کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 73
[سورة البقرة (2): الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله سبحانه: الم سيأتي بعض ما يتعلّق من الكلام بالحروف المقطّعة- التي في أوائل السور- في أوّل سورة الشورى، و كذلك الكلام في هداية القرآن فيها.
قوله سبحانه: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ المتّقون هم المؤمنون، و ليست التقوى من الأوصاف الخاصّة لطبقة من طبقاتهم،- أعني لمرتبة من مراتب الإيمان- حتّى تكون مقاما من مقاماته، كالإخبات و الخلوص، بل هي صفة مجامعة لجميع مراتب الإيمان إذا تلبّس الإيمان بلباس التحقّق و الصدق.
و الذي أخذه سبحانه من الأوصاف المعرّفة للتقوى في هذه الآيات التسع
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 74
عشرة- التي يبيّن فيها حال المؤمنين و الكافرين و المنافقين- خمس صفات؛ و هي: الإيمان بالغيب، و إقامة الصلاة، و الإنفاق ممّا رزقهم اللّه، و الإيمان بما أنزل اللّه على أنبيائه، و الإيقان بالآخرة.
و حيث عقّب سبحانه هذه الأوصاف بقوله: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ و قابلها أيضا بما وصف به الكافرين و المنافقين- من الضلال و العمى الذاتي الذي لهم من أنفسهم، و الضلال العارضي الذي يمدّ سبحانه به ضلالهم الذاتي- فهذه الأوصاف تنشأ في المتّقين من اهتداءين في مقابل الضلالين في غيرهم، و هما اهتداء ذاتي أوّل، و اهتداء ثان يلحق بالأوّل، و يتمّ به كمالهم في الإيمان، و هما: سلامة الفطرة في الإنسان و ما يلحق بها ثانيا من خلعة الاهتداء من اللّه- سبحانه-:
نّ الفطرة إذا سلمت لم تنفكّ من أن تتنبّه شاهدة لفقرها و حاجتها إلى أمر خارج، و كذلك احتياج كلّ ما سواها- ممّا يقع عليه حسّ أو وهم أو عقل- إلى أمر خارج تقف دونه سلسلة الحوائج، فهي شاهدة بوجود موجود غائب عن الحسّ، منه يبدأ الجميع و إليه ينتهي و يعود، و أنّه كما لم يهمل دقيقة من دقائق ما يحتاج إليه الخلقة، كذلك لا يهمل هداية الناس إلى ما ينجون به من مهلكات الأعمال و الأخلاق، و هذا هو الإذعان بالتوحيد و المعاد و النبوّة، و هي اصول الدين.
و يلزم ذلك استعمال الخضوع له سبحانه في ربوبيّته، و استعمال ما في وسع الإنسان- من مال و جاه و علم- لإحياء هذا الأمر و نشره، و هذان هما الصلاة و الإنفاق.
و من هنا يعلم: أنّ الذي أخذه سبحانه من أوصافهم، هو الذي تقضي به الفطرة إذا سلمت، و أنّه سبحانه وعدهم بأنّه سيفيض عليهم أمرا سمّاه هداية؛ فهذه الأعمال الزاكية منهم متوسّطة بين أمرين: إهتداء ذاتي سابق، و اهتداء ثان
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 75
لاحق، و بين الهدايتين يقع صدق الاعتقاد و صلاح العمل.
و الدليل على أنّ هذه الهداية من اللّه- سبحانه- فرع الاهتداء الذاتي الأوّل:
آيات كثيرة؛ كقوله سبحانه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، «1» و قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ، «2» و قوله: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ، «3» و قوله: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، «4» و قوله: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ «5» ... إلى غير ذلك.
و الأمر في ضلال الكافرين و المنافقين كما في المؤمنين، فعندهم ضلالان:
أحدهما من عند أنفسهم، و الثاني من عند اللّه- سبحانه-؛ خذلانا لهم و عقوبة لكفرهم و نفاقهم؛ ففي هذه الآيات إشارة إلى حياة اخرى للإنسان مستبطنة كامنة تحت هذه الحياة الدنيويّة، و هي الحياة التي بها يعيش الإنسان في هذه الدار و بعد الموت و حين البعث، و سيأتي تتمّة الكلام فيه- إن شاء اللّه-
قوله سبحانه: يُؤْمِنُونَ الإيمان تمكّن الاعتقاد في القلب؛ مأخوذ من الأمن، كأنّ المؤمن يعطي لما آمن به الأمن من الريب و الشكّ، و هو آفة الاعتقاد.
و الإيمان- كما مرّ- معنى ذو مراتب؛ إذ الإذعان ربّما يتعلّق بالشيء نفسه
(1). إبراهيم (14): 27.
(2). الحديد (57): 28.
