کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 41
و هذا المعنى هو الذي يقتضيه نضد هذه الأسماء الخمسة المباركة بعد الحمد، فهو سبحانه بالوهيّته مبدأ لكلّ خلق و أمر، و بربوبيّته للعالمين مالكهم و مدبّرهم، و بأنّه رحمن فيّاض للرحمة على جميع خلقه، و بأنّه رحيم للمؤمنين خاصّة، و بملكه يوم الدين حاكم فاصل بين عباده مجاز إيّاهم، فلا يبقى شأن من شؤون ما سواه إلّا و هو مبدؤه و مصيره، فله الحمد جميعا.
روي في كشف الغمّة: عن الصادق- عليه السلام-: «قال فقد لأبي- عليه السلام- بغلة، فقال- عليه السلام-: لئن ردّها اللّه عليّ لأحمدنّه بمحامد يرضاها، فما لبث أن أتي بها بسرجها و لجامها، فلمّا استوى و ضمّ إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء و قال: الحمد للّه، و لم يزد، ثمّ قال: ما تركت و لا أبقيت شيئا، جعلت أنواع المحامد للّه عزّ و جلّ، فما من حمد إلّا و هو داخل فيما قلت»، «1» الحديث.
ثمّ إنّ الظاهر من سياق هذه الآيات و قرينة الالتفات في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «2» أنّ قوله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» إلى آخره، كلام العبد، فهو سبحانه يلقي قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ، بالنيابة عن عبده تأديبا و تعليما لما ليس له بنفسه، فإنّ الحمد توصيف، و قد نزّه سبحانه نفسه عمّا يصفه به العباد، فقال سبحانه:
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ* إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ «3» و لم يرد في كلامه ما يؤذن بحكاية الحمد عن غيره إلّا قوله لنبيّه نوح [عليه السلام]: فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، «4» و قوله في خليله إبراهيم- عليه السلام-: الْحَمْدُ لِلَّهِ
(1). كشف الغمّة 2: 329.
(2). الفاتحة (1): 5.
(3). الصافّات (37): 159 و 160.
(4). المؤمنون (23): 28.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 42
الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ، «1» و قوله لرسوله محمّد- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- في ستّة مواضع، أو سبعة من كلامه: وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ،* «2» و هؤلاء من عباده المخلصين بنصّ القرآن، و إلّا ما حكاه عن أهل الجنّة في مواضع من كلامه، كقوله: وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، «3» و هم مطهّرون من غلّ الصدور و لغو القول و التأثيم، و أمّا غير هذه الموارد فهو سبحانه و إن حكى عن كثير من خلقه بل عن جميعهم الحمد له، كقوله: وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، «4» و قوله: وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، «5» و قوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، «6» إلّا أنّه سبحانه شفّع الحمد في جميعها بالتسبيح، بل جعل التسبيح هو المحكيّ و الحمد معه، و ذلك أنّ غيره سبحانه لا يحيطون بجمال أفعاله و كمالها لما لم يحيطوا بجمال صفاته الذي عنه جمال الفعل، فما أحاطوا به من شيء فهو محدود بحدودهم مقدّر بقدر نيلهم، فلا يستقيم ما أثنوه بثناء إلّا بعد أن يسبّحوه و ينزّهوه عمّا حدّوه و قدّروه بأفهامهم، و قد قال سبحانه:
وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ،* «7» فالذي يقتضيه أدب العبوديّة أن يقتصر من الثناء على ما يعلمه سبحانه من جمال فعله و صفته، و يطوي كشحا عمّا دون ذلك، كما في الحديث المتّفق عليه بين الفريقين عن النبيّ- صلّى اللّه عليه و آله
(1). إبراهيم (14): 39.
(2). الإسراء (17): 111؛ النمل (27): 59، 93؛ المؤمنون (23): 28؛ العنكبوت (29):
63؛ لقمان (31): 25.
(3). يونس (10): 10.
(4). الشورى (42): 5.
(5). الرعد (13): 13.
(6). الإسراء (17): 44.
