کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 33
[سورة الفاتحة (1): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
قوله سبحانه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الناس ربّما يعملون عملا أو يبتدئون في عمل باسم عزيز من أعزّتهم أو كبير من كبرائهم ليكون عملهم مباركا بذلك أو ذكرى يذكّرهم به. و مثل ذلك موجود في باب التسمية، فربما يسمّون إنسانا أو شيئا مصنوعا أو معمولا بأسماء من يهدونه أو يعظّمونه ليبقى الاسم ببقائه، و هذا إلقاء نسبة بين المسمّى و صاحب الاسم ليكون لصاحب الاسم نوع بقاء ببقاء المسمّى، فلا يزول و لا ينسى.
و قد جرى كلامه سبحانه هذا المجرى، ليكون ما يشتمل عليه من المعنى مرتبطا باسمه سبحانه و أدبا يؤدّب به العباد في أعمالهم و أفعالهم و أقوالهم، فيبتدئوا باسمه و يعملوا به ليكون منعوتا بنعته و مقصودا لأجله سبحانه، و فيه إظهار أنّ العمل موجّه بوجه اللّه، فلا يكون هالكا متبّرا باطلا؛ إذ قد بيّن سبحانه في مواضع من كلامه: أنّ ما ليس لوجهه الكريم متبّر باطل «1» حابط، «2» و أنّه
(1). اشارة إلى سورة الأعراف (7): 139.
(2). البقرة (2): 217؛ المائدة (5): 5؛ الزمر (39): 65.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 34
سيقدم إلى ما عملوا من عمل اريد به غيره، فيجعله هباء منثورا «1» حين يضلّ عنهم ما كانوا يدعون من قبل «2» و ما كانوا يفترون. «3»
و كلّ أمر واقع فإنّما نصيبه من البقاء و البركة بقدر ما للّه سبحانه فيه من النصيب؛ فلو كان منعوتا بنعته مسمّى باسمه مقصودا لأجله سبحانه، و إلّا فهو هالك أبتر لا عقب له. و هذا معنى ما رواه الفريقان عن النبيّ- صلى اللّه عليه و آله و سلم-: «كلّ أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم اللّه فهو أبتر». «4» الحديث.
ثمّ إنّه سبحانه كرّر في كلامه ذكر السورة كثيرا، كقوله سبحانه: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، «5» و قوله سبحانه: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ، «6» و قوله تعالى:
فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ، «7» و قوله تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَ فَرَضْناها. «8»
فبان لنا من ذلك: أنّ لهذه الطوائف من كلامه سبحانه- التي فصّلها قطعا قطعا و سمّى كلّ قطعة منها سورة- نوعا من وحدة التأليف و التمام لا يوجد بين أبعاض من سورة، و لا بين سورة و سورة.
و من ذلك يعلم: أنّ الأغراض و المقاصد في السور مختلفة، و أنّ كلّ واحدة منها مسوقة لبيان معنى مقصود خاصّ لن تتمّ إلّا بتمامه. و على هذا: فالتسمية في أوّل كلّ سورة- على ما تقدّم من البيان- راجعة إلى توصيف المعنى المقصود
(1). اشارة الى سورة الفرقان (25): 23.
(2). اشارة الى سورة فصّلت (41): 48.
(3). اشارة الى سورة آل عمران (3): 24؛ الأنعام (6): 24؛ الأعراف (7): 151.
(4). بحار الأنوار 73: 305، الحديث: 1، و 107: 108، الحديث: 29؛ مسند أحمد 2: 359.
(5). يونس (10): 38.
(6). هود (11): 13.
(7). محمّد (47): 20.
(8). النور (24): 1.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 35
بيانه فيها و تنعيته باسمه سبحانه، و كلامه سبحانه جملة واحدة حيث كان مشتملا بالنظر إلى الغاية الأخيرة على هداية العباد إلى مستقيم الصراط و سواء السبيل [و] بمقتضى الرحمة التي وعد سبحانه أن سيكتبها للذين يتّقون كان الأنسب هو الابتداء و التسمية بالأسماء الثلاثة: «اللّه» «الرحمن» «الرحيم»، كما اشتمل عليها قوله سبحانه: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ. «1» فهو سبحانه «رحيم» لأنّه «رحمن» و «رحمن» لأنّه «اللّه» سبحانه، هذا بالنسبة إلى مجموع السور.
