کتابخانه تفاسیر
تفسير ابن عربى، ج2، ص: 174
وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إلى آخر المثل، يمكن أن يؤوّل أصحاب القرية بأهل مدينة البدن و الرسل الثلاثة بالروح و القلب و العقل، إذ أرسل إليهم اثنان أوّلا فَكَذَّبُوهُما لعدم التناسب بينهما و بينهم، و مخالفتهم إياهما في النور و الظلمة، فعزّزوا بالعقل الذي يوافق النفس في المصالح و المناجح و يدعوها و قومها إلى ما يدعو إليه القلب و الروح فيؤثر فيهم.
و تشاؤمهم بهم: تنفّرهم عنهم لحملهم إياهم على الرياضة و المجاهدة و منعهم عن اللذات و الحظوظ. و رجمهم إياهم: رميهم بالدواعي الطبيعية و المطالب البدنية. و تعذيبهم إياهم: استيلاؤهم عليهم و استعمالهم في تحصيل الشهوات البهيمية و السبعية. و الرجل الذي جاء من أقصى المدينة، أي: من أبعد مكان منها، هو العشق المنبعث من أعلى و أرفع موضع منها بدلالة شمعون العقل و نظره لإظهار دين التوحيد و الدعوة إلى الحبيب الأول و تصديق الرسل يَسْعى لسرعة حركته و يدعو الكل بالقهر و الإجبار إلى متابعة الرسل في التوحيد، و يقول: وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ و كان اسمه حبيبا و كان نجارا ينحت في بدايته أصنام مظاهر الصفات من الصور لاحتجابه بحسنها عن جمال الذات و هو المأمور بدخول جنة الذات، قائلا: يا لَيْتَ قَوْمِي المحجوبين عن مقامي و حالي يَعْلَمُونَبِما غَفَرَ لِي رَبِّي ذنب عبادة أصنام مظاهر الصفات و نحتها وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ لغاية قربي في الحضرة الأحدية. و
في الحديث: «إنّ لكل شيء قلبا، و قلب القرآن يس»
، فلعل ذلك لأن حبيبا المشهور بصاحب يس آمن به قبل بعثته بستمائة سنة و فهم سرّ نبوته، و
قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:
تفسير ابن عربى، ج2، ص: 175
«سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا باللّه طرفة عين، عليّ بن أبي طالب عليه السلام و صاحب يس و مؤمن آل فرعون»
. [37- 39]
[سورة يس (36): الآيات 37 الى 39]
وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ أي: ليل ظلمة النفس نَسْلَخُ مِنْهُ نهار و نور شمس الروح و التلوين فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ و شمس الروح تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها و هو مقام الحق في نهاية سير الروح ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ المتمنع من أن يصل إلى حضرة أحديته شيء، الغالب على الكل بالقهر و الفناء الْعَلِيمِ الذي يعلم حدّ كمال كل سيّار و انتهاء سيره، و قمر القلب قَدَّرْناهُ أي:
قدّرنا مسيره في سيره مَنازِلَ من الخوف و الرجاء و الصبر و الشكر و سائر المقامات كالتوكل و الرضا حَتَّى عادَ عند فنائه في الروح في مقام السرّ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ و هو بقرب استسراره فيه و إضاءة وجهه الذي يلي الروح قبل تمام فنائه فيه، و احتجابه لنوريته عن النفس و القوى، و كونه بدرا إنما يكون في موضع الصدر في مقابلة مقام السرّ.
[40]
[سورة يس (36): آية 40]
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ في سيره فيكون له الكمالات الصدرية من الإحاطة بأحوال العالمين و التجلي بالأخلاق و الأوصاف وَ لَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ بإدراك القمر الشمس و تحويل ظلمة النفس نهار نور القلب لأن القمر إذا ارتقى إلى مقام الروح بلغ الروح حضرة الوحدة فلا تدركه و تكون النفس حينئذ نيّرة في مقام القلب لا ظلمة لها، فلم تسبق ظلمتها نوره بل زالت مع أن القلب و نوره في مقام الروح فلم تسبقه على تقدير بقائها وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ أي: مدار و محل لسيرة معيّن في بدايته و نهايته لا يتجاوز حدّيه المعينين يَسْبَحُونَ يسيرون إلى أن جمع اللّه بينهما في حدّ و خسف القمر بها و أطلع الشمس من مغربها فتقوم القيامة.
