کتابخانه تفاسیر
تفسير ابن عربى، ج1، ص: 6
ازدهاني مما وراء المقاصد و الأماني، قول النبيّ الأميّ الصادق عليه أفضل الصلوات من كل صامت و ناطق:
«ما نزل من القرآن آية إلا و لها ظهر و بطن، و لكلّ حرف حدّ، و لكل حدّ مطلع»
. و فهمت منه أنّ الظهر هو التفسير، و البطن هو التأويل، و الحدّ ما يتناهي إليه الفهوم من معنى الكلام، و المطلع ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام.
و
قد نقل عن الإمام المحق السابق جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنه قال : «لقد تجلى اللّه لعباده في كلامه، و لكن لا تبصرون»
. و
روي عنه عليه السلام أنه خرّ مغشيا عليه و هو في الصلاة، فسئل عن ذلك، فقال: «ما زلت أردّد الآية حتى سمعتها من المتكلم بها»
. (فرأيت) أن أعلق ببعض ما يسنح لي في الأوقات من أسرار حقائق البطون و أنوار شوارق المطلعات دون ما يتعلق بالظواهر و الحدود، فإنه قد عين لها حدّ محدود. و قيل من فسر برأيه فقد كفر. و أما التأويل فلا يبقي و لا يذر، فإنه يختلف بحسب أحوال المستمع و أوقاته في مراتب سلوكه و تفاوت درجاته. و كلما ترقى عن مقامه انفتح له باب فهم جديد و اطلع به على لطيف معنى عتيد.
(فشرعت) في تسويد هذه الأوراق بما عسى يسمح به الخاطر على سبيل الاتفاق، غير حائم بقعة التفسير و لا خائض في لجة من المطلعات ما لا يسعه التقرير، مراعيا لنظم الكتاب و ترتيبه، غير معيد لما تكرّر منه أو تشابه في أساليبه. و كلّ ما لا يقبل التأويل عندي أو لا يحتاج إليه فما أوردته أصلا و لا أزعم أني بلغت الحدّ فيما أوردته. كلا، فإنّ وجوه الفهم لا تنحصر فيما فهمت، و علم اللّه لا يتقيد بما علمت، و مع ذلك فما وقف الفهم مني على ما ذكر فيه، بل ربما لاح لي فيما كتب من الوجوه ما تهت في محاويه و ما يمكن تأويله من الأحكام الظاهر منها إرادة ظاهرها فما أوّلته إلا قليلا ليعلم به أن للفهم إليه سبيلا، و يستدل بذلك على نظائرها إن جاوز مجاوز عن ظواهرها إذ لم يكن في تأويلها بدّ من تعسف.
و عنوان المروّة ترك التكلف، و عسى أن يتجه لغيري وجوه أحسن منها طوع القياد فإن ذلك سهل لمن تيسر له من أفراد العباد. و للّه تعالى في كلّ كلمة كلمات ينفد البحر دون نفادها، فكيف السبيل إلى حصرها و تعدادها، لكنها أنموذج لأهل الذوق و الوجدان يحتذون على حذوها عند تلاوة القرآن، فينكشف لهم ما استعدوا له من مكنونات علمه، و يتجلى عليهم ما استطاعوا له من خفيات غيبه، و اللّه الهادي لأهل المجاهدة إلى سبيل المكاشفة و المشاهدة، و لأهل الشوق إلى مشارب الذوق، إنه وليّ التحقيق و بيده التوفيق.
تفسير ابن عربى، ج1، ص: 7
فاتحة الكتاب
[سورة الفاتحة (1): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
اسم الشيء ما يعرف به، فأسماء اللّه تعالى هي الصور النوعية التي تدلّ بخصائصها و هوياتها على صفات اللّه و ذاته، و بوجودها على وجهه، و بتعينها على وحدته، إذ هي ظواهره التي بها يعرف. و اللّه اسم للذات الإلهية من حيث هي هي على الإطلاق، لا باعتبار اتصافها بالصفات، و لا باعتبار لا اتصافها.
