کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج2، ص: 284
أقول: و روي مثله عن ابن سنان، عن أبيه، عنه عليه السلام، «1» و ربما قضى نحو اختلاف الروايتين بأنّ مراده- عليه السلام-: التنزيل، أعني: المراد دون القراءة اللفظيّة.
قوله سبحانه: وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
لفظ «عند» يفيد الحضور، و قرب مظروفه ممّا اضيف إليه، و ما عدا ذلك من الخصوصيّات المكانيّة و الزمانيّة و غير ذلك خصوصيّات طارئة بحسب اختلاف المصاديق، كقولنا: فلان عند الأمير، و قولنا: سيعطيك عند مجيئه، و قول العالم:
عندي أنّ المسألة الفلانيّة كذلك، إلى غير ذلك. و يجمع الجميع معنى الحضور.
و إذ كان اللّه سبحانه يفيض عنه الوجود و هو خالق كلّ شيء، فلا يعقل أن يحتجب عنه شيء، أو أن يحتجب هو عن شيء إلّا بالغفلة مع انحفاظ أصل الحضور، فلازم الأوّل أن يكون كلّ شيء عنده، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ ، «2» و لازم الثاني حضوره عند كلّ شيء، كما قال: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ، «3» و بدّل «عند» ب: «مع» بلحاظ المضاف إليه و ظهور جسمانيّته.
نعم، اعتبار معنى الغفلة ينفي العنديّة الثانية و هو المصحّح لصدق «عند» في غيره تعالى من غير أن يصدق عليه عنديّته، و يجري عليه حكمه، كما قال تعالى: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ «4» مع أنّ كلّ ما عندنا فهو عنده سبحانه.
(1). تفسير العيّاشي 1: 196، الحديث: 134.
(2). آل عمران (3): 5.
(3). الحديد (57): 4.
(4). النحل (16): 96.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج2، ص: 285
و يمتاز العنديّة المنسوبة إليه تعالى عن العنديّة المنسوبة إلى غيره بالأحكام، و إن كانت الحقيقة تدور مدار ما ذكرناه أوّلا، قال سبحانه: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، «1» و قال: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، «2» و قال: فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ ، «3» و قال: وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ . «4» و قال تعالى:
مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ ، «5» و قال: فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ ، «6» و قال: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ ، «7» إلى غير ذلك.
و على هذا- أعني الإمتياز بالحكم- يؤول الأمر إلى اعتبار الإستقلال الظاهري في الأسباب و الفقر الذاتي فيها المستند إلى الغنى الذاتي عنده تعالى، فكلّ حكم يرجع عند التحليل إلى الأعدام و النقائص، فهو عند غيره تعالى، و ما يرجع إلى الكمال و البهاء فهو عنده تعالى بالذات، و عند غيره بالعرض فيما يصحّ فيه اعتبارهما معا، فافهم ذلك.
و ممّا بالذات: قوله تعالى: وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ، و منهما معا: قوله: وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ . «8»
و ظاهر أنّ ما بالعرض من المعنى يصحّ فيه الإيجاب و السلب معا باعتبارين،
(1). آل عمران (3): 169.
(2). الزمر (39): 34.
(3). فصّلت (41): 38.
(4). ق (50): 4.
(5). البقرة (2): 140.
(6). النساء (4): 81.
(7). الأنعام (6): 148.
(8). التحريم (66): 4.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج2، ص: 286
و بذلك يتمّ الحصر الذي هو في معناهما.
قوله سبحانه: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ
إذ كان كلّ شيء له سبحانه بحقيقة الملك، فلا يملك غيره تعالى، من نبيّ أو غيره شيئا بحسب الذات إلّا ما ملّكه إيّاه، و قد قال: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ، «1» و قال:
أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ «2» فلا ينافي ذلك ما جعله سبحانه للنبيّ- صلّى اللّه عليه و آله- أو لبعض عباده من الأمر. «3»
(1). آل عمران (3): 154.
(2). الأعراف (7): 54.
(3). و في الاختصاص المفيد عن الباقر- عليه السلام- في قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ قال: إنّ رسول اللّه حرص أن يكون عليّ وليّ الامر من بعده فذاك الذي عني اللّه: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ و كيف لا يكون له من الأمر شيىء و قد فوّض اللّه اليه، فقال: ما أحلّ النبيّ فهو حلال و ما حرّم النبيّ فهو حرام، الحديث. [الاختصاص: 322] و هو مبني على تفسير «لك من الأمر» بما بالذات و ما بالغير، على أنّ الرواية ضعيفة السند بابن سنان و غيره. و عن طرق العامة: أن عتبة بن أبي وقّاص شجّه صلى اللّه عليه و آله يوم أحد و كسر رباعيّته فجعل يمسح الدم عن وجهه و هو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم بالدم فنزلت، و أعلمه أنّ كثيرا منهم ليؤمنون، [منه- رحمه اللّه-].
