کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 71
سورة البقرة- 1-
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 73
[سورة البقرة (2): الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله سبحانه: الم سيأتي بعض ما يتعلّق من الكلام بالحروف المقطّعة- التي في أوائل السور- في أوّل سورة الشورى، و كذلك الكلام في هداية القرآن فيها.
قوله سبحانه: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ المتّقون هم المؤمنون، و ليست التقوى من الأوصاف الخاصّة لطبقة من طبقاتهم،- أعني لمرتبة من مراتب الإيمان- حتّى تكون مقاما من مقاماته، كالإخبات و الخلوص، بل هي صفة مجامعة لجميع مراتب الإيمان إذا تلبّس الإيمان بلباس التحقّق و الصدق.
و الذي أخذه سبحانه من الأوصاف المعرّفة للتقوى في هذه الآيات التسع
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 74
عشرة- التي يبيّن فيها حال المؤمنين و الكافرين و المنافقين- خمس صفات؛ و هي: الإيمان بالغيب، و إقامة الصلاة، و الإنفاق ممّا رزقهم اللّه، و الإيمان بما أنزل اللّه على أنبيائه، و الإيقان بالآخرة.
و حيث عقّب سبحانه هذه الأوصاف بقوله: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ و قابلها أيضا بما وصف به الكافرين و المنافقين- من الضلال و العمى الذاتي الذي لهم من أنفسهم، و الضلال العارضي الذي يمدّ سبحانه به ضلالهم الذاتي- فهذه الأوصاف تنشأ في المتّقين من اهتداءين في مقابل الضلالين في غيرهم، و هما اهتداء ذاتي أوّل، و اهتداء ثان يلحق بالأوّل، و يتمّ به كمالهم في الإيمان، و هما: سلامة الفطرة في الإنسان و ما يلحق بها ثانيا من خلعة الاهتداء من اللّه- سبحانه-:
نّ الفطرة إذا سلمت لم تنفكّ من أن تتنبّه شاهدة لفقرها و حاجتها إلى أمر خارج، و كذلك احتياج كلّ ما سواها- ممّا يقع عليه حسّ أو وهم أو عقل- إلى أمر خارج تقف دونه سلسلة الحوائج، فهي شاهدة بوجود موجود غائب عن الحسّ، منه يبدأ الجميع و إليه ينتهي و يعود، و أنّه كما لم يهمل دقيقة من دقائق ما يحتاج إليه الخلقة، كذلك لا يهمل هداية الناس إلى ما ينجون به من مهلكات الأعمال و الأخلاق، و هذا هو الإذعان بالتوحيد و المعاد و النبوّة، و هي اصول الدين.
و يلزم ذلك استعمال الخضوع له سبحانه في ربوبيّته، و استعمال ما في وسع الإنسان- من مال و جاه و علم- لإحياء هذا الأمر و نشره، و هذان هما الصلاة و الإنفاق.
و من هنا يعلم: أنّ الذي أخذه سبحانه من أوصافهم، هو الذي تقضي به الفطرة إذا سلمت، و أنّه سبحانه وعدهم بأنّه سيفيض عليهم أمرا سمّاه هداية؛ فهذه الأعمال الزاكية منهم متوسّطة بين أمرين: إهتداء ذاتي سابق، و اهتداء ثان
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 75
لاحق، و بين الهدايتين يقع صدق الاعتقاد و صلاح العمل.
و الدليل على أنّ هذه الهداية من اللّه- سبحانه- فرع الاهتداء الذاتي الأوّل:
آيات كثيرة؛ كقوله سبحانه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، «1» و قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ، «2» و قوله: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ، «3» و قوله: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، «4» و قوله: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ «5» ... إلى غير ذلك.
و الأمر في ضلال الكافرين و المنافقين كما في المؤمنين، فعندهم ضلالان:
أحدهما من عند أنفسهم، و الثاني من عند اللّه- سبحانه-؛ خذلانا لهم و عقوبة لكفرهم و نفاقهم؛ ففي هذه الآيات إشارة إلى حياة اخرى للإنسان مستبطنة كامنة تحت هذه الحياة الدنيويّة، و هي الحياة التي بها يعيش الإنسان في هذه الدار و بعد الموت و حين البعث، و سيأتي تتمّة الكلام فيه- إن شاء اللّه-
قوله سبحانه: يُؤْمِنُونَ الإيمان تمكّن الاعتقاد في القلب؛ مأخوذ من الأمن، كأنّ المؤمن يعطي لما آمن به الأمن من الريب و الشكّ، و هو آفة الاعتقاد.
و الإيمان- كما مرّ- معنى ذو مراتب؛ إذ الإذعان ربّما يتعلّق بالشيء نفسه
(1). إبراهيم (14): 27.
(2). الحديد (57): 28.
(3). محمّد (47): 7.
(4). البقرة (2): 258.
(5). المائدة (5): 108.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 76
فيترتّب عليه أثره فقط، و ربّما يشتدّ بعض الاشتداد فيتعلّق ببعض لوازمه، و ربّما يتعلّق بجميع لوازمه، فيستنتج منه أنّ للمؤمنين طبقات على حسب مراتب الإيمان.
قوله سبحانه: بِالْغَيْبِ قد عرفت معنى الإيمان بالغيب على ما يستفاد من السياق.
و في المعاني عن الصادق- عليه السلام- في قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قال: «من آمن «1» بقيام القائم أنّه حقّ». «2»
و فيه عن يحيى بن أبي القاسم قال: «سألت الصادق- عليه السلام- عن قول اللّه- عزّ و جلّ-: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فقال: المتّقون شيعة عليّ- عليه السلام- و الغيب هو الحجّة الغائب، و شاهد ذلك قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ. «3» «4»
أقول: و الحديثان من باب الجري. و سيأتي الكلام في تمام معنى الغيب في قوله: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ. «5»
قوله سبحانه: وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ قد عرفت معنى الإنفاق على ما يستفاد من السياق، و أنّه لا يختصّ بالمال؛
(1). في المصدر: «من أقر»
(2). كمال الدين 1: 17.
(3). يونس (10): 20.
(4). كمال الدين 2: 341- 342، الحديث: 20.