و الرَّحْمنِ هو المفيض للوجود و الكمال على الكل بحسب ما تقتضي الحكمة و تحتمل القوابل على وجه البداية. و الرَّحِيمِ هو المفيض للكمال المعنويّ المخصوص بالنوع الإنساني بحسب النهاية، و لهذا قيل: يا رحمن الدنيا و الآخرة، و رحيم الآخرة. فمعناه بالصورة الإنسانية الكاملة الجامعة الرحمة العامّة و الخاصة، التي هي مظهر الذات الإلهي و الحق الأعظمي مع جميع الصفات أبدأ و أقرأ، و هي الاسم الأعظم و إلى هذا المعنى
أشار النبي صلى اللّه عليه و سلم بقوله : «أوتيت جوامع الكلم، و بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»
، إذ الكلمات حقائق الموجودات و أعيانها. كما سمي عيسى عليه السلام كلمة من اللّه، و مكارم الأخلاق كمالاتها و خواصها التي هي مصادر أفعالها جميعها محصورة في الكون الجامع الإنساني. و هاهنا لطيفة و هي أن الأنبياء عليهم السلام وضعوا حروف التهجي بإزاء مراتب الموجودات. و قد وجدت في كلام عيسى عليه الصلاة و السلام و أمير المؤمنين علي عليه السلام و بعض الصحابة ما يشير إلى ذلك. و لهذا قيل: ظهرت الموجودات من باء بسم اللّه إذ هي الحرف الذي يلي الألف الموضوعة بإزاء ذات اللّه. فهي إشارة إلى العقل الأول الذي هو أول ما خلق اللّه المخاطب بقوله تعالى:
«ما خلقت خلقا أحب إليّ و لا أكرم عليّ منك، بك أعطي، و بك آخذ، و بك أثيب، و بك أعاقب ...»
الحديث.
و الحروف الملفوظة لهذه الكلمة ثمانية عشر، و المكتوبة تسعة عشر. و إذا انفصلت الكلمات انفصلت الحروف إلى اثنين و عشرين، فالثمانية عشر إشارة إلى العوالم المعبر عنها بثمانية عشر ألف عام، إذ الألف هو العدد التام المشتمل على باقي مراتب الأعداد فهو أمّ المراتب الذي لا عدد فوقه، فعبر بها عن أمّهات العوالم التي هي عالم الجبروت، و عالم الملكوت، و العرش، و الكرسي، و السموات السبع، و العناصر الأربعة، و المواليد الثلاثة التي ينفصل كل واحد منها إلى جزئياته.
و التسعة عشر إشارة إليها مع العالم الإنساني، فإنه و إن كان داخلا في عالم الحيوان إلا أنه باعتبار شرفه و جامعيته للكل و حصره للوجود عالم آخر له شأن و جنس برأسه له برهان،
تفسير ابن عربى، ج1، ص: 8
كجبريل من بين الملائكة في قوله تعالى: وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ «1» .
و الألفات الثلاثة المحتجبة التي هي تتمة الاثنين و العشرين عند الانفصال إشارة إلى العالم الإلهيّ الحقّ، باعتبار الذات، و الصفات، و الأفعال. فهي ثلاثة عوالم عند التفصيل، و عالم واحد عند التحقيق، و الثلاثة المكتوبة إشارة إلى ظهور تلك العوالم على المظهر الأعظميّ الإنسانيّ و لاحتجاب العالم الإلهي.
حين
سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن ألف الباء من أين ذهبت؟ قال صلى اللّه عليه و سلم: «سرقها الشيطان».
و أمر بتطويل باء بسم اللّه تعويضا عن ألفها إشارة إلى احتجاب ألوهية الإلهية في صورة الرحمة الانتشارية و ظهورها في الصورة الإنسانية بحيث لا يعرفها إلا أهلها، و لهذا نكرت في الوضع.
