و الحال أنه ليس كذلك دائما لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنهم المنتفعون بالآيات.
[38] فَآتِ أعط ذَا الْقُرْبى أقرباءك حَقَّهُ إذ تجب صلة الرحم وَ الْمِسْكِينَ الفقير وَ ابْنَ السَّبِيلِ و هو المنقطع في سفره ذلِكَ إعطاء حقوق هؤلاء خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ذاته وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون.
[39] وَ ما آتَيْتُمْ أعطيتم مِنْ رِباً و هذا نهي عن إعطاء الربا لِيَرْبُوَا اللام للعاقبة فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ إذ يمحقه و لا يزيد المال بالربا وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ذاته، بأن أعطيتم طلب رضاه فَأُولئِكَ المؤدون للزكاة هُمُ الْمُضْعِفُونَ الذين يزيدون أموالهم.
[40] اللَّهُ هو الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للحساب هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ التي عبدتموها شركاء لله مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ الذي ذكرنا من الخلق و الرزق و الإماتة و الإحياء مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ أنزهه تنزيها عن الشريك وَ تَعالى ترفع عَمَّا يُشْرِكُونَ يجعلونه شريكا لله.
[41] ظَهَرَ الْفَسادُ كالغرق و الحرق و القحط و الحروب و الزلازل فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ أي بسبب الأعمال السيئة التي جاء بها الناس، و إنما أظهرها الله لِيُذِيقَهُمْ جزاء بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا من السيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن أعمالهم السيئة.
تبيين القرآن، ص: 421
[42] قُلْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سِيرُوا سافروا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كقوم عاد و ثمود و لوط، فإن آثارهم الخربة دالة على أخذ العذاب لهم كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ و لذا أهلكهم الله، و هذا تهديد للمشركين بأنه سيصيبهم مثل ذلك العذاب، أما غير الأكثر فقد نجاهم الله تعالى.
[43] فَأَقِمْ لا تعدل عنه وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ المستقيم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ لا يقدر أن يرده أحد، و هو يوم القيامة مِنَ اللَّهِ متعلق ب (يأتي) يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ يتفرقون بعض إلى الجنة و بعض إلى النار.
[44] مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ أي على نفسه، لا على غيره كُفْرُهُ وبال كفره وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ لا لغيرها يَمْهَدُونَ يهيئون المحل الحسن.
[45] و إنما يهيئ الله لهم المنزل الحسن: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ أي جزاء زائدا على استحقاقهم إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أي يكرههم فيجازيهم بالعقاب.
[46] وَ مِنْ آياتِهِ الدالة على وجوده و علمه و قدرته أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ بالمطر وَ لِيُذِيقَكُمْ أي يبشركم و يذيقكم مِنْ رَحْمَتِهِ التي هي المطر وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ أي السفينة بِأَمْرِهِ تعالى فإن الريح تسيرها وَ لِتَبْتَغُوا تطلبوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة في البحر وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمته تعالى حيث حملكم على السفينة.
[47] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا بالكفر و العصيان، بأن أهلكناهم وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ اسم كان، ننصرهم بالحجة و الغلبة.
[48] اللَّهُ هو الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ تهيج سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ الله وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً قطعا متفرقة فَتَرَى الْوَدْقَ المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ من وسط السحاب فَإِذا أَصابَ بِهِ بالمطر مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بأن أروى بلادهم و مزارعهم إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون.
[49] وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ المطر مِنْ قَبْلِهِ إرسال السحاب لَمُبْلِسِينَ يائسين.
[50] فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ آثار المطر في الأرض كَيْفَ يُحْيِ الله الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها باليبس إِنَّ ذلِكَ الله الذي أحيى الأرض لَمُحْيِ الْمَوْتى للقيامة وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
تبيين القرآن، ص: 422
[51] وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً ضارة فَرَأَوْهُ أي النبات في أثر الرياح مُصْفَرًّا مقدمة ليبسه لَظَلُّوا صاروا مِنْ بَعْدِهِ إرسال الريح يَكْفُرُونَ فهم لا يشكرون عند الرخاء و لا يتضرعون عند البلاء.
[52] فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى سماعا نافعا و هؤلاء الناس كالأموات وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَ من صم أذنه الدُّعاءَ كلامك و نداءك إِذا وَلَّوْا أعرضوا مُدْبِرِينَ بأن كان قفاهم في طرفك، و هذا بيان لعدم قبولهم الحق، كأنهم لا يسمعون.