(7). البقرة (2): 216 و 232؛ آل عمران (3): 66؛ النور (24): 19.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 43
و سلّم-: «لا احصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك». «1»
و في العيون: عن عليّ- عليه السلام- أنّه سئل عن تفسيرها، فقال: «هو أنّ اللّه سبحانه عرّف عباده بعض نعمه عليهم جملا إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل لأنّها أكثر من أن تحصى أو تعرف، فقال: قولوا: الحمد للّه على ما أنعم به علينا». «2»
أقول: يشير- عليه السلام- إلى ما مرّ أنّ الحمد من العبد و إنّما ذكره سبحانه بالنيابة تأديبا و تعليما، و مراده من تعريف بعض النعم جملا ما يشتمل عليه الأسماء المعدودة بعد الحمد من إجمال النعم و جملها، كما عدّ سبحانه فيوضات هذه الأسماء في سورة الرحمن نعما و آلاء لنفسه، و يشير إليه الحديث القدسيّ الآتي.
(1). عوالي اللآلي 4: 114، الحديث: 176؛ مسند أحمد 1: 96 و 118 و 150، و 6: 201؛ صحيح مسلم 2: 51؛ سنن ابن ماجة 1: 373. أيضا لا حظ الكافي 3: 324، الحديث:
12؛ التوحيد: 114، الحديث: 13.
(2). عيون أخبار الرضا- عليه السلام- 2: 255، الحديث: 30.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 44
[سورة الفاتحة (1): آية 5]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
قوله سبحانه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
العبد هو المملوك من الإنسان أو كلّ ذي شعور بتجريد المعنى، كما يعطيه قوله سبحانه: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً، «1» و العبادة مأخوذة منه، و ربّما تفرّقت اشتقاقاتها أو المعاني المستعملة هي فيها لاختلاف الموارد، و ما ذكره الجوهري في الصحاح أنّ أصل العبوديّة الخضوع «2» فمن باب الأخذ باللازم، إذ الخضوع متعدّ باللام، و العبادة بنفسها، فكأنّ العبادة نصب العبد نفسه في مقام المملوكيّة لربّه، و لذلك كانت العبادة منافية للاستكبار، كما قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ، «3» و غير منافية للاشتراك، فمن الجائز أن يشترك أزيد من الواحد في عبادة واحد، كما جاز أن يشتركوا في ملك رقبة، قال سبحانه: وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ
(1). مريم (19): 93.
(2). الصحاح 2: 503، مادّة «عبد».
(3). غافر (40): 60.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 45
أَحَداً، «1» و قال: يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً، «2» و العبوديّة إنّما تستقيم فيما بين العبيد و مواليهم فيما يملكه الموالي منهم، و أمّا ما لا يتعلّق به الملك من شؤون العبد فلا يتعلّق به عبادة و لا عبوديّة لكنّ اللّه سبحانه إذا نسبنا إليه العبوديّة لم نجد شيئا سواه لا يتعلّق به ملكه كما لا نجد شيئا سواه يشاركه في ملكه، و ذلك كما يفيده معاني ما ساقه سبحانه من أسمائه عند الحمد، فليس الملك إلّا له سبحانه فقط، و ليس لغيره سبحانه إلّا المملوكيّة فقط بنحو التعاكس في القصر، فالملك مقصور له سبحانه، و غيره مقصور على المملوكيّة.
ثمّ إنّ الملك لا يحجب عن مالكه، فإنّك إذا نظرت إلى الدار المملوكة لزيد- مثلا- فإن نظرت إليها بما أنّها دار أمكنك أن تغفل عن زيد، و إن نظرت إليها بما أنّها ملك زيد لم يمكنك الغفلة عن المالك، و إذ كان ما سواه سبحانه ليس له إلّا المملوكيّة و كانت هذه حقيقيّة لم يمكن لشيء منها أن يحجب عن ربّه سبحانه و لا النظر إليه و الغفلة عنه سبحانه، فله سبحانه الحضور المطلق، قال سبحانه:
و في تحف العقول: عن الصادق- عليه السلام- في حديث: «و من زعم أنّه يعبد بالصفة لا بالإدراك فقد أحال على غائب، و من زعم أنّه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغّر بالكبير و ما قدروا اللّه حقّ قدره» «4» الحديث.