و قد
ورد في الحديث : «إنّ اللّه تعالى خلق آدم على صورته»
، فالذات محجوبة بالصفات، و الصفات بالأفعال، و الأفعال بالأكوان و الآثار. فمن تجلّت عليه الأفعال بارتفاع حجب الأكوان توكل، و من تجلّت عليه الصفات بارتفاع حجب الأفعال رضي و سلّم. و من تجلّت عليه الذات بانكشاف حجب الصفات فني في الوحدة فصار موحدا مطلقا فاعلا ما فعل و قارئا ما قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم، فتوحيد الأفعال مقدّم على توحيد الصفات و هو على توحيد الذات و إلى الثلاثة
أشار صلوات اللّه عليه في سجوده بقوله : «أعوذ بعفوك من عقابك، و أعوذ برضاك من سخطك، و أعوذ بك منك»
. [2- 5]
[سورة الفاتحة (1): الآيات 2 الى 6]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى آخر السورة، الحمد بالفعل و لسان الحال هو ظهور الكمالات و حصول الغايات من الأشياء إذ هي أثنية فاتحة و مدح رائعة لموليها بما يستحقه. فالموجودات كلها بخصوصياتها و خواصها، و توجهها إلى غاياتها، و إخراج كمالاتها من حيز القوّة إلى الفعل، مسبحة، حامدة، كما قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «2» ، فتسبيحها إياه تنزيهه عن الشريك و صفات النقص و العجز باستنادها إليه وحده، و دلالتها على وحدانيته و قدرته، و تحميدها إظهار كمالاتها المترتبة، و مظهريتها لتلك الصفات الجلالية و الجمالية.
و خصّ بذاته بحسب مبدئيته للكل، و حافظيته و مدبريته له التي هي معنى الربوبية للعالمين، أي لكلّ ما هو علم للّه يعلم به كالخاتم لما يختم به، و القالب لما يقلب فيه، و جمع جمع السلامة لاشتماله على معنى العلم أو للتغليب، و بإزاء أفاضلة الخير العامّ
(1) سورة البقرة، الآية: 98.
(2) سورة الإسراء، الآية: 44.
تفسير ابن عربى، ج1، ص: 9
و الخاص، أي النعمة الظاهرة كالصحة و الرزق. و الباطنة كالمعرفة و العلم. و باعتبار منتهائيته التي هي معنى مالكية الأشياء في يوم الدين إذ لا يجزي في الحقيقة إلا المعبود الذي ينتهي إليه الملك وقت الجزاء بإثابة النعمة الباقية عن الفانية عند التجرّد عنها بالزهد و تجليات الأفعال عند انسلاخ العبد عن أفعاله، و تعويض صفاته عند المحو عن صفاته و إبقائه بذاته، و هبته له الوجود الحقاني عند فنائه فله تعالى مطلق الحمد و ماهيته أزلا و أبدا على حسب استحقاقه إياه بذاته باعتبار البداية و النهاية و ما بينهما في مقام الجمع على ألسنة التفاصيل، فهو الحامد و المحمود تفصيلا و جمعا، و العابد و المعبود مبدأ و منتهى.
و لما تجلى في كلامه لعباده بصفاته شاهدوه بعظمته و بهائه، و كمال قدرته و جلاله، فخاطبوه قولا و فعلا بتخصيص العبادة به، و طلب المعونة منه، إذ ما رأوا معبودا غيره، و لا حول و لا قوّة لأحد إلّا به. فلو حضروا لكانت حركاتهم و سكناتهم كلها عبادة له و به، فكانوا على صلاتهم دائمين داعين بلسان المحبة لمشاهدتهم جماله من كل وجه على كل وجه.
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي: ثبتنا على الهداية و مكّنا بالاستقامة في طريق الوحدة التي هي طريق المنعم عليهم بالنعمة الخاصة الرحيمية التي هي المعرفة و المحبة و الهداية الحقانية الذاتية من النبيين و الشهداء و الصدّيقين و الأولياء، الذين شاهدوا أوّلا و آخرا و ظاهرا و باطنا، فغابوا في شهودهم طلعة وجهه الباقي عن وجود الظل الفاني.