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج2، ص: 287
[سورة آلعمران (3): الآيات 130 الى 138]
قوله سبحانه: وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
في المجمع، عن أمير المؤمنين- عليه السلام-: «إلى أداء الفرائض». «1»
(1). مجمع البيان 2: 390؛ تفسير الصافي 2: 116.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج2، ص: 288
أقول: وجه ذلك أنّه تعالى إنّما فرّع المغفرة في كلامه على أداء الفرائض، بخلاف دخول الجنّة، فتتبّع.
قوله سبحانه: وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ
في المجمع عن النبيّ- صلّى اللّه عليه و آله- أنّه سئل: إذا كانت الجنّة عرضها السماوات و الأرض، «1» فأين تكون النار؟ [فجوابه: أنه روي أنّ النبي- صلّى اللّه عليه و آله- سئل عن ذلك،] فقال- صلّى اللّه عليه و آله-: «سبحان اللّه، إذا جاء النهار فأين الليل»؟ «2»
أقول: الليل: هو الظلمة الحاصلة في الأرض- مثلا- من فقدان مسامتة الشمس و هو ظلّ مخروطيّ قاعدته أقلّ من سطح نصف كرة الأرض على ما بيّن في المناظر، و يدور على الأرض دائما بحسب الحسّ، و إن كان بحسب الحقيقة عدما للضوء الشمسي، و النسبة بينهما نسبة العدم و الملكة.
و قوله: «إذا جاء النهار فأين الليل؟» لا ينفي ذلك، كيف! و القرآن يثبته، و ضرورة الحسّ تشهد به، و إنّما مصبّ كلامه- صلّى اللّه عليه و آله- و وجهه عدم المزاحمة بينهما مع الإستيعاب كما سيتّضح، و الشبهة و إن لم يكن لها وقع بحسب الاصول البرهانيّة، لكنّ الذي يمسّ المقام حلّها بحسب ما يستفاد من كلامه تعالى على ما يلائم الغرض من الكتاب.
بيان ذلك أنّ المبعوث المحشور في الآخرة و إن كان هو الإنسان نفسه الذي في الدنيا، لكنّ الذي يعطيه كلامه تعالى أنّ النشأتين مختلفتان بحسب النظام
(1). في المصدر: «كعرض السماء و الأرض»
(2). مجمع البيان 2: 391؛ تفسير الصافي 2: 116.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج2، ص: 289
فيختلفان بالضرورة بحسب السنخ و الأحكام، فالأرض لها نظام مادّي و مبادئ أحكامها الجسمانيّات على ما أودع اللّه فيها من الأحكام، و الحياة الدنيا و هي حياة الإنسان في الأرض ذو نظام مادّي يربطه بالإنسان الإرادة و المشيّة.
و أمّا الحياة الآخرة فنظامها نظام المشيّة، قال سبحانه: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ ، «1» و قال: وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ ، «2» هذا في السعداء.
و قال سبحانه و تعالى: وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ، «3» و قال: أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي ، «4» إلى غير ذلك.
فالنشأة الاخرى يدور نظامها مدار الإرادة و المشيّة و حصول الإنسان على ما يشاؤه أو لا يشاؤه، و الفارق بين السعادة و الشقاء هناك أنّ للسعيد ما يشاؤه و للشقيّ ما يكرهه و لا يشاؤه، و لذلك لم يكن هناك تزاحم لا في حياة السعيد و سعادته، و لا بين حياته و حياة الشقيّ؛ إذ النسبة بينهما كنسبة العدم و الملكة، كما قال سبحانه: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ ، «5» فالنسبة بينهما نسبة الليل و النهار، فلا تزاحم هناك فيما فيه التزاحم هاهنا في نظام السعادة و نظام الشقاء بعكسه.
و من هنا يظهر معنى ما عن ابن شهر آشوب في المناقب، قال: في تفسير يوسف القطّان، عن وكيع، عن الثوري، عن السدّي قال: كنت عند عمر بن
(1). النحل (16): 31.
(2). الزخرف (43): 71.
(3). الزخرف (43): 75.
(4). العنكبوت (29): 23.
(5). الحديد (57): 13.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج2، ص: 290
الخطّاب، إذ أقبل عليه كعب بن الأشرف و مالك بن الصيف «1» و حيّ بن أخطب، فقال: إنّ في كتابكم جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ، إذا كانت سعة جنّة واحدة كسبع سماوات و سبع أرضين، فالجنان كلّها يوم القيامة أين تكون؟ فقال عمