کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج2، ص: 255
و قد مرّ في ذيل قوله: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ «1» من سورة البقرة، و إن كان الظاهر من السياق أنّها أوّل بيت موضوع للعبادة، كما فيما رواه ابن شهر آشوب عن أمير المؤمنين- عليه السلام- في الآية، فقال له رجل:
أهو أوّل بيت؟ قال: «لا، قد كان قبله بيوت، و لكنّه أوّل بيت وضع للناس مباركا، فيه الهدى و الرحمة و البركة، و أوّل من بناه إبراهيم، ثمّ بناه قوم من العرب من جرهم، ثمّ هدم فبنته العمالقة، ثمّ هدم فبناه قريش». «2»
أقول: و في المعاني السابقة روايات اخر.
قوله سبحانه: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ
في الكافي و تفسير العيّاشي، عن الصادق- عليه السلام- أنّه سئل: ما هذه الآيات البيّنات؟ قال: «مقام إبراهيم؛ حيث قام على الحجر فأثّرت فيه قدماه، و الحجر الأسود، و منزل إسماعيل». «3»
أقول: و في هذا المعنى روايات اخر، و لعلّ ذكره الثلاثة من قبيل العدّ من غير حصر، فلا ينفي غيره، كقهره أصحاب الفيل، و دفعه كلّ جبّار يقصده بسوء، و لذا قيل: إنّما سمّيت بكّة؛ لأنّها تبكّ و تدقّ أعناق الجبابرة و الفراعنة إذا قصدوه بسوء. «4»
(1). البقرة (2): 127.
(2). المناقب 2: 43.
(3). الكافي 4: 223، الحديث: 1؛ تفسير العيّاشي 1: 187- 188، الحديث: 99.
(4). راجع: الكافي 4: 211؛ القاموس المحيط 3: 295؛ وسائل الشيعة 9: 350؛ تفسير ابن كثير 1: 337؛ معجم البلدان 1: 475؛ تاريخ الطبري 2: 37؛ النهاية في غريب الحديث 1: 148؛ المصنف، لعبد الرزاق الصنعاني 5: 150؛ الفائق في غريب الحديث 1: 112؛ التبيان 2:
535؛ مجمع البيان 2: 347؛ الصافي 1: 357؛ المفردات للراغب: 57.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج2، ص: 256
قوله سبحانه: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ
في الكافي، عن الصادق- عليه السلام-: «يعني به الحجّ و العمرة جميعا لأنّهما مفروضان». «1»
أقول: و رواه العيّاشي في تفسيره، «2» و قد فسّر عليه السلام الحجّ في الرواية بمعناه اللغوي، و هو القصد.
و في تفسير العيّاشي عن الصادق- عليه السلام-: « [و إن كان يقدر أن يمشي بعضا و يركب بعضا فليفعل] وَ مَنْ كَفَرَ قال: ترك». «3»
أقول: و رواه الشيخ في التهذيب، «4» و قد عرفت أنّ الكفر كالإيمان ذو مراتب.
و في الكافي عن عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى، في حديث، قال:
قلت: فمن لم يحجّ منّا فقد كفر؟ فقال: «لا، و لكن من قال: ليس هذا هكذا، فقد كفر». «5»
أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة. «6» و على أيّ حال فإطلاق الكفر على العصيان يفيد الإهتمام التامّ بهذه الفريضة العظيمة.
و في الآية جهات تدلّ على هذا الإهتمام، كالبيان بالجملة الإسميّة و الخبريّة
(1). الكافي 4: 264- 265، الحديث: 1.
(2). تفسير العيّاشي 1: 191، الحديث: 110.
(3). تفسير العيّاشي 1: 192، الحديث: 112.
(4). تهذيب الأحكام 5: 18، الحديث: 4.
(5). الكافي 4: 265- 266، الحديث: 5.
(6). من لا يحضره الفقيه 4: 368، الحديث: 5762؛ تفسير العيّاشي 1: 190، الحديث: 108؛ دعائم الاسلام 1: 288؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8: 113؛ مستدرك الوسائل 8: 12، الحديث: 8933، و 18، الحديث: 8956؛ ثواب الأعمال: 236، باب: عقاب من ترك الحّج.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج2، ص: 257
الدالّتين على الثبوت، و تقديم لفظ الجلالة، و تلوه بالناس، و الإتيان ب (اللام و على)، و التعميم ثمّ التخصيص، و تسمية الترك كفرا، و ذكر غنى اللّه و كونه عن جميع العالمين الدالّ على المقت.
