کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 131
و قد أبهم سبحانه هذه الكلمات حيث نكّرها، و أمّا الكلمات التي حكاها سبحانه عنهما في سورة الأعراف بقوله: قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «1» فليس فيها سؤال التوبة و المغفرة، و إنّما هو تذلّل بالاعتراف بالظلم و ميل و انعطاف إلى المغفرة و الرحمة، و إنّما لم يتعرّضا لسؤال التوبة إشعارا بغاية تذلّلهما و خضوعهما، على ما هو الدأب في أدب المستغفرين من الذنوب بين الناس فتراهم يذكرون ذنب العاصي ثمّ مغفرة المعصيّ له، ثمّ يسكتون؛ تلويحا بأنّ الأمر إليه كيف شاء.
و في لفظ التلقّي- و هو الأخذ- معنى الاستقبال، ففي معناه علم سابق، كما يعطيه الإستقبال، و قد كان عليه السلام «علّم الأسماء كلّها عقيب قول الملائكة لربّهم: أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ، «2» فهذا العلم كان من شأنه إزاحة كلّ ظلم و معصية بالضرورة؛ و إلّا لم يتمّ جواب الملائكة، و قد عرفت ما هي حقيقة هذه الأسماء، و أنّها وسائط الفيض لما دونها، و لا يتمّ كمال مستكمل إلّا ببركاتها.
و قد ورد في الخبر أنّه عليه السلام رأى أشباح أهل البيت و أنوارهم حين علّم الأسماء، «3» و ورد أنّه عليه السلام رآها حين أخرج اللّه ذرّيّته من ظهره، «4»
(1). الأعراف (7): 23.
(2). البقرة (2): 30.
(3). اليقين: 174؛ المسائل السرورية: 37؛ القصص للراوندي: 42 و 44؛ علل الشرائع 1:
208- 209، الحديث: 11؛ تفسير الفرات: 552، الحديث: 707؛ تفسير الإمام العسكري- عليه السلام-: 219، الحديث: 102.
(4). الكافي 2: 8، الحديث: 2؛ المناقب 2: 248؛ علل الشرائع 1: 18، الحديث: 2؛ علل الشرائع 1: 10، 4؛ سعد السعود: 35.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 132
و ورد أنّه عليه السلام رآها و هو في الجنّة»، «1» فراجع و اللّه الهادي.
و في تفسير القمّي عن الصادق- عليه السلام- قال: «إنّ موسى سأل ربّه أن يجمع بينه و بين آدم، فجمع، فقال له موسى: يا أبت ألم يخلقك اللّه بيده، و نفخ فيك من روحه، و أسجد لك الملائكة، و أمرك أن لا تأكل من الشجرة، فلم عصيته؟ قال: يا موسى! بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي في التوراة؟ قال:
بثلاثين ألف سنة، «2» قال: فقال: هو ذلك. قال الصادق- عليه السلام-: فحجج آدم- عليه السلام- موسى- عليه السلام-». «3»
أقول: و روي ما يقرب من هذا المعنى العلّامة السيوطي بعدّة طرق عن النبيّ- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-. «4»
و في العلل عن الباقر- عليه السلام-: «و اللّه لقد خلق اللّه آدم للدنيا، و أسكنه الجنّة ليعصيه، فيردّه إلى ما خلقه له». «5»
أقول: و قد مرّ رواية العيّاشي عن الصادق- عليه السلام- في خليل كان لآدم من الملائكة ... الحديث «6» في هذا المعنى.
و من الأخبار ما تظافرت بنزولهما من السماء إلى الصفا و المروة من أرض
(1). المناقب 1: 178؛ روضة الواعظين 1: 58؛ التوحيد: 330، الحديث: 9؛ تفسير الفرات:
148، الحديث: 186؛ تفسير العياشي 2: 238، الحديث: 57؛ 2: 40، الحديث: 111؛ بصائر الدرجات: 72، الحديث: 9؛ 71، الحديث: 6؛ الإختصاص: 332؛ الإحتجاج 1:
52؛ الكافي 2: 8، الحديث: 2؛ الكافي 2: 12- 13، الحديث: 4.
(2). في المصدر: «قبل أن خلق آدم»
(3). تفسير القمّي 1: 44.
(4). الدرّ المنثور 1: 56.
(5). علل الشرائع 2: 578، الحديث: 3.
(6). تفسير العياشي 1: 32، الحديث: 10.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 133
مكّة، «1» و في مقابلها ما في الاحتجاج في احتجاج عليّ- عليه السلام- مع الشامي حين سأله عن أكرم واد على وجه الأرض؟ فقال عليه السلام: «واد يقال له: سرانديب، سقط فيه آدم من السماء». «2»
أقول: و يمكن التوفيق بنزوله بسرانديب أوّلا ثمّ بأرض مكّة، و ليس بنزولين أرضيّين حتّى يمتنع أحدهما.
و أمّا كيفيّة نزوله من السماء إلى الأرض- و هو موجود أرضيّ-، فنظير ما ورد أنّ الجنّة في السماء «3» مع ما ورد أنّ القبر موطن أرواح المؤمنين، «4» فتأمّل.
(1). مرّ قبل صفحات.
(2). علل الشرائع (2): 594، الحديث: 44.
(3). تفسير القمّي 1: 230؛ إرشاد القلوب 2: 316؛ متشابه القرآن 2: 120؛ بحار الأنوار 8:
83 و 334؛ 30: 90.
