کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 93
و في مجمع البيان قال: «روي عن الصادق- عليه السلام- أنّه قال: إنّما ضرب اللّه المثل بالبعوضة؛ لأنّ البعوضة- على صغر حجمها- خلق اللّه فيها جميع ما خلق في الفيل- مع كبره- و زيادة عضوين آخرين، فأراد اللّه أن ينبّه بذلك المؤمنين على لطف خلقه و عجيب صنعته». «7»
قال الصادق- عليه السلام-: «و هذا القول من اللّه ردّ على من زعم أنّ اللّه- تبارك و تعالى- يضلّ العباد، ثمّ يعذّبهم على ضلالتهم، فقال اللّه- عزّ و جلّ-:
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها ». «8»
قوله سبحانه: إِلَّا الْفاسِقِينَ «الفسق» من الكلمات التي أبدع القرآن استعمالها في معناها المعروف، مأخوذ من فسقت التمرة: إذا خرجت عن قشرها و جلدها؛
و لذلك فسّر بعده بقوله:
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ... الآية، و النقض إنّما يكون عن إبرام.
و وصف الفاسقين أيضا في آخر الآية بالخاسرين و الإنسان إنّما يخسر فيما ملكه، قال تعالى: إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. «9»
و إيّاك أن تتلقّى هذه الأوصاف التي أثبتها سبحانه في كتابه للسعداء من عباده أو الأشقياء- مثل المقرّبين و المخلصين و المخبتين و الصالحين و المطهّرين و غيرها، و مثل الفاسقين و الظالمين و الخاسرين و الغاوين و الضالّين
. عيون أخبار الرضا- عليه السلام- 1: 123، الحديث: 16.
(7). مجمع البيان 1: 135.
(8). تفسير القمي 1: 34؛ تفسير نور الثقلين 1: 45، الحديث: 63؛ بحار الأنوار 5: 7، الحديث: 6.
(9). الزمر (39): 15.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 94
و أمثالها- أوصافا مبتذلة، أو مفيدة لمجرّد تزيين اللفظ، فتضطرب بذلك قريحتك في فهم كلامه سبحانه؛ فتعطف الجميع على واد واحد، و تأخذها هجاءا عامّيا و حديثا ساذجا سوقيّا! بل هي أوصاف كاشفة عن حقائق روحيّة و مقامات معنويّة، في صراطي السعادة و الشقاوة، كلّ واحد منها في نفسه مبدأ لآثار خاصّة، و منشأ لأحكام مخصوصة معيّنة، كما أنّ مراتب السّنّ و خصوصيّات القوى و أوضاع الخلقة، كلّ منها منشأ لأحكام و آثار مخصوصة لا يمكننا أن نطلب واحدا منها من غير منشئه و محتده، و لئن تدبّرت في مواردها من كلامه سبحانه و أمعنت فيها، وجدت صدق ما ادّعيناه.
و يتفرّع عليه: أنّ «اللام» في كثير من موارد الأوصاف للعهد.
قوله سبحانه: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ ...* هذه الأوصاف الثلاثة جامعة لجميع موارد الفسق، كما أنّ مقابلاتها لمقابلاته، و قد تكرّر ذكر معانيها في كلامه تعالى في موارد، و ذلك أنّ للإنسان رابطة في نفسه مع ربّه، و رابطة قريبة مع أرحامه و أقربائه، و رابطة مع جميع الأرض و من فيها، فإذا أبقاها على ما تقضي به الفطرة من إبقائها و تحكيمها، كان جاريا على ما هداه اللّه إليه بفطرته و بخلقته، و إنّما يتذكّر أولو الألباب، و إذا قطعها كان فاسقا خاسرا.
و في بعض الأخبار: أنّ الآية في حقّ أمير المؤمنين- عليه السلام- و ولايته، «1» و هو إن صحّ فمن باب الجري.
(1). تفسير القمي 1: 35؛ تفسير الإمام: 206، الحديث: 96؛ بحار الأنوار 24: 392؛ 90: 14.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 95
قوله سبحانه: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ...
رجوع و تفريع ثانيا إلى ما في صدر السورة؛ فإنّه بعد ما فرّع عليه قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ ... «1» الآية ببيان ملخّص في ضمن خمس آيات، عاد ثانيا إلى بيان أطنب منه في ضمن اثنتي عشرة آية، يبيّن فيه حال الإنسان و حياته و موته، و أنّه خلق له ما في الأرض جميعا و السماوات، و جعله خليفته، و أسجد له ملائكته، و أسكن أباه الجنّة، ثمّ فتح له باب التوبة، و أكرمه بعبادته و هدايته.
(1). البقرة (2): 21.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 96
[سورة البقرة (2): الآيات 33 الى 30]
قوله سبحانه: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ...
الآيات تنبئ عن غاية إنزال الإنسان إلى الدنيا، و حقيقة الخلافة في الأرض.
قوله تعالى: قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها - إلى قوله:- وَ نُقَدِّسُ لَكَ مشعر بأنّهم إنّما فهموا وقوع هذه المعاصي- التي عدّوها- من قوله سبحانه: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً حيث إنّ الوجود الأرضيّ بما أنّه مادّي مركّب من القوى الشهويّة و الغضبيّة، و الدار دار التزاحم، محدودة الجهات، وافرة المزاحمات، مركّباتها في معرض الانحلال، و انتظاماتها
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 97
و إصلاحاتها في مظنّة الفساد و مصبّ البطلان، لا تتمّ الحياة فيها إلّا بالحياة النوعيّة، و لا يكمل البقاء فيها إلّا بالاجتماع و التعاون، فلا يخلو من فساد و سفك دم، ففهموا من هناك أنّ الخلافة المرادة لا تقع في الأرض إلّا بكثرة الأفراد، و نظام اجتماعيّ بينهم يفضي بالأخرة إلى الفساد.
