کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 45
أَحَداً، «1» و قال: يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً، «2» و العبوديّة إنّما تستقيم فيما بين العبيد و مواليهم فيما يملكه الموالي منهم، و أمّا ما لا يتعلّق به الملك من شؤون العبد فلا يتعلّق به عبادة و لا عبوديّة لكنّ اللّه سبحانه إذا نسبنا إليه العبوديّة لم نجد شيئا سواه لا يتعلّق به ملكه كما لا نجد شيئا سواه يشاركه في ملكه، و ذلك كما يفيده معاني ما ساقه سبحانه من أسمائه عند الحمد، فليس الملك إلّا له سبحانه فقط، و ليس لغيره سبحانه إلّا المملوكيّة فقط بنحو التعاكس في القصر، فالملك مقصور له سبحانه، و غيره مقصور على المملوكيّة.
ثمّ إنّ الملك لا يحجب عن مالكه، فإنّك إذا نظرت إلى الدار المملوكة لزيد- مثلا- فإن نظرت إليها بما أنّها دار أمكنك أن تغفل عن زيد، و إن نظرت إليها بما أنّها ملك زيد لم يمكنك الغفلة عن المالك، و إذ كان ما سواه سبحانه ليس له إلّا المملوكيّة و كانت هذه حقيقيّة لم يمكن لشيء منها أن يحجب عن ربّه سبحانه و لا النظر إليه و الغفلة عنه سبحانه، فله سبحانه الحضور المطلق، قال سبحانه:
و في تحف العقول: عن الصادق- عليه السلام- في حديث: «و من زعم أنّه يعبد بالصفة لا بالإدراك فقد أحال على غائب، و من زعم أنّه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغّر بالكبير و ما قدروا اللّه حقّ قدره» «4» الحديث.
(1). الكهف (18): 110.
(2). النور (24): 55.
(3). فصّلت (41): 53 و 54.
(4). تحف العقول: 326.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 46
فحقّ عبادته سبحانه- و هي إظهار العبوديّة و حكاية ما عليه العبد من مولاه- أن يكون عن حضور مطلق بإمحاء كلّ ما يوجب بحضوره غيبة المعبود و الانصراف عنه إلى غيره و ترك الاشتغال بما هو مربوب مملوك له و هو الشرك، قال سبحانه: قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، «1» فالاشتغال بغيره سبحانه- إمّا بعبادة ذلك الغير، أو في ضمن العبادة له سبحانه- إعطاء ربوبيّة لغير اللّه سبحانه، و إنّما الفرق أنّ العبادة لغيره سبحانه ترك له و أخذ لغيره و الاشتغال بغيره أو طلبه من العبادة، كطلب الوصول إلى ثواب أو النجاة من عذاب توسيط له سبحانه بينه و بين المطلوب و الواسطة غير مقصودة بالذات إلّا من أجل ذي الواسطة، فهو المقصود المعبود بالحقيقة و المآل، كما يشير إليه في رواية تحف العقول السابقة: «و من زعم أنّه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغّر بالكبير» «2» الحديث، فالعابد له لأنّه ينعم بالجنّة أو ينجي من النار يصغّر الكبير، قال سبحانه: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، «3» و قال: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ، «4» و قال: وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. «5»
و في الكافي: عن الصادق- عليه السلام- قال: «العبادة ثلاثة: قوم عبدوا اللّه خوفا، فتلك عبادة العبيد، و قوم عبدوا اللّه تبارك و تعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الاجراء، و قوم عبدوا اللّه عزّ و جلّ حبّا له، فتلك عبادة الأحرار، و هي
(1). الأنعام (6): 164.
(2). تحف العقول: 326؛ نقلت رواية قبل أسطر.
(3). الزمر (39): 2.
(4). الزمر (39): 3.