*
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج2، ص: 258
[سورة آلعمران (3): الآيات 98 الى 101]
قوله سبحانه: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ
قيل «1» : أتت اليهود الأوس و الخزرج فذكّروهم ما كان بينهم من العداواة و الحروب ليعودوا لمثله، و ذلك أنّ شاش بن قيس اليهودي مرّ بالأنصار و قد اجتمعوا يتحدّثون فغاظه ذلك، فدسّ شابّا من اليهود إليهم يذكّرهم يوم بعاث- و كان يوما للأوس على الخزرج- و ينشدهم ما قيل فيه من الشعر، ففعل،
(1). المنار 4: ذيل الآية؛ و مثله في أسباب نزول الآيات، للواحدي النيسابوري: 76؛ الدر المنثور 2: 57؛ فتح القدير 1: 368؛ أسد الغابة 1: 149؛ سيرة النبي- صلّى اللّه عليه و آله-، لابن هشام 2: 397؛ عيون الأثر 1: 284؛ سبيل الهدى و الرشاد 3: 398.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج2، ص: 259
فتنازع القوم و تفاخروا حتّى دعوا بالسلاح. فبلغ النبيّ فخرج إليهم فقال:
«أتدعون الجاهليّة بين أظهركم بعد إذ أكرمكم اللّه بالإسلام، و قطع به عنكم أمر الجاهليّة و ألّف بينكم»، فعرف القوم أنّها نزغة من الشيطان و كيد من عدوّهم، فألقوا السلاح و بكوا و تعانقوا و انصرفوا معه- صلّى اللّه عليه و آله-.
قوله سبحانه: وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
إذا أخذت بحبل أو ربط فمنعك عن السقوط أو ما يشبهه فقد عصمك، فأصل العصمة هو المنع الخاصّ، و إن ذكر في التاج أنّ: المنع هو الأصل في معناه، «1» و نقل عن بعض أهل اللغة أنّ أصله الربط.
و كيف كان، ففي معنى الاعتصام امتناع و أخذ، فالمعتصم باللّه كأنّه ممتنع عمّا لا يرتضيه اللّه سبحانه بالأخذ به تعالى.
و من هنا يظهر أنّ الآية التالية و هي قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «2» كالتفسير و البيان للإعتصام باللّه.
و من هنا يظهر أيضا أنّ الإعتصام باللّه كالإيمان و سائر المقامات الدينيّة، أمر ذو مراتب و مبادئ مراتبه اكتسابيّة، و ينتهي إلى أن يكون العاصم للعبد من الذنب و المعصية هو اللّه عزّ اسمه من غير توسّط شيء من القوى المتعلّقة بالنفس؛ إذ ما دام للفعل تعلّق بشيء من القوى النفسانيّة البدنيّة من حيث ترجيح الفعل و الترك، فالطرفان متساويان من غير تحقّق وجوب لأحد الطرفين و امتناع للآخر، فليس امتناع المعصية إلّا أنّه سبحانه هو المدبّر لحال الإنسان
(1). تاج العروس 8: 399.
(2). آل عمران (3): 102.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج2، ص: 260
المعصوم، قال تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ ، «1» و سيجيء زيادة شرح للآية في سورة الأنبياء.
و في المعاني عن حسين الأشقر، قال: قلت لهشام بن الحكم: ما معنى قولكم: إنّ الإمام لا يكون إلّا معصوما؟ قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السلام- عن ذلك فقال: «المعصوم: هو الممتنع باللّه من جميع محارم اللّه، و قد قال اللّه تبارك و تعالى: وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ . «2»
أقول: معنى قوله عليه السلام: «الممتنع باللّه» أن يكون اللّه سبحانه هو المانع له عنها من غير توسيط القوى الجسمانيّة، و تمسّكه بالآية لإطلاقها كما مرّ، و سيجيء حديث آخر عن السجّاد- عليه السلام- في العصمة و الإعتصام.
و ممّا مرّ يظهر أيضا الوجه في تنكير قوله: صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، فأنت بعد الإحاطة بما مرّ عند قوله سبحانه: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ من سورة الفاتحة، من معنى الهداية و معنى الصراط المستقيم، تعرف الوجه في ذلك فارجع.
(1). الأنبياء (21): 73.
(2). معاني الأخبار: 132: الحديث: 2.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج2، ص: 261
[سورة آلعمران (3): الآيات 102 الى 110]