(3). محمّد (47): 7.
(4). البقرة (2): 258.
(5). المائدة (5): 108.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 76
فيترتّب عليه أثره فقط، و ربّما يشتدّ بعض الاشتداد فيتعلّق ببعض لوازمه، و ربّما يتعلّق بجميع لوازمه، فيستنتج منه أنّ للمؤمنين طبقات على حسب مراتب الإيمان.
قوله سبحانه: بِالْغَيْبِ قد عرفت معنى الإيمان بالغيب على ما يستفاد من السياق.
و في المعاني عن الصادق- عليه السلام- في قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قال: «من آمن «1» بقيام القائم أنّه حقّ». «2»
و فيه عن يحيى بن أبي القاسم قال: «سألت الصادق- عليه السلام- عن قول اللّه- عزّ و جلّ-: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فقال: المتّقون شيعة عليّ- عليه السلام- و الغيب هو الحجّة الغائب، و شاهد ذلك قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ. «3» «4»
أقول: و الحديثان من باب الجري. و سيأتي الكلام في تمام معنى الغيب في قوله: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ. «5»
قوله سبحانه: وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ قد عرفت معنى الإنفاق على ما يستفاد من السياق، و أنّه لا يختصّ بالمال؛
(1). في المصدر: «من أقر»
(2). كمال الدين 1: 17.
(3). يونس (10): 20.
(4). كمال الدين 2: 341- 342، الحديث: 20.
(5). الأنعام (6): 59.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 77
و إطلاق الرزق على غير المال- من سائر الكرامات- كثير في القرآن.
و في تفسير العيّاشي عن الصادق- عليه السلام- في الآية، قال: «و ممّا علّمناهم يبثّون». «1» «2»
و في المعاني عنه- عليه السلام-: «و ممّا علّمناهم يبثّون، «3» و مما علّمناهم من القرآن يتلون». «4»
قوله سبحانه: وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ العدول- في خصوص الإذعان بالآخرة- عن الإيمان إلى اليقين، كأنّه للإيماء إلى أنّ التقوى لا تتمّ إلّا مع اليقين بالآخرة- الذي لا يجامع نسيانها- دون الإيمان المجرّد؛ فإنّ الإنسان ربّما يؤمن بشيء و يذهل عن بعض لوازمه فيأتي بما ينافيه، لكنّه إذا كان على ذكر من يوم يحاسب فيه على الخطير و اليسير من أعماله، لا يقتحم معه الموبقات، و لا يحوم حول محارم اللّه البتّة.
قال سبحانه: وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ «5» فبيّن أنّ الضلال عن سبيل اللّه إنّما هو بنسيان يوم الحساب، فذكره و اليقين به ينتج التقوى.
(1). في المصدر: «ينبئون»
(2). تفسير العيّاشي 1: 25، الحديث: 1.
(3). في المصدر: «ينبئون»
(4). معاني الأخبار: 23، الحديث: 2.
(5). ص (38): 26.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 78
[سورة البقرة (2): الآيات 16 الى 5]
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 79
قوله سبحانه: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ بيّن سبحانه أوّلا أنّ الكتاب هدى للمتّقين، ثمّ ظهر من السياق أنّ لهم اهتداءا فطريّا إجماليّا، يتعقّبه اهتداء تفصيليّ إلهيّ، و هو الذي يحصل لهم- ببيانه سبحانه لهم وجوه خيرهم من شرّهم، بواسطة كتابه المبيّن- فيه صلاح معاشهم و معادهم.
فظهر أنّ لهم الاهتداء بسلامة فطرتهم، و الاهتداء كرامة من ربّهم، و كان الجميع منه سبحانه؛ إذ كلّ حسنة فمن اللّه، فجمع بين الهدايتين، فقال: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ و قد قال سبحانه: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ «1» فذكر أنّ الهداية بانشراح الصدر وسعته، و قال: وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «2» و الشحّ: الضيقّ و البخل؛ فتمّ بذلك أنّ هؤلاء أصحاب الفلاح، فقال: فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...
هؤلاء قوم ثبتوا على الكفر، و تمكّن في قلوبهم؛ و يدلّ عليه قوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ... و الإتيان بالماضى المجرّد من «قد».
و يشعر تغيير السياق في قوله سبحانه: خَتَمَ اللَّهُ ... - حيث نسب الختم إلى نفسه، و الغشاوة إليهم أنفسهم- بأنّ فيهم حجابا دون الحقّ في ذاتهم و أنفسهم، و حجابا من اللّه عقيب كفرهم و فسوقهم؛ فأعمالهم متوسّطة بين حجابين: من ذاتهم و من اللّه تعالى؛ و سيجيء تمام الكلام في قوله تعالى:
(1). الأنعام (6): 125.