[53] وَ ما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ لا تهدي من عمي، إلى الطريق، لأنه أعمى فلا يرى الطريق عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي الأعمى قلبا عن ضلالة إِنْ ما تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا لأنه هو الذي يسمع إليك سماعا ينفعه فَهُمْ مُسْلِمُونَ منقادون لك.
[54] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ حال كونكم ضعافا في حالة الجنينية و الطفلية، كأنهم خلقوا من قطعة من الضعف و العجز ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً في حالة الشباب ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً في حالة الهرم وَ شَيْبَةً شيخوخة يَخْلُقُ ما يَشاءُ من ضعيف و قوي وَ هُوَ الْعَلِيمُ بمصالح عباده الْقَدِيرُ لما يشاء.
[55] وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ القيامة يُقْسِمُ يحلف الْمُجْرِمُونَ بالشرك و العصيان ما لَبِثُوا ما بقوا في الدنيا غَيْرَ ساعَةٍ فقط حيث يستقلون بقاءهم في الدنيا كَذلِكَ مثل هذا الصرف عن الصدق إلى الكذب كانُوا في الدنيا يُؤْفَكُونَ يصرفون عن الحق إلى الباطل.
[56] وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ أي المؤمنون، قالوا لهم في الآخرة لَقَدْ لَبِثْتُمْ بقيتم أيها الكفار فِي كِتابِ اللَّهِ أي حسب ما هو موجود في ما كتبه الله من أعماركم إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ لا ساعة فقط فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الذي كنتم تكذبون به وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ تنكرون وجوده في الدنيا فتعاقبون اليوم على إنكاركم.
[57] فَيَوْمَئِذٍ يوم القيامة لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر و العصيان مَعْذِرَتُهُمْ عذرهم وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يطلب رضاهم، بل يتركون في غضبهم و غيضهم، لأنهم لا أهمية لهم.
[58] وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لتقريب الأذهان إلى الحق وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ مما اقترحوه لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ أيها المؤمنون إِلَّا مُبْطِلُونَ لأنهم معاندون فلا تنفعهم حتى الآيات المقترحة.
[59] كَذلِكَ هكذا يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فإن الطبع معناه تركهم و شأنهم حتى ينطبعوا بلون العباد، و ذلك حيث لم يقبلوا الحق من أول يوم.
[60] فَاصْبِرْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على كفرهم إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرك عليهم حَقٌ لا بد و أن يأتي وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ لا يحملنك على الخفة و الضجر الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ بالبعث، بل كن صابرا حامدا.
تبيين القرآن، ص: 423
31: سورة لقمان
مكية آياتها أربع و ثلاثون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] الم رمز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
[2] تِلْكَ هذه آياتُ الْكِتابِ القرآن الْحَكِيمِ الذي وضع الأشياء مواضعها في حال كونه:
[3] هُدىً هداية وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ لأنهم المنتفعون بهذا الكتاب.
[4] الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ يعطون الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ .
[5] أُولئِكَ عَلى هُدىً على هداية مِنْ رَبِّهِمْ من جانبه تعالى وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون.
[6] وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ أي ما يلهي به من القصص، يشتريه ببيع الحق، و هو كناية عن اتباع الباطل عوض الحق لِيُضِلَ الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إذ يقصد بنشر الباطل أن يأخذ مكان الحق بِغَيْرِ عِلْمٍ فإن مشتري الباطل جاهل، و إلا لم يشتر ما يضره وَ يَتَّخِذَها أي يتخذ سبيل الله هُزُواً مهزوا بها «1» أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يذلهم و يهينهم.
[7] وَ إِذا تُتْلى تقرأ عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى أعرض مُسْتَكْبِراً متكبرا عن قبول الآيات كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها الآيات في عدم الاستفادة منها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً حملا ثقيلا فَبَشِّرْهُ استهزاء به، و إلا فالبشارة في الخير بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم.
[8] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ البساتين ذات النعمة.
[9] خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ وعد الله ذلك وعدا حَقًّا مطابقا للواقع وَ هُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغالب الْحَكِيمُ الذي يفعل كل الأشياء حسب الصلاح و الحكمة.