(1). الكهف (18): 110.
(2). النور (24): 55.
(3). فصّلت (41): 53 و 54.
(4). تحف العقول: 326.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 46
فحقّ عبادته سبحانه- و هي إظهار العبوديّة و حكاية ما عليه العبد من مولاه- أن يكون عن حضور مطلق بإمحاء كلّ ما يوجب بحضوره غيبة المعبود و الانصراف عنه إلى غيره و ترك الاشتغال بما هو مربوب مملوك له و هو الشرك، قال سبحانه: قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، «1» فالاشتغال بغيره سبحانه- إمّا بعبادة ذلك الغير، أو في ضمن العبادة له سبحانه- إعطاء ربوبيّة لغير اللّه سبحانه، و إنّما الفرق أنّ العبادة لغيره سبحانه ترك له و أخذ لغيره و الاشتغال بغيره أو طلبه من العبادة، كطلب الوصول إلى ثواب أو النجاة من عذاب توسيط له سبحانه بينه و بين المطلوب و الواسطة غير مقصودة بالذات إلّا من أجل ذي الواسطة، فهو المقصود المعبود بالحقيقة و المآل، كما يشير إليه في رواية تحف العقول السابقة: «و من زعم أنّه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغّر بالكبير» «2» الحديث، فالعابد له لأنّه ينعم بالجنّة أو ينجي من النار يصغّر الكبير، قال سبحانه: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، «3» و قال: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ، «4» و قال: وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. «5»
و في الكافي: عن الصادق- عليه السلام- قال: «العبادة ثلاثة: قوم عبدوا اللّه خوفا، فتلك عبادة العبيد، و قوم عبدوا اللّه تبارك و تعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الاجراء، و قوم عبدوا اللّه عزّ و جلّ حبّا له، فتلك عبادة الأحرار، و هي
(1). الأنعام (6): 164.
(2). تحف العقول: 326؛ نقلت رواية قبل أسطر.
(3). الزمر (39): 2.
(4). الزمر (39): 3.
(5). الزمر (39): 3.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 47
أفضل العبادة». «1»
و في نهج البلاغة: «إنّ قوما عبدوا اللّه رغبة، فتلك عبادة التجّار، و إنّ قوما عبدوا اللّه رهبة، فتلك عبادة العبيد، و إنّ قوما عبدوا اللّه شكرا، فتلك عبادة الأحرار». «2»
و في العلل، و المجالس، و الخصال: عن الصادق- عليه السلام-: «إنّ الناس يعبدون اللّه على ثلاثة أوجه، فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه، فتلك عبادة الحرصاء و هو الطمع، و آخرون يعبدونه خوفا من النار، فتلك عبادة العبيد و هي رهبة، و لكنّي أعبده حبّا له عزّ و جلّ، فتلك عبادة الكرام؛ لقوله عزّ و جلّ: وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ، «3» و لقوله عزّ و جلّ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، «4» فمن أحبّ اللّه عزّ و جلّ أحبّه، و من أحبّه اللّه كان من الآمنين»، «5» و هذا مقام مكنون لا يمسّه إلّا المطهّرون.
أقول: و قد تبيّن معناها ممّا مرّ. و ما عدّه في الخبر الثاني قسما و هو العبادة شكرا يرجع معناها إلى المحبّ على ما في الخبرين الآخرين، فإنّ الشكر وضع الشيء في محلّه، و العبادة شكرها أن يكون للّه الذي يستحقّها لذاته، فيعبد اللّه لأنّه هو، و هو المستجمع لصفات الجمال بذاته، فهو الجميل لذاته المحبوب لذاته، فليس الحبّ إلّا الميل الغريزي إلى الجميل من حيث هو جميل. فقولنا
(1). الكافي 2: 84، الحديث: 5.
(2). نهج البلاغة، الكلمة: 237.
(3). النمل (27): 89.
(4). آل عمران (3): 31.