و أمّا بالنسبة إلى خصوص هذه السورة- و هي سورة الحمد- فالذي تشتمل عليه، هو الحمد و إظهار العبوديّة، فما فيها من المضمون فهو له سبحانه لا سبيل للبطلان إليه، غير أنّ قوله سبحانه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ «2» حيث كان بالنيابة عن العباد تعليما و تأديبا، كان اشتماله على إظهار العبوديّة و الاستعانة اشتمالا على فعل العبد، و هذا منتهى ما في هذا العمل من وجه الهلاك و الفساد.
فالتسمية تنعيته باسمه سبحانه و تبريكه به ليكون بذلك خالصا لوجهه الكريم، و تستقرّ معنى العبوديّة في مستقرّها، إذ إثبات العبادة للعبد ينافي كونه عبدا لا يملك لنفسه شيئا.
و يتبيّن بذلك معنى ما ورد من الروايات عنهم- عليهم السلام-
فعن عليّ- عليه السلام-: «يعني بهذا الاسم أقرأ و أعمل هذا العمل». «3»
و في التوحيد و تفسير الإمام عنه- عليه السلام- يقول: «بِسْمِ اللَّهِ أي:
(1). الأعراف (7): 156.
(2). الفاتحة (1): 5.
(3). تفسير الصافي 1: 80.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 36
أستعين على اموري كلّها باللّه الذي لا تحقّ العبادة إلّا له، المغيث إذا استغيث، و المجيب إذا دعي». «1»
أقول: و هو إشارة إلى ما ذكرناه آنفا: أنّ التسمية في هذه السورة لتتميم الإخلاص، على ما يقتضيه لفظ الاستعانة الذي لا يستعمل إلّا في مورد يحتاج فيه إلى التتميم دون أصل العمل.
و في العيون، و المعاني، عن الرضا- عليه السلام-: «يعني اسم نفسي بسمة من سمات اللّه و هي العبادة» قيل له: ما السمة؟ قال: «العلامة». «2»
أقول: و هذا معنى كالمتولّد من المعنى الذي أشرنا إليه، فإنّ العبد إذا و سم عبادته باسم اللّه لزم ذلك أن يسم نفسه التي ينسب العبادة إليها بسمة من سماته تعالى.
و في التهذيب: عن الصادق- عليه السلام-، و في العيون، و تفسير العيّاشي، عن الرضا- عليه السلام-: «إنّها أقرب إلى اسم اللّه الأعظم من ناظر العين إلى بياضها». «3»
أقول: و سيأتي معناه في الكلام على الاسم الأعظم.
و في العيون: عن أمير المؤمنين- عليه السلام-: «إنّها من الفاتحة و إنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه و آله- كان يقرؤها و يعدّها آية منها، و يقول: فاتحة الكتاب هي السبع المثاني». «4»
(1). التوحيد: 231، الحديث: 5؛ تفسير الإمام العسكري- عليه السلام-: 21، الحديث: 5.
(2). عيون أخبار الرضا- عليه السلام- 2: 236، الحديث: 19؛ معاني الأخبار: 3، الحديث: 1.
(3). تهذيب الأحكام 2: 289، الحديث: 15؛ عيون أخبار الرضا- عليه السلام- 1: 8، الحديث: 11؛ تفسير العيّاشي 1: 21، الحديث: 13.