[10] خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ بدون أعمدة تَرَوْنَها ترون السماوات أنها لا عمد لها وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ جبالا أَنْ لئلا تَمِيدَ تضطرب بِكُمْ معكم وَ بَثَ نشر فِيها في الأرض مِنْ كُلِّ دابَّةٍ من كل أقسام الحيوان وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف من أصناف النبات كَرِيمٍ ذو كرامة و احترام لمنفعته.
[11] هذا الذي ذكر خَلْقُ مخلوق اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ من الأصنام، إنها لا خلق لها فكيف تعبدونها بَلِ الظَّالِمُونَ المشركون فِي ضَلالٍ عن الحق مُبِينٍ ظاهر.
(1) و الهزء: آلة الاستهزاء، أي ما يستهزئ به، فإنه جعل ذلك محورا للاستهزاء.
تبيين القرآن، ص: 424
[12] وَ لَقَدْ آتَيْنا أعطينا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ معرفة مواضع الأشياء و قلنا له أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأن فائدة الشكر عائدة إلى ذاته وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌ عن شكر الشاكرين حَمِيدٌ محمود في أفعاله سواء شكره أحد أم لا.
[13] وَ اذكر إِذْ زمانا قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ لأنه إعطاء العبادة لغير المستحق عَظِيمٌ .
[14] وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إحسانا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ فإن الحامل تضعف على ضعف إذ كلما كبر الحمل زاد الضعف وَ فِصالُهُ أي فطام الولد عن اللبن فِي عامَيْنِ سنتين و هذا أيضا صعوبة أخرى على الأم توجب شكر الولد لها، فقلنا للإنسان: أَنِ اشْكُرْ لِي بالطاعة و العبادة وَ لِوالِدَيْكَ بالبر و الصلة إِلَيَّ الْمَصِيرُ فأجازيكم بما عملتم.
[15] وَ إِنْ جاهَداكَ أي الوالدان بأن أصرّا عليك عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي معبودا آخر من ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ لأنه لا شريك لله حتى يعلم به الإنسان فَلا تُطِعْهُما في هذا الأمر وَ صاحِبْهُما كن مع الوالدين فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً صحابا معروفا حسنا وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ طريق مَنْ أَنابَ رجع إِلَيَ بأن وحّدني و أخلص في الطاعة ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ رجوعكم إلى جزائي فَأُنَبِّئُكُمْ أخبركم لأجل الجزاء بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .
[16] يا بُنَيَ مصغر ابن إِنَّها الحسنة أو السيئة إِنْ تَكُ مِثْقالَ ثقل حَبَّةٍ التي هي في غاية الصغر مِنْ خَرْدَلٍ هو ما يعطي الترياق و له حبات صغار جدا فَتَكُنْ تلك الحبة فِي أخفى مكان كجوف صَخْرَةٍ أَوْ فِي أعلى مكان مثل السَّماواتِ أَوْ أسفل الأماكن كما فِي جوف الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا يحضرها اللَّهُ لأجل الجزاء إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يصل علمه إلى كل خفي خَبِيرٌ عالم بكل شيء.
[17] يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الشدائد إِنَّ ذلِكَ الذي ذكرناه مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي الأمور التي تحتاج إلى العزم و القصد الأكيد.
[18] وَ لا تُصَعِّرْ لا تمل تكبرا خَدَّكَ طرف وجهك لِلنَّاسِ وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً مشيا فيه بطر «1» و كبر إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ متكبر فَخُورٍ يفتخر على الناس.
[19] وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ توسط فيه بين الإسراع و البطء وَ اغْضُضْ اقصر مِنْ صَوْتِكَ فلا ترفعه إِنَّ أَنْكَرَ أقبح الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ و ذلك لأنه يرفع صوته فتأدب منه و لا ترفع صوتك.
(1) البطر: الطغيان بالنعمة.
تبيين القرآن، ص: 425
[20] أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ ذلّل لَكُمْ لمنافعكم ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ أتم بسعته عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً محسوسة وَ باطِنَةً تعرف بآثارها وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ في توحيده و صفاته بِغَيْرِ عِلْمٍ فلا علم له بما يقول وَ لا هُدىً دليل عقلي وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ واضح ذي نور، أي دليل سمعي.
[21] وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ من العقائد و الأحكام قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا يتبعون طريقة الآباء أَ وَ لَوْ كانَ موجبا للفساد بأن كان الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ المستعر المشتعل.
