کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 38
ما حقّق في محلّه، و الرحمة فينا ميل قلبي من الراحم إلى المرحوم لإصابة الخير إليه و بالتجريد عن خصوصيّات المصاديق هي إيصال الخير إلى المحتاج إليه، و الخير هو الوجود، فالرحمة منه سبحانه إفاضة الوجود فهو الغنيّ ذو الرحمة وسعت رحمته كلّ شيء، فالاسمان: «الرحمن و الرحيم» بمعنى واحد إلّا ما يدلّ عليه هيئة الاسمين. فصيغة المبالغة تدلّ على الكثرة، و الصفة المشبّهة على الاستقرار و الثبوت و الدوام، من غير فرق من حيث الظرف كالدنيا و الآخرة، و لا من حيث المتعلّق كالمؤمن و الكافر، لكنّه سبحانه يستعمل اسم «الرحيم» في كلامه في موارد يختصّ بالمؤمنين، و ب «الرحمة» من حيث الهداية أو الثواب، كقوله: وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ،* «1» وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. «2»
و من هنا ما يقال: إنّ الرحمان مختصّ بالدنيا أو عامّ للمؤمن و الكافر، و الرحيم بالآخرة، و هو الملائم لما تفيده الصفة المشبّهة.
و بذلك يتبيّن معنى ما في الكافي، و التوحيد، و المعاني، و العيّاشي، عن الصادق- عليه السلام- في حديث: «و اللّه إله كلّ شيء، الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصّة». «3»
و روي عن عيسى بن مريم- عليه السلام-: «الرحمن رحمن الدنيا، و الرحيم رحيم الآخرة». «4»
و روي عن الصادق- عليه السلام-: «الرحمن اسم خاصّ بصفة عامّة،
(1). البقرة (2): 218؛ آل عمران (3): 31 و 129.
(2). الحديد (57): 9.
(3). الكافي 1: 114، الحديث: 1؛ التوحيد: 230، الحديث: 2؛ معاني الأخبار: 3، الحديث: 2؛ تفسير العيّاشي 1: 22، الحديث: 19.
(4). التبيان 1: 29؛ مجمع البيان 1: 54؛ نور الثقلين 1: 14.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 39
و الرحيم اسم عامّ لصفة خاصّة». «1»
أقول: و كأنّه- عليه السلام- يريد أنّ الرحمن خاصّ بالدنيا و يعمّ المؤمن و الكافر، و الرحيم يشمل الدنيا و الآخرة لكن يختصّ بالمؤمنين و الإفاضة الخاصّة بهم، فيرجع إلى ما ذكرناه من المعنى، و قد قال سبحانه: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ. «2»
(1). مجمع البيان 1: 54؛ جوامع الجامع 1: 53؛ نور الثقلين 1: 14.
(2). الأعراف (7): 156.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 40
[سورة الفاتحة (1): الآيات 2 الى 4]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
قوله سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى قوله: يَوْمِ الدِّينِ
ثناء و حمد منه تعالى لنفسه بقصر الحمد عليه، و لا يتفاوت في ذلك كون اللام للاستغراق أو الجنس، إذ قد قال سبحانه: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ «1» فعمّم نسبة الخلق على ما سواه من شيء ثمّ قال: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، «2» فأثبت الحسن لكلّ شيء مخلوق، فالخلق يدور مع الحسن أينما دار، فما ليس بحسن ليس بمخلوق من حيث إنّه ليس بحسن جميل، ثمّ قال سبحانه: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ، «3» فأثبت مالكيّة الخلق لنفسه، فهو المالك لكلّ شيء مخلوق جميل، و لا يملك غيره خلقا و لا جميلا إلّا بإذنه و تمليكه، فهو سبحانه المالك لكلّ حمد و ثناء بالحقيقة، و ما ينسب من ذلك إلى غيره سبحانه فله حقّه و حقيقته قبله.
(1). غافر (40): 62.
(2). السجدة (32): 7.
(3). الأعراف (7): 54.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 41
و هذا المعنى هو الذي يقتضيه نضد هذه الأسماء الخمسة المباركة بعد الحمد، فهو سبحانه بالوهيّته مبدأ لكلّ خلق و أمر، و بربوبيّته للعالمين مالكهم و مدبّرهم، و بأنّه رحمن فيّاض للرحمة على جميع خلقه، و بأنّه رحيم للمؤمنين خاصّة، و بملكه يوم الدين حاكم فاصل بين عباده مجاز إيّاهم، فلا يبقى شأن من شؤون ما سواه إلّا و هو مبدؤه و مصيره، فله الحمد جميعا.
روي في كشف الغمّة: عن الصادق- عليه السلام-: «قال فقد لأبي- عليه السلام- بغلة، فقال- عليه السلام-: لئن ردّها اللّه عليّ لأحمدنّه بمحامد يرضاها، فما لبث أن أتي بها بسرجها و لجامها، فلمّا استوى و ضمّ إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء و قال: الحمد للّه، و لم يزد، ثمّ قال: ما تركت و لا أبقيت شيئا، جعلت أنواع المحامد للّه عزّ و جلّ، فما من حمد إلّا و هو داخل فيما قلت»، «1» الحديث.