[6، 7]
[سورة الفاتحة (1): آية 7]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الذين وقفوا مع الظواهر، و احتجبوا بالنعمة الرحمانية، و النعيم الجسمانيّ، و الذوق الحسيّ عن الحقائق الروحانية، و النعيم القلبي، و الذوق العقليّ كاليهود إذ كانت دعوتهم إلى الظواهر و الجنان و الحور و القصور، فغضب عليهم لأن الغضب يستلزم الطرد و البعد و الوقوف مع الظواهر التي هي الحجب الظلمانية غاية البعد. وَ لَا الضَّالِّينَ الذين وقفوا مع البواطن التي هي الحجب النورانية و احتجبوا بالنعمة الرحيمية عن الرحمانية، و غفلوا عن ظاهرية الحقّ، و ضلّوا عن سواء السبيل، فحرموا شهود جمال المحبوب في الكلّ كالنصارى إذ كانت دعوتهم إلى البواطن و أنوار عالم القدّوس و دعوة المحمديين الموحدين إلى الكلّ، و الجمع بين محبة جمال الذات، و حسن الصفات، كما ورد في القرآن الكريم:
وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ «1» ،
(1) سورة آل عمران، الآية: 133.
تفسير ابن عربى، ج1، ص: 10
اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ «1» ، وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً «2» . فأجابوا الدعوات الثلاث. كما جاء في حقهم: وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ «3» ، يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا «4» ، إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا* «5» . فأثيبوا بالجميع على ما أخبر اللّه تعالى: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ «6» ، لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ «7» ، فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «8» ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ «9» .
(1) سورة الحديد، الآية: 28.
(2) سورة النساء، الآية: 36.
(3) سورة الإسراء، الآية: 57.
(4) سورة التحريم، الآية: 8.
(5) سورة فصلت، الآية: 30.
(6) سورة البينة، الآية: 8.
(7) سورة الحديد، الآية: 19.
(8) سورة البقرة، الآية: 115.
(9) سورة يونس، الآية: 26.
تفسير ابن عربى، ج1، ص: 11
سورة البقرة
[1- 2]
[سورة البقرة (2): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)
الم* ذلِكَ الْكِتابُ أشار بهذه الحروف الثلاثة إلى كلّ الوجود من حيث هو كلّ لأن (ا) إشارة إلى ذات الذي هو أوّل الوجود على ما مرّ. و (ل) إلى العقل الفعّال المسمّى جبريل، و هو أوسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ و يفيض إلى المنتهى. و (م) إلى محمد الذي هو آخر الوجود تتمّ به دائرته و تتصل بأوّلها، و لهذا ختم و قال: «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات و الأرض». و عن بعض السلف أن (ل) ركبت من ألفين، أي:
وضعت بإزاء الذات مع صفة العلم اللذين هما عالمان من العوالم الثلاثة الإلهية التي أشرنا إليها، فهو اسم من أسماء اللّه تعالى، إذ كل اسم هو عبارة عن الذات مع صفة ما. و أمّا (م) فهي إشارة إلى الذات مع جميع الصفات و الأفعال التي احتجبت بها في الصورة المحمدية التي هي اسم اللّه الأعظم، بحيث لا يعرفها إلا من يعرفها. ألا تدري أن (م) التي هي صورة الذات كيف احتجب فيها، فإن الميم فيها الياء، و في الياء ألف. و السرّ «1» في وضع حروف التهجي هو أن لا حرف إلا و فيه ألف، و يقرب من هذا قول من قال: معناه القسم باللّه العليم الحكيم، إذ جبريل مظهر العلم، فهو اسمه العليم. و محمد مظهر الحكمة، فهو اسمه الحكيم. و من هذا ظهر معنى قول من قال: تحت كلّ اسم من أسمائه تعالى أسماء بغير نهاية. و العلم لا يتمّ و لا يكمل إلا إذا قرن بالفعل في عالم الحكمة الذي هو عالم الأسباب و المسببات، فيصير حكمة. و من ثم لا يحصل الإسلام بمجرّد قول: لا إله إلا اللّه، إلا إذا قرن: بمحمد رسول اللّه.