(5). الزمر (39): 3.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 47
أفضل العبادة». «1»
و في نهج البلاغة: «إنّ قوما عبدوا اللّه رغبة، فتلك عبادة التجّار، و إنّ قوما عبدوا اللّه رهبة، فتلك عبادة العبيد، و إنّ قوما عبدوا اللّه شكرا، فتلك عبادة الأحرار». «2»
و في العلل، و المجالس، و الخصال: عن الصادق- عليه السلام-: «إنّ الناس يعبدون اللّه على ثلاثة أوجه، فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه، فتلك عبادة الحرصاء و هو الطمع، و آخرون يعبدونه خوفا من النار، فتلك عبادة العبيد و هي رهبة، و لكنّي أعبده حبّا له عزّ و جلّ، فتلك عبادة الكرام؛ لقوله عزّ و جلّ: وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ، «3» و لقوله عزّ و جلّ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، «4» فمن أحبّ اللّه عزّ و جلّ أحبّه، و من أحبّه اللّه كان من الآمنين»، «5» و هذا مقام مكنون لا يمسّه إلّا المطهّرون.
أقول: و قد تبيّن معناها ممّا مرّ. و ما عدّه في الخبر الثاني قسما و هو العبادة شكرا يرجع معناها إلى المحبّ على ما في الخبرين الآخرين، فإنّ الشكر وضع الشيء في محلّه، و العبادة شكرها أن يكون للّه الذي يستحقّها لذاته، فيعبد اللّه لأنّه هو، و هو المستجمع لصفات الجمال بذاته، فهو الجميل لذاته المحبوب لذاته، فليس الحبّ إلّا الميل الغريزي إلى الجميل من حيث هو جميل. فقولنا
(1). الكافي 2: 84، الحديث: 5.
(2). نهج البلاغة، الكلمة: 237.
(3). النمل (27): 89.
(4). آل عمران (3): 31.
(5). علل الشرائع 1: 12- 13، الباب: 9، الحديث: 8؛ أمالي للصدوق- رحمه اللّه-: 38، الحديث: 4، المجلس العاشر؛ الخصال: 188، الحديث: 259.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 48
فيه سبحانه: لأنّه جميل، و أنّه محبوب، و أنّه هو كلّها واحد. فالعبادة شكرا هي العبادة حبّا، فافهم ذلك.
و لنرجع إلى ما كنّا فيه، فنقول: و كأنّ ما ذكرناه من جهتي القصر في العبادة و ما يلزمهما، أعني التوحيد في العبادة، و معنى الحضور هو الوجه في الالتفات من الغيبة إلى الحضور و تقديم الضمير في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ.
و روي بطريق عامّي في معناه عن الصادق- عليه السلام-: «يعني: لا نريد منك غيرك، لا نعبدك بالعوض و البدل، كما يعبدك الجاهلون بك، المغيّبون عنك». «1»
أقول: و قد اتّضح معناه ممّا مرّ آنفا.
و اعلم: أنّه لا يبقى على ما مرّ من معنى إِيَّاكَ نَعْبُدُ، نقص في إظهار العبوديّة غير ما في دعوى العبد العبادة لنفسه، و هي مملوكة له سبحانه، فكأنّه تدورك ذلك في قوله: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، أي: إنّ الذي ننسبه من العبادة إلى أنفسنا إنّما ننسبه إلينا و ندّعيه مع الاستعانة بك، لا مستقلّين مدّعين ذلك دونك.
فقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لإبداء معنى واحد؛ و هو العبادة الكاملة، و كأنّه لذلك شرّك بين الاستعانة و العبادة في السياق.
و قيل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ من دون أن يقال نحو من قولنا: إيّاك نعبد أعنّا و اهدنا، و سيجيء الوجه في تغيير السياق في قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ.