ثمّ إنّ الظاهر من سياق هذه الآيات و قرينة الالتفات في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «2» أنّ قوله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» إلى آخره، كلام العبد، فهو سبحانه يلقي قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ، بالنيابة عن عبده تأديبا و تعليما لما ليس له بنفسه، فإنّ الحمد توصيف، و قد نزّه سبحانه نفسه عمّا يصفه به العباد، فقال سبحانه:
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ* إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ «3» و لم يرد في كلامه ما يؤذن بحكاية الحمد عن غيره إلّا قوله لنبيّه نوح [عليه السلام]: فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، «4» و قوله في خليله إبراهيم- عليه السلام-: الْحَمْدُ لِلَّهِ
(1). كشف الغمّة 2: 329.
(2). الفاتحة (1): 5.
(3). الصافّات (37): 159 و 160.
(4). المؤمنون (23): 28.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 42
الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ، «1» و قوله لرسوله محمّد- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- في ستّة مواضع، أو سبعة من كلامه: وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ،* «2» و هؤلاء من عباده المخلصين بنصّ القرآن، و إلّا ما حكاه عن أهل الجنّة في مواضع من كلامه، كقوله: وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، «3» و هم مطهّرون من غلّ الصدور و لغو القول و التأثيم، و أمّا غير هذه الموارد فهو سبحانه و إن حكى عن كثير من خلقه بل عن جميعهم الحمد له، كقوله: وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، «4» و قوله: وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، «5» و قوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، «6» إلّا أنّه سبحانه شفّع الحمد في جميعها بالتسبيح، بل جعل التسبيح هو المحكيّ و الحمد معه، و ذلك أنّ غيره سبحانه لا يحيطون بجمال أفعاله و كمالها لما لم يحيطوا بجمال صفاته الذي عنه جمال الفعل، فما أحاطوا به من شيء فهو محدود بحدودهم مقدّر بقدر نيلهم، فلا يستقيم ما أثنوه بثناء إلّا بعد أن يسبّحوه و ينزّهوه عمّا حدّوه و قدّروه بأفهامهم، و قد قال سبحانه:
وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ،* «7» فالذي يقتضيه أدب العبوديّة أن يقتصر من الثناء على ما يعلمه سبحانه من جمال فعله و صفته، و يطوي كشحا عمّا دون ذلك، كما في الحديث المتّفق عليه بين الفريقين عن النبيّ- صلّى اللّه عليه و آله
(1). إبراهيم (14): 39.
(2). الإسراء (17): 111؛ النمل (27): 59، 93؛ المؤمنون (23): 28؛ العنكبوت (29):
63؛ لقمان (31): 25.
(3). يونس (10): 10.
(4). الشورى (42): 5.
(5). الرعد (13): 13.
(6). الإسراء (17): 44.
(7). البقرة (2): 216 و 232؛ آل عمران (3): 66؛ النور (24): 19.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 43
و سلّم-: «لا احصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك». «1»
و في العيون: عن عليّ- عليه السلام- أنّه سئل عن تفسيرها، فقال: «هو أنّ اللّه سبحانه عرّف عباده بعض نعمه عليهم جملا إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل لأنّها أكثر من أن تحصى أو تعرف، فقال: قولوا: الحمد للّه على ما أنعم به علينا». «2»
أقول: يشير- عليه السلام- إلى ما مرّ أنّ الحمد من العبد و إنّما ذكره سبحانه بالنيابة تأديبا و تعليما، و مراده من تعريف بعض النعم جملا ما يشتمل عليه الأسماء المعدودة بعد الحمد من إجمال النعم و جملها، كما عدّ سبحانه فيوضات هذه الأسماء في سورة الرحمن نعما و آلاء لنفسه، و يشير إليه الحديث القدسيّ الآتي.
(1). عوالي اللآلي 4: 114، الحديث: 176؛ مسند أحمد 1: 96 و 118 و 150، و 6: 201؛ صحيح مسلم 2: 51؛ سنن ابن ماجة 1: 373. أيضا لا حظ الكافي 3: 324، الحديث:
12؛ التوحيد: 114، الحديث: 13.
(2). عيون أخبار الرضا- عليه السلام- 2: 255، الحديث: 30.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 44
[سورة الفاتحة (1): آية 5]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
قوله سبحانه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
العبد هو المملوك من الإنسان أو كلّ ذي شعور بتجريد المعنى، كما يعطيه قوله سبحانه: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً، «1» و العبادة مأخوذة منه، و ربّما تفرّقت اشتقاقاتها أو المعاني المستعملة هي فيها لاختلاف الموارد، و ما ذكره الجوهري في الصحاح أنّ أصل العبوديّة الخضوع «2» فمن باب الأخذ باللازم، إذ الخضوع متعدّ باللام، و العبادة بنفسها، فكأنّ العبادة نصب العبد نفسه في مقام المملوكيّة لربّه، و لذلك كانت العبادة منافية للاستكبار، كما قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ، «3» و غير منافية للاشتراك، فمن الجائز أن يشترك أزيد من الواحد في عبادة واحد، كما جاز أن يشتركوا في ملك رقبة، قال سبحانه: وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ
(1). مريم (19): 93.
(2). الصحاح 2: 503، مادّة «عبد».