[41- 44]
[سورة يس (36): الآيات 41 الى 44]
وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ و هو سفينة نوح فيه سرّ من أسرار البلاغة حيث لم يذكر آباءهم الذين كانوا فيها بل ذريّاتهم الذين كانوا في أصلابهم، فلا بد من وجود الذرّيات حينئذ وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ أي: مثل سفينة نوح و هي السفينة المحمدية ما يَرْكَبُونَ
تفسير ابن عربى، ج2، ص: 176
[45- 54]
[سورة يس (36): الآيات 45 الى 54]
اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ من أحوال القيامة الكبرى وَ ما خَلْفَكُمْ من أحوال القيامة الصغرى، فإن الأولى تأتي من جهة الحقّ و الثانية تأتي من جهة النفس بالفناء في اللّه في الأولى، و التجرّد عن الهيئات البدنية في الثانية و النجاة منها. و الصيحتان هما التنبّه عن النفخة الأولى بوقوع مقدّماتها و انزعاج القوى كلها دفعة عن مقارّها، و عن الثانية بوقوعها و انتباهتهم دفعة، و انتشار القوى في محالها. و الأجداث: الأبدان التي هي مراقدهم.
[55- 81]
[سورة يس (36): الآيات 55 الى 81]
تفسير ابن عربى، ج2، ص: 177
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ من أنوار التجليات و مشاهدات الصفات، متلذذون هم و نفوسهم الموافقة لهم في التوجه فِي ظِلالٍ من أنوار الصفات عَلَى الْأَرائِكِ المقامات و الدرجات مُتَّكِؤُنَ لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ من أنواع المدركات و أصناف الواردات و المكاشفات وَ لَهُمْ ما يتمنون من المشاهدات، و هي: سَلامٌ أعني قَوْلًا بإفاضة الكمالات و تبرئتهم بها من وجوه النقص التي تنبعث منها دواعي التمنيات صادرا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ يرحم بتلك المشتهيات. و العهد عهد الأزل و ميثاق الفطرة و عبادة الشيطان، هو الاحتجاب بالكثرة لامتثال دواعي الوهم و الصراط المستقيم طريق الوحدة. و قال الضحاك في وصف جهنم: «إن لكل كافر بئرا من النار يكون فيه لا يرى و لا يدري»، و ذلك صورة احتجابه. و معنى الختم على الأفواه و تكليم الأيدي و شهادة الأرجل: تغيير صورهم و حبس ألسنتهم عن النطق و تصوير أيديهم و أرجلهم على صور تدل بهيئاتها و أشكالها على أعمالها و تنطق بألسنة أحوالها على ملكاتها من هيئات أفعالها.
[82- 83]
[سورة يس (36): الآيات 82 الى 83]
إِنَّما أَمْرُهُ عند تعلق إرادته بتكوين شيء ترتب كونه على تعلق الإرادة به دفعة معا بلا تخلل زماني فَسُبْحانَ أي: نزّه عن العجز و التّشبه بالأجسام و الجسمانيات في كونها و كون أفعالها زمانية الَّذِي تحت قدرته و في تصرّف قبضته مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ من النفوس و القوى المدّبرة له وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بالفناء فيه و الانتهاء إليه، و اللّه أعلم.
تفسير ابن عربى، ج2، ص: 178
سورة الصافات
[1- 5]
[سورة الصافات (37): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ رَبُّ الْمَشارِقِ (5)
وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا أقسم بنفوس السالكين في سبيله طريق التوحيد، الصافات في مقامهم و مراتب تجلياتهم و مواقف مشاهداتهم صَفًّا واحدا في التوجه إليه فَالزَّاجِراتِ في دواعي الشياطين، و فوارغ التمنيات النفسانية في الأحايين زَجْراً بالأنوار و الأذكار و البراهين فَالتَّالِياتِ نوعا من أنواع الأذكار بحسب أحوالهم باللسان أو القلب أو السرّ أو الروح كما ذكر غير مرة على وحدانية معبودهم لتثبيتهم في التوجه عن الزيغ و الانحراف بالالتفات إلى الغير رَبُ سموات الغيوب السبعة التي هم سائرون فيها، و أرض البدن وَ ما بَيْنَهُما وَ رَبُ مشارق تجليات الأنوار الصفاتية، وصفه بالوحدانية الذاتية في أطوار الربوبية الكاشفة عن وجوه التحوّلات بتعدّد الأسماء ليتحفظوا عند تعدّد تجليات الصفات و ترتب المقامات من الاحتجاب بالكثرة.
