کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج2، ص: 99
بروح القدس، كما ذكر لعيسى- عليه السلام-.
و منها: ما ليس كذلك و إنّما يدلّ عليها بالإضافة؛ فالتكليم ليس بنفسه منقبة حتّى يضاف إلى شيء يكتسب منه المنقبة، فيقال: «تكليم اللّه»، و كذا رفع الدرجات، حتّى يقال: «رفعه الدرجات»- كان- و هذا هو الوجه في الالتفات من التكلّم إلى الغيبة في اثنتين من الجمل الثلاث، حيث قال: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ فحوّل وجه الكلام إلى الغيبة في الجملتين الاوليين؛ حتّى إذا استوفى الغرض عاد إلى وجه الكلام الأوّل و هو التكلّم، فقال تعالى: وَ آتَيْنا عِيسَى .
و ذلك هو الوجه في إيراد عيسى باسمه دون الباقين؛ إذ إيتاء البيّنات و التأييد بروح القدس مشتركان بين الرسل جميعا، ليسا بمنقبة لأحد بعينه، قال تعالى:
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ «1» و قال: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا «2» لكنّهما في عيسى حيث كانا بنحو خاصّ- كإحياء الموتى، و إبراء الأكمه و الأبرص من البيّنات، و نفخ الروح- أضافهما إليه، فصرّح بالاسم فيه دون غيره.
على أنّ في اسمه خاصّة اخرى و آية بيّنة: و هو أنّه ابن مريم لا أب له، قال تعالى: وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ «3» فمجموع الامّ و الابن بيّنة تامّة اخرى، هذا.
ثمّ وقع الالتفات إلى الغيبة، فقال تعالى: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ
(1). الحديد (57): 25.
(2). النحل (16): 2.
(3). الأنبياء (21): 91.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج2، ص: 100
بَعْدِهِمْ و ذلك أنّ الالوهيّة تنافي تقيّد القدرة، فهي الموجبة لكون طرفي الإيجاب و السلب في كلّ شيء تحت إحاطة القدرة، فمسّت حاجة المقام إلى إظهاره للذكر، فقيل: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ و لم يقل: «و لو شئنا». و هذا هو الوجه في قوله في ذيل الآية: وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ . و هو الوجه أيضا في العدول من الإضمار إلى الإظهار في المواضع الثلاثة الأخيرة.
و كيف كان، فقد كان مقدورا أن يمنع عن اقتتالهم، لكنّ اختلافهم بحسب أنفسهم أوجب ذلك، و هو قوله تعالى: وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ .
ثمّ لمّا أمكن أن يتوهّم أنّه يوجب خروج الاقتتال عن حيطة القدرة- و إن كان داخلا فيها لولاه- ذكر ثانيا أنّ القدرة باقية على حالها، فقال: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا و عقم السبب- سبب الاقتتال- و ألغى الاقتضاء وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ و قد أراد أن يجري الامور بأسبابها، و إن كانت الأسباب و المسبّبات و الروابط التي بينها تحت قدرته و أمره عزّ شأنه.
و في الكافي عن الباقر- عليه السلام-: «في هذا ما يستدلّ به على أنّ أصحاب محمّد- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- قد اختلفوا من بعده؛ فمنهم من آمن و منهم من كفر». «1»
و في تفسير العيّاشي عن الأصبغ بن نباتة قال: «كنت واقفا مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب- عليه السلام- يوم الجمل، فجاء رجل حتّى وقف بين يديه، فقال: يا أمير المؤمنين! كبّر القوم و كبّرنا، و هلّل القوم و هلّلنا، و صلّى القوم
(1). الكافي 8: 270، الحديث: 398.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج2، ص: 101
و صلّينا، فعلام نقاتلهم؟
فقال- عليه السلام-: على هذه الآية: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ فنحن الذين من بعدهم، وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ فنحن الذين آمنّا، و هم الذين كفروا، فقال الرجل: كفر القوم و ربّ الكعبة، ثمّ حمل فقاتل حتّى قتل رحمه اللّه». «1»
أقول: و روى هذه القصّة المفيد في أماليه و الشيخ في أماليه و القمّي في تفسيره. «2»
قوله سبحانه: يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ
المراد به يوم الموت، و قد مرّ.
(1). تفسير العيّاشي 1: 136، الحديث: 448.
(2). الأمالي للمفيد: 101، الحديث: 3؛ الأمالي للطوسي: 197، الحديث: 337؛ تفسير القمّي 1: 83.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج2، ص: 102
[سورة البقرة (2): الآيات 255 الى 256]
قوله سبحانه: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ...
قد مرّ بعض الكلام في لفظ الجلالة؛ و أنّه سواء اشتقّ من «أله» بمعنى «تاه» أو من «أله» بمعنى «عبد» فلازم معناه: الذات المستجمع لجميع صفات الكمال، فالضمير يعود إليه بالمعنى، و ليس مثل الضمير في قوله: وَ هُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ . «1»
و أمّا اسم «الحيّ» فمعناه: ذو الحياة الثابتة، على وزان سائر الصفات
(1). القصص (28): 70.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج2، ص: 103
المشبّهة في دلالتها على الدوام و الثبات.