(1). تفسير الصافي 1: 84.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 49
[سورة الفاتحة (1): الآيات 6 الى 7]
سؤال للهداية، و قد وصف سبحانه الصراط بالمستقيم و عرّفه به، ثمّ بيّنه بأنّه صراط الذين أنعم عليهم و عرّفهم بالمقابلة بأنّهم غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، و قد قرّر في كلامه للجميع سبيلا يسلكون به إليه سبحانه، كلّ على شاكلته، «1» فقال سبحانه: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، «2» و قال سبحانه: وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، «3» أي فيزعمون أنّ الخلقة قد تخلّفت عن مراده سبحانه، و قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِ
(1). إشارة إلى قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا، الإسراء (17): 84.
(2). الذاريات (51): 56.
(3). يوسف (12): 21.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 50
شَيْءٍ قَدْراً «1» أي حدّا محدودا و قدرا مخصوصا بحسب ما يشاكل خلقته و شأنه، فلا ينبغي لزاعم أن يزعم أنّه سبحانه يريد ما يريده من كلّ شيء على و تيرة واحدة، ثمّ يقدّر أنّ الخلقة صادفت غايتها في بعض و تخلّفت عنها في آخر.
و بالجملة، فالعبادة غاية الإيجاد، و هي ثابتة في كلّ موجود لا تتخلّف.
و لا يذهب عليك أنّ هذا ليس من الجبر الباطل في شيء، فمثل الخلق بالنسبة إلى ربّهم كمثل العبد يملكه المولى من ملك نفسه و ما يتّجر به و يتصرّف من نقل و مبادلة و أكل و شرب و سكنى، و هو و ما يملكه لمولاه، و للمولى في ملكه حكم، و للعبد فيما ملكه بتمليك المولى حكم، ففرق بين أن نبطل بملك المولى ملك العبد، و هو مثل الجبر، أو بملك العبد ملك المولى، و هو مثل التفويض، و بين أن نثبت للمولى ملكه و للعبد ملكه بتمليك المولى، و هو الحقّ.
و بالجملة، فهو سبحانه معبود مطلقا، و قد قال: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ، «2» و قال تعالى: وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ، «3» إلى غير ذلك من الآيات، فأثبت أنّ الكلّ سائرون إليه سبحانه و أنّ للجميع طريقا.
ثمّ فرّق سبحانه بين السبل و الطرق فقال: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ، «4» فهناك صراط مستقيم و غيره، و قال سبحانه: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي، «5» و قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ
(1). الطلاق (65): 3.
(2). الانشقاق (84): 6.
(3). المائدة (5): 18.
(4). يس (36): 60 و 61.
(5). البقرة (2): 186.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 51
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ، «1» فبيّن أنّه قريب من عباده و أنّ الطريق القريب منه سبحانه دعاؤه و عبادته، ثمّ قال سبحانه في وصف الذين لا يؤمنون: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، «2» فبيّن أنّ غاية غير المؤمنين في مسيرهم و سبيلهم بعيدة، فالسبيل إلى اللّه سبيلان: سبيل قريب و هو سبيل المؤمنين، و سبيل بعيد و هو سبيل غيرهم، فهذا نحو اختلاف في الطرق.
و هناك نحو آخر من الاختلاف، قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ، «3» و قال سبحانه: وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى «4» أي سقط إلى أسفل و هو أسفل سافلين، و قال: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً، «5» فعرّف الضلال بالشرك لمكان «قد»، و قال:
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ، «6» و قال: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ، «7» و عند ذلك تقسّم الناس في طرقهم ثلاثة أصناف، و طرقهم ثلاثة: من طريقه إلى فوق و هم المؤمنون و أولو العلم، و من طريقه إلى أسفل و هم المغضوب عليهم، و من ضلّ الطريق و هو في الطريق و هم الضالّون، و في هذه المعاني آيات اخر كثيرة.
ثمّ إنّ الضلال كما عرفت معرّف بالشرك في قوله: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ
(1). غافر (40): 60.
(2). فصّلت (41): 44.
(3). الأعراف (7): 40.
(4). طه (20): 81.
(5). النساء (4): 116.
(6). المجادلة (58): 11.