[6]
[سورة الصافات (37): آية 6]
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي: العقل الذي هو أقرب السموات الروحانية بالنسبة إلى القلب بِزِينَةٍ كواكب الحجج و البراهين، كقوله: بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ «1» .
[7]
[سورة الصافات (37): آية 7]
وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7)
وَ حِفْظاً أي: و حفظناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ من شياطين الأوهام و القوى التخيلية عند الترقي إلى أفق العقل بتركيب الموهومات و المخيلات في المغالطات و التشكيكات مارِدٍ خارج عن طاعة الحق و العقل.
[8- 9]
[سورة الصافات (37): الآيات 8 الى 9]
لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى من الروحانيات و الملكوت السماوية بتلك الحجج مِنْ كُلِّ جانِبٍ من جميع الجهات السماوية، أي: من أي وجه من وجوه المغالطة و التخييل
(1) سورة الملك، الآية: 5.
تفسير ابن عربى، ج2، ص: 179
يركبون القياس و يرتقون به، يقذفون بما يبطله من الدحور و الطرد، أو مدحورين مطرودين وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ دائم الرياضات و أنواع الزجر في المخالفات.
[10- 39]
[سورة الصافات (37): الآيات 10 الى 39]
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ في الاستراق فموّه كلامه بهيئة جليّة و أوهم الحق بصورة نورية استفادها من كلمة حقة ملكية فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ من برهان نيّر عقليّ، أو إشراق نور قدسي فأبطلها و طرد الجنيّ بنفي الصورة الوهمية التي أوهمها.
[40]
[سورة الصافات (37): آية 40]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء منقطع، أي: لكن عباد اللّه المخصوصون به لفرط عنايتهم به، الذين أخلصهم اللّه عن شوب الغيرية و الأنانية و البقية و استخلصهم لنفسه بفناء الأنانية و الاثنينية.
[41- 43]
[سورة الصافات (37): الآيات 41 الى 43]
أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَ هُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43)
أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ يعلمه اللّه دون غيره و هو معلومات اللّه المقوّية لقلوبهم المغذيّة لأرواحهم.
فَواكِهُ ملذة غاية التلذيذ، إذ الفاكهة ما يتلذّذ به، أي: يتلذذون في مكاشفاتهم بما يحضرهم من معلوماته تعالى وَ هُمْ مُكْرَمُونَ في مقعد صدق عند مليك مقتدر في الجنات الثلاث يتنعمون بقرب الحق في حضرته غاية الإكرام و التنعم.
تفسير ابن عربى، ج2، ص: 180
[44- 48]
[سورة الصافات (37): الآيات 44 الى 48]
عَلى سُرُرٍ مراتب و درجات مُتَقابِلِينَ في الصف الأول، مترائين لا يحجب بعضهم عن بعض و لا يتفاضلون في المقاعد يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ خمر العشق مَعِينٍ مكشوف لأهل العيان إذ دنّه المعاينة فكيف لا يعاين.
بَيْضاءَ نورية من عين الأحدية الكافورية، لا شوب فيها و لا مزج من التعينات لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ يغتال العقل لأنهم أهل صحو أخلصهم اللّه من الشوائب و الحجاب فلا ينكر لهم وَ لا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ بذهاب العقول و إلا لم يكونوا أهل الجنات الثلاث في مقام البقاء.
وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ من أهل الجبروت و الملكوت و النفوس المجرّدة، الواقفات تحت مراتبهم في مقام تجليات الصفات و سرادقات الجلال، و في مجالي مشاهداتهم تحت قباب الجمال في روضات القدس و حضرة الأسماء عِينٌ لأنّ ذواتهم كلها عيون لا يمدون طرفا عنهم لفرط محبّتهم و عشقهم لهم لأنهم هم المعشوقون.
[49- 63]
[سورة الصافات (37): الآيات 49 الى 63]
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ في الأداحي لغاية صفائها في خدور القدس و نقائها من موادّ الرجس يَتَساءَلُونَ يتحادثون بأحاديث أهل الجنة و النار و مذاكرة أحوال السعداء و الأشقياء، مطلعين على كلا الفريقين و ما هم فيه من الثواب و العقاب، كما ذكر في وصف أهل (الأعراف).
[64- 65]
[سورة الصافات (37): الآيات 64 الى 65]
إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65)