و الناس في بادئ مطالعتهم لحال الموجودات التي بين أيديهم، وجدوها على قسمين: قسم لا يختلف حالها عند الحسّ ما دام وجوداتها موجودة، كالأحجار و ما أشبهها، و قسم منها ربّما تغيّرت حالها و تعطّلت قواها و أفعالها مع بقاء وجودها الظاهر عند الحسّ، كالإنسان و سائر أصناف الحيوان، ربّما نجدها تعطّلت قواها و مشاعرها و أفعالها، ثمّ يطرأ عليها الفساد تدريجا.
و بذلك أذعن الإنسان أنّ هناك وراء الإحساس أمرا آخر، هو المبدأ للإحساسات و الإدراكات العلميّة و الأفعال، يسمّيه بالحياة، و يسمّى بطلانه بالموت.
و قد عدّ سبحانه هذه الحياة التي تحت إحساسنا شيئا هيّنا لا يعبأ به؛ فكرّر نحو قوله: وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ* «1» و قوله: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا «2» و المتاع: ما يقصد به الغير، و العرض: ما يعرض و يزول.
ثمّ شدّد الأمر أن عدّها سرابا و هميّا، و أمرا مجازيّا غير حقيقيّ، في مثل قوله: تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا «3» و الظاهر أنّ الإضافة بيانيّة، و الزينة: هي الجميل الذي يضمّ إلى الشيء و يغرّ به قاصده، فيقصد غير ما يقع و يقع غير ما يقصد.
و مثل قوله: وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ «4» و اللهو: ما يشغلك
(1). الآية بهذا اللفظ وردت في القرآن مرّتين مقرونة ب: «الغرور»، و سيشير لاحقا إلى ذلك اللفظ، و ورد وصف الحياة الدنيا بالمتاع أو إضافة المتاع إلى الحياة الدنيا في آيات عديدة لكن ليس بهذا اللفظ، مثل: إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ و مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا* انظر:
غافر (40): 39، و آل عمران (3): 14.
(2). النساء (4): 94.
(3). الكهف (18): 28.
(4). العنكبوت (29): 64.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج2، ص: 104
بنفسه عمّا يهمّك، و اللعب: هو العمل المرتّب لغاية خياليّة، و منه لعب الأطفال، و مثل قوله: وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ* «1» .
و مثل قوله: وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ* أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ «2» ففرض الكلام في اولي العقل، و هم أحياء بحسب ما يحكم به إحساساتنا، ثمّ نفى عنهم الحياة، فعلمنا بذلك أنّ حقيقة الحياة هي التي لا يطرأ عليها الموت.
و هو تعالى و إن عدّ الحياة الآخرة من الحياة الحقيقيّة، بقوله: وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «3» لكنّه سبحانه أفاد في آيات اخرى كثيرة أنّه هو المحيي فيها، المفيض لها، بيده زمامها، فأفاد ذلك أنّ القصر في الآية للقلب أو الإفراد، فالحياة الحقيقيّة هي التي لا يجوز طروّ الموت عليها، و لا يعقل إلّا بكون الحياة عين ذات الحيّ، غير عارضة لها و لا طارئة عليها بتمليك الغير و إفاضته، قال تعالى: وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ . «4»
و من هنا يظهر أنّ قوله تعالى: هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ «5» قصر حقيقيّ غير إضافيّ، و أنّ حقيقة الحياة- التي لا يشوبها موت، و لا يعتريها فناء و زوال- هي حياته تعالى فهو الحيّ بذاته و الحياة بذاته، و غيره حيّ به.
فالأوفق في الآية: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُ و في قوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
(1). آل عمران (3): 185؛ الحديد (57): 20.
(2). النحل (16): 20- 21.
(3). العنكبوت (29): 64.
(4). الفرقان (25): 58.
(5). غافر (40): 65.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج2، ص: 105
الْحَيُّ الْقَيُّومُ «1» أن يكون لفظ «الحيّ» خبرا بعد خبر، فيفيد الحصر، و قد عرفت أنّ معنى الحياة هو الوجود العلميّ؛ أي كون الموجود بحيث يشعر بذاته.
و أمّا اسم «القيّوم» فهو اسم يحكي عن قيامه سبحانه بأمر ما سواه من شيء، و إذ كان سبحانه هو المبدئ لكلّ شيء فهو القائم على كلّ ذات و وصف و فعل بحقيقة القيام التي لا يشوبها فتور.
ففي المقام حصران: حصر القيام عليه؛ على ما يفيده كون «القيّوم» خبرا بعد خبر، و حصره على القيام، فليس عنده إلّا القيام، و هذا هو الذي يفيده التقييد بقوله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ و قد ضمّن الأخذ معنى الغلبة على ما قيل؛ و لذلك قدّمت السّنة على النوم، و كان ظاهر مقتضى الحال العكس؛ بالتدرّج من النوم إلى السّنة؛ فإنّ عدم أخذ النوم أضعف بالنسبة إلى عدم أخذ السّنة، و هو ظاهر.
و هذا الاسم أمّ الأسماء الإضافيّة الثابتة له سبحانه كالخالق و الرازق و المحيي و المميت و الباعث و الوارث و غيرها، فكلّ واحد منها يحكي عن طور من أطوار القيمومة، و حيثيّة من حيثيّاتها.
و قوله سبحانه: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ...
هما جملتان كلّ واحدة منهما مقيّدة بقيد في معنى دفع الدّخل؛ قوله: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ قيّد بقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