فمعنى الآية الم* ذلِكَ الْكِتابُ الموعود، أي: صورة الكلّ المومى إليها بكتاب الجفر و الجامعة المشتملة على كل شيء، الموعود بأنه يكون مع المهدي في آخر الزمان لا يقرأه كما هو بالحقيقة إلا هو، و الجفر لوح القضاء الذي هو عقل الكلّ و الجامعة لوح القدر الذي هو نفس الكلّ، فمعنى كتاب الجفر و الجامعة: المحتويان على كلّ ما كان و يكون، كقولك سورة (البقرة) و سورة (النمل).
لا رَيْبَ فِيهِ عند التحقيق بأنه الحق، و على تقدير القول معناه بالحق الذي هو الكلّ
(1) قوله: و السرّ في وضع إلخ ... كذا في الأصل و هو محل نظر اه.
تفسير ابن عربى، ج1، ص: 12
من حيث هو كلّ لأنه مبين لذلك الكتاب الموعود على ألسنة الأنبياء و في كتبهم بأنه سيأتي كما قال عيسى عليه السلام: «نحن نأتيكم بالتنزيل، و أما التأويل فسيأتي به المهديّ في آخر الزمان». و حذف جواب القسم لدلالة ذلك الكتاب عليه، كما حذف في غير موضع من القرآن مثل (و الشمس) (و النازعات) و غير ذلك. أي إنّا منزلون لذلك الكتاب الموعود في التوراة و الإنجيل بأن يكون مع محمد حذف لدلالة قوله: ذلِكَ الْكِتابُ عليه أي: ذلك الكتاب المعلوم في العلم السابق، الموعود في التوراة و الإنجيل حق بحيث لا مجال للريب فيه.
هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أي هدى في نفسه للذين يتقون الرذائل و الحجب المانعة لقبول الحق فيه.
و اعلم أن الناس بحسب العاقبة سبعة أصناف لأنهم: إمّا سعداء، و إمّا أشقياء. قال اللّه تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ «1» ، و الأشقياء أصحاب الشمال، و السعداء إمّا أصحاب اليمين، و إمّا السابقون المقرّبون. قال اللّه تعالى: وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً «2» الآية. و أصحاب الشمال إمّا المطرودون الذين حقّ عليهم القول و هم أهل الظلمة و الحجاب الكلي المختوم على قلوبهم أزلا، كما قال تعالى: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ «3» إلى آخر الآية.
و
في الحديث الربانيّ : «هؤلاء خلقتهم للنار و لا أبالي»
. و أما المنافقون الذين كانوا مستعدّين في الأصل، قابلين للتنوّر بحسب الفطرة و النشأة، و لكن احتجبت قلوبهم بالرين المستفاد من اكتساب الرذائل و ارتكاب المعاصي، و مباشرة الأعمال البهيمية، و السبعية، و مزاولة المكايد الشيطانية، حتى رسخت الهيئات الفاسقة و الملكات المظلمة في نفوسهم، و ارتكمت على أفئدتهم فبقوا شاكين حيارى تائهين، قد حبطت أعمالهم، و انتكست رؤوسهم فهم أشدّ عذابا و أسوأ حالا من الفريق الأول لمنافاة مسكة استعدادهم لحالهم. و الفريقان هم أهل الدنيا و أصحاب اليمين.
أما أهل الفضل و الثواب، الذين آمنوا و عملوا الصالحات للجنة راجين لها، راضين بها، فوجدوا ما عملوا حاضرا على تفاوت درجاتهم، و لكلّ درجات مما عملوا. و منهم أهل الرحمة الباقون على سلامة نفوسهم، و صفاء قلوبهم، المتبوّؤن درجات الجنة على حسب استعداداتهم من فضل ربهم، لا على حسب كمالاتهم من ميراث عملهم.
و أما أهل العفو الذين خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا، و هم قسمان: المعفوّ عنهم رأسا لقوة اعتقادهم، و عدم رسوخ سيئاتهم لقلّة مزاولتهم إياها، أو لمكان توبتهم عنها. فأولئك
(1) سورة هود، الآية: 105.
(2) سورة الواقعة، الآية: 7.