[22] وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ ذاته إِلَى اللَّهِ بأن انقاد لأوامره وَ هُوَ مُحْسِنٌ في أفعاله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ تمسك بِالْعُرْوَةِ يد الكيزان «1» ، شبه بها الإسلام الموجب للسعادة الْوُثْقى مؤنث الأوثق، فلا تنفصم وَ إِلَى اللَّهِ إلى ثوابه و جزائه عاقِبَةُ الْأُمُورِ .
[23] وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ لأنه لا يضرك إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ رجوع الكفار فَنُنَبِّئُهُمْ نخبرهم لأجل أن نعاقبهم بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بما في الصدور، و (ذات الصدور) أي بتلك الصدور.
[24] نُمَتِّعُهُمْ نعطيهم أسباب التلذذ في الدنيا تمتيعا قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ نلجئهم في الآخرة إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ شديد.
[25] وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي المشركين مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وحده قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ حيث اعترفوا بالحق، فلما ذا يعبدون الأصنام بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن الخلق إذا كان لله يجب أن تكون العبادة أيضا له.
[26] لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُ عن كل شيء الْحَمِيدُ المحمود في أفعاله.
[27] وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ بيان (ما) أَقْلامٌ خبر (أن) أي لو أن الأشجار الكائنة على الأرض كلها تتحول أقلاما وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ أي يعنيه مِنْ بَعْدِهِ بالإضافة إليه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ من أمثال بحار الدنيا لتكون الكل مدادا و كتبت بتلك الأقلام و المياه كلمات الله حتى تنكسر الأقلام و تنفد المياه ما نَفِدَتْ ما تمت كَلِماتُ اللَّهِ مخلوقاته، فإن كل مخلوق كلمة إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب في سلطانه حَكِيمٌ يضع الأشياء مواضعها.
[28] ما خَلْقُكُمْ أيها الناس وَ لا بَعْثُكُمْ بعد الموت إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ كخلقها و بعثها، إذ تتساوى نسبة الأشياء كلها إلى قدرة الله تعالى، فلا فرق عند قدرته بين خلق بعوضة و بين خلق ملايين المجرات إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع كل شيء بَصِيرٌ يرى كل شيء فلا يشغله شيء عن شيء حتى يتفاوت عنده خلق واحد عن خلق كثير.
(1) مفردة: كوز.
تبيين القرآن، ص: 426
[29] أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ يدخل اللَّيْلَ فِي النَّهارِ و ذلك حين امتداد الليل وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ و ذلك حين امتداد النهار وَ سَخَّرَ ذلل الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ وقت مُسَمًّى قد سمي فله وقت مضبوط وَ أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيجازيكم عليه.
[30] ذلِكَ العلم الواسع و القدرة الكاملة إنما يكون لله بسبب أن اللَّهَ هُوَ الْحَقُ و الإله الحق يقدر على كل شيء و يعلم كل شيء وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ من الأصنام الْباطِلُ فليست آلهة و لذا لا تعلم و لا تقدر وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُ المطلق الْكَبِيرُ الأكبر من كل شيء.
[31] أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ السفينة تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ بإحسانه إلى البشر لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ فإن جريان الفلك آية من آيات قدرته إِنَّ فِي ذلِكَ الجريان لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ كثير الصبر يتعب نفسه في التفكر في الآيات، فالماء آية و بقاء السفينة خارج الماء آية، و الجريان آية، و الرياح المسيرة آية و هكذا شَكُورٍ كثير الشكر لنعم الله.
[32] وَ إِذا غَشِيَهُمْ على أصحاب السفينة مَوْجٌ كَالظُّلَلِ جمع ظلة و هي ما أظلك من جبال أو سحاب أو نحوها دَعَوُا اللَّهَ أهل السفينة مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ يخلصون دينهم لله، بدون شرك فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ سالك قصد السبيل و هو التوحيد وَ ما يَجْحَدُ ينكر بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ خداع ناقض للعهد الذي أخذه الله على عباده بما أودع فيهم من الفطرة كَفُورٍ كثير الكفر.
[33] يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ خافوا عقابه وَ اخْشَوْا يَوْماً يوم القيامة لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ لا يغني عنه شيئا في دفع العذاب عنه وَ لا مَوْلُودٌ ولد هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالثواب و العقاب حَقٌ لا بد و أن يأتي فَلا تَغُرَّنَّكُمُ تخدعكم الْحَياةُ الدُّنْيا بشهواتها وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فاعل (يغرنكم) أي لا يخدعكم الشيطان بأن ترتكبوا الآثام و تخالفوا الله.