(4). تفسير القمّي 1: 337؛ إرشاد القلوب 1: 55.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 134
[سورة البقرة (2): الآيات 40 الى 46]
قوله سبحانه: يا بَنِي إِسْرائِيلَ ...*
لمّا بيّن سبحانه حال الناس في افتراقهم إلى ثلاث، ثمّ دعاهم جميعا إلى عبادته، و كيفيّة خلقهم و مبدأه و غايته، أخذ في معاتبة أهل الكتاب و ملامتهم بعد ما أفاض عليهم من نعمته و ما حباهم من كرامته، و تفصيل ما يجب عليهم من حفظ عهوده و حقوقه ممّا اشتمل عليه البيان السابق بالإجمال، و ذلك في طيّ نيّف و مائة آية هذه أوّلها.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 135
قوله سبحانه: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي ...
في الكافي عن الصادق- عليه السلام-: «بولاية أمير المؤمنين أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أوف لكم بالجنّة». «1»
أقول: و هو من الجري.
قوله سبحانه: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ ...
الاستعانة- و هي طلب العون- إنّما تتمّ فيما لا يقوى الإنسان عليه وحده من المهمّات، و إذ لا معين في الحقيقة إلّا اللّه- سبحانه- فالعون على المهمّات إنّما هو استقامة الإنسان و اتّصاله به تعالى بالإقبال عليه، و هذا هو الصبر و الصلاة.
و قد ورد عن أهل البيت عليهم السلام عدّة روايات في تفسير الصبر بالصوم، «2» و هو من باب المصداق:
ففي الكافي عن الصادق- عليه السلام- قال: «كان عليّ- عليه السلام- إذا هاله أمر «3» فزع قام إلى الصلاة، ثمّ تلا هذه الآية: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ ». «4»
و فيه أيضا عنه عليه السلام في الآية، قال: «الصبر: الصيام، و قال: إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم؛ فإنّ اللّه- عزّ و جلّ- يقول: وَ اسْتَعِينُوا
(1). الكافي 1: 431، الحديث: 89.
(2). الكافي 4: 92، الحديث: 6؛ تفسير العياشي 1: 43، الحديث: 40 و 41؛ 1: 68، الحديث:
124؛ تفسير القمّي 1: 46.
(3). في المصدر: «شيء»
(4). الكافي 3: 480، الحديث: 1.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 136
بِالصَّبْرِ يعني الصيام». «1»
و روى مضمون الحديثين العيّاشي في تفسيره. «2»
و في تفسير العيّاشي- أيضا- عن أبي الحسن- عليه السلام- في الآية، قال:
«الصبر: الصوم، إذا نزلت بالرجل الشدّة أو النازلة فليصم؛ إنّ اللّه يقول:
وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ [الصبر: الصيام] «3» وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ و الخاشع: الذليل في صلاته، المقبل عليها؛ يعني رسول اللّه و أمير المؤمنين». «4»
أقول: و الفرق بين الخضوع و الخشوع- على أنّهما كليهما بمعنى الذلّة-: أنّ الأوّل مختصّ بالجوارح، و الثاني بالقلب؛ و قد استفاد عليه السلام من الآية استحباب الصوم و الصلاة عند نزول الملمّات و الشدائد، و كذا التوسّل بالنبيّ و الوليّ عندها، و هو تأويل الصوم و الصلاة برسول اللّه و أمير المؤمنين- عليهما السلام-
قوله سبحانه: إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ...
هذا المورد- أعني الاعتقاد بالآخرة- على أنّه مورد اليقين، لا يفيد فيه الظنّ الذي لا يمنع عن النقيض، و لعلّه إنّما أخذ فيه الظنّ أخذا بتحقّق الخشوع، فإنّ العلوم التدريجيّة الحصول من أسباب تدريجيّة تتدرّج فيها النفس من تنبّه و شك ثمّ ترجح أحد طرفي النقيض، ثمّ انعدام الإحتمالاث المخالفة شيئا فشيئا حتى
(1). الكافي (4): 63، الحديث: 7.
(2). تفسير العيّاشي 1: 43، الحديث: 39، الحديث: 41.
(3). جاء في تفسير العياشي 1: 43، الحديث: 41 هنا زيادة: و في تفسير الفرات: عن أبي صالح عن إبن عباس- رضي اللّه عنه- في قوله تعالى: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ.
(4). تفسير الفرات: 59، الحديث: 21؛ المناقب 2: 20، عن إبن عباس و أبي جعفر- عليه السلام-
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 137
يتمّ العلم الجازم، و هذا النوع من العلم إذا تعلّق بأمر هائل يوجب الإضطراب و القلق و الخشوع، إنّما تبتدئ الخشوع من حين شروع الإذعان في الترجّح قبل تمام العلم، ففي وصفهم بالظنّ إيماء إلى ذلك.
و في تفسير العيّاشي عن عليّ- عليه السلام- في الآية، يقول: «يوقنون أنّهم مبعوثون، و الظنّ منهم يقين». «1»
أقول: و رواه الصدوق- أيضا- عنه عليه السلام، «2» و معناه ما مرّ، فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً، «3» هذا لو كان المراد من لقائه سبحانه البعث، و لو كان المراد ما سيأتي تصويره في سورة الأعراف- من معنى آخر لهذه اللفظة هو المراد بالحقيقة من غير لزوم تجسّم و حدوث- فلا محذور أصلا.
و روى ابن شهر آشوب عن الباقر- عليه السلام- عن ابن عبّاس: «إنّ الآية نازلة في عليّ- عليه السلام- و عثمان بن مظعون و عمّار بن ياسر و أصحاب لهم». «4»
(1). تفسير العياشي 1: 44، الحديث: 42.
(2). التوحيد: 267، الحديث: 5.
(3). الكهف (18): 110.