و الخلافة- و هي قيام شيء مقام آخر- لا تتمّ إلّا بكون الخليفة حاكيا بوجوده لوجود المستخلف، مبديا لآثاره الوجوديّة و أحكامه و تدابيره، و هو سبحانه بوجوده مسمّى بالأسماء الحسنى، متّصف بأوصاف الكمال و الجمال و الجلال، منزّه في صفاته عن النقص، و في أفعاله عن الشرّ و الفساد، جلّت عظمته. و الخليفة الأرضي- بما هو كذلك- لا يليق بالاستخلاف، و لا يحكي- بوجوده المشوب بكلّ نقص و شين- الوجود المنزّه المقدّس عن كلّ النقائص و الأعدام.
و هذا من الملائكة في مقام تعرّف ما جهلوه، و استيضاح ما أشكل عليهم من أمر هذا الخليفة، و ليس بالاعتراض، و الدليل عليه: قولهم فيما حكاه تعالى:
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ حيث صدّر ب: «إنّ» التعليليّة المشعرة بتسلّم مدخولها، فافهم.
فملخّص قولهم يعود إلى أنّ جعل الخلافة إنّما هو لأجل أن يحكي الخليفة مستخلفه بتسبيحه بحمده و تقديسه له بوجوده، و الأرضيّة لا تدعه يفعل ذلك، بل تجرّه إلى الفساد و الشرّ، و الغاية من هذا الجعل- و هي التسبيح و التقديس بالمعنى الذي مرّ من الحكاية- موجودة بتسبيحنا بحمدك و تقديسنا لك، فنحن خلفاؤك، أو فاجعلنا خلفاء لك، فأيّ فائدة في جعل هذه الخلافة الأرضيّة؟!
فردّ سبحانه ذلك عليهم بقوله: قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ* وَ عَلَّمَ آدَمَ
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 98
الْأَسْماءَ ... الآية و هذا السياق يفيد أنّه سبحانه لم ينف عن خليفة الأرض الفساد، و لا عن الملائكة دعواهم، و قرّرهم على ما ادّعوا، بل إنّما أبدى شيئا آخر؛ و هو أنّ هناك أمرا لا يقدر الملائكة على تحمّله، و يقدر عليه الخليفة الأرضي، فهو يحكي عنه سبحانه أمرا و يتحمّل سرّا ليس في الملائكة.
و قد بدّل سبحانه قوله: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ثانيا بقوله: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.
و هذا الغيب هو الأسماء، دون علم آدم بها؛ فالملائكة ما كانت تعلم أنّ هناك أسماءا لا يعلمونها، لا أنّهم كانوا يعلمون أنّ هناك أسماءا غير معلومة لكن ما كانوا يعلمون من آدم أنّه يعلمها؛ و إلّا لما كان لسؤاله تعالى إيّاهم عن الأسماء وجه، بل كان حقّ المقام أن يقتصر على قوله: قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ ... إلى آخره، حتّى يتبيّن لهم أنّ آدم يعلمها، لا أن يسأل الملائكة عن ذلك؛ فإنّ هذا السياق يعطي أنّهم ادّعوا الخلافة و أذعنوا انتفاءها عن آدم.
و كان اللازم في الخلافة أن يعلم الخليفة بالأسماء، فسألهم عن الأسماء فجهلوها، و علمها آدم- عليه السلام- فثبت لياقته لها و انتفاؤها عنهم، و قد ذيّل سبحانه السؤال بقوله: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ و هو يعطي أنّهم ادّعوا شيئا كان لازمه العلم بالأسماء لذلك.
و قوله سبحانه: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ ...
مشعر بأنّ هذه الأسماء- أو أنّ مسمّياتها- كانوا موجودات أحياءا عقلاء محجوبين تحت حجاب الغيب، و أنّ العلم بأسمائهم غير نحو العلم الذي عندنا بأسماء الأشياء؛ و إلّا لكانت الملائكة- بإنباء آدم إيّاهم بها- عالمين بها،
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 99
صائرين مثل آدم مساوين معه، و لم يكن في ذلك إكرام لآدم؛ حيث علّمه اللّه سبحانه أسماءا و لم يعلّمهم، و لو علّمهم إيّاها كانوا مثل آدم أو أشرف منه، و لم يكن في ذلك إقناع لهم و إلزام لحجّتهم.
و أيّ حجّة تتمّ في أن يعلّم اللّه رجلا علم اللغة، ثمّ يباهي به و يتمّ الحجّة على ملائكة مكرمين- لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون- بأنّ هذا قابل لخلافتي دونكم، و يقول تعالى لهم: أنبئوني باللغات- التي سوف يضعها الآدميّون بينهم للإفهام و التفهيم- إن كنتم صادقين في دعواكم أو مسألتكم خلافتي؟!
و أضف إلى ذلك: أنّ كمال اللغة هو المعرفة بمقاصد القلوب، و الملائكة لا تحتاج فيها إلى التكلّم، و إنّما تتلقّى المقاصد من غير واسطة.
و بالجملة: فما حصل للملائكة من العلم- بإنباء آدم لهم بالأسماء- من غير حقيقة العلم التي حصلت لآدم بأسمائهم بتعليمه سبحانه، فأحد الأمرين كان ممكنا في حقّ الملائكة و في مقدرتهم دون الآخر، و آدم- عليه السلام- إنّما استحقّ الخلافة الإلهيّة بالعلم بالأسماء دون إنبائها؛ إذ الملائكة إنّما قالوا في الجواب على ما حكاه سبحانه: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا فنفوا العلم دون القدرة على الإنباء، فافهم.