(4). عيون أخبار الرضا- عليه السلام- 2: 270، الحديث: 59.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 37
و في الخصال: عن الصادق- عليه السلام-: «قال: ما لهم قاتلهم اللّه عمدوا إلى أعظم آية في كتاب اللّه فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها». «1»
و عن الباقر- عليه السلام-: «سرقوا أكرم آية من كتاب اللّه بسم اللّه الرحمن الرحيم». «2»
و ينبغي الإتيان به عند افتتاح كلّ أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه. «3»
أقول: و الروايات عن أهل البيت [عليهم السلام] في هذا المعنى كثيرة، و هي على كثرتها تدلّ على أنّ البسملة جزء من كلّ سورة في القرآن إلّا البراءة؛ فإنّها جزء من سورة الأنفال. «4»
و أمّا خلاصة القول في الأسماء الثلاث: «اللّه، الرحمن، الرحيم» ف «اللّه» فعّال بمعنى المفعول كالكتاب بمعنى المكتوب من أله بمعنى عبد، أو بمعنى تاه إذ هو ذات يتيه فيه العقول و تتحيّر، إذ هو الأصل و المنشأ لكلّ موجود أو كمال موجود لا سبيل لشيء من البطلان إليه؛ إذ هو لازم الالوهيّة بحسب النظرة الاولى من العقل، و لذلك قيل: إنّه اسم للذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال، و «الرحمن» فعلان بمعنى كثير الرحمة.
و الصفات المثبتة له تعالى من المعاني التي نفهمها يجب أن تجرّد عن الخصوصيّات المصداقيّة التي بين أيدينا أعني عن نواقص الإمكان، فهي تثبت له سبحانه بمجرّد معناها من غير تقيّد بقيود المصاديق المادّية، بل الممكنة على
(1). لم نجده في الخصال؛ أنظر إلى تفسير العيّاشي 1: 22، الحديث: 16؛ مجمع البيان 1: 50.
(2). لم نجده في الخصال؛ تفسير العيّاشي 1: 19، الحديث: 4؛ بحار الأنوار 82: 20، الحديث: 10، و 89: 236، الحديث: 28.
(3). و الظاهر أنّه- قدس سره- أخذه من كلام الفيض- رحمه اللّه- كما جاء في تفسير الصافي.
(4). وسائل الشيعة 6: 56، الباب: 11؛ مستدرك الوسائل 4: 164، الباب: 8.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 38
ما حقّق في محلّه، و الرحمة فينا ميل قلبي من الراحم إلى المرحوم لإصابة الخير إليه و بالتجريد عن خصوصيّات المصاديق هي إيصال الخير إلى المحتاج إليه، و الخير هو الوجود، فالرحمة منه سبحانه إفاضة الوجود فهو الغنيّ ذو الرحمة وسعت رحمته كلّ شيء، فالاسمان: «الرحمن و الرحيم» بمعنى واحد إلّا ما يدلّ عليه هيئة الاسمين. فصيغة المبالغة تدلّ على الكثرة، و الصفة المشبّهة على الاستقرار و الثبوت و الدوام، من غير فرق من حيث الظرف كالدنيا و الآخرة، و لا من حيث المتعلّق كالمؤمن و الكافر، لكنّه سبحانه يستعمل اسم «الرحيم» في كلامه في موارد يختصّ بالمؤمنين، و ب «الرحمة» من حيث الهداية أو الثواب، كقوله: وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ،* «1» وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. «2»
و من هنا ما يقال: إنّ الرحمان مختصّ بالدنيا أو عامّ للمؤمن و الكافر، و الرحيم بالآخرة، و هو الملائم لما تفيده الصفة المشبّهة.
و بذلك يتبيّن معنى ما في الكافي، و التوحيد، و المعاني، و العيّاشي، عن الصادق- عليه السلام- في حديث: «و اللّه إله كلّ شيء، الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصّة». «3»
و روي عن عيسى بن مريم- عليه السلام-: «الرحمن رحمن الدنيا، و الرحيم رحيم الآخرة». «4»
و روي عن الصادق- عليه السلام-: «الرحمن اسم خاصّ بصفة عامّة،
(1). البقرة (2): 218؛ آل عمران (3): 31 و 129.
(2). الحديد (57): 9.
(3). الكافي 1: 114، الحديث: 1؛ التوحيد: 230، الحديث: 2؛ معاني الأخبار: 3، الحديث: 2؛ تفسير العيّاشي 1: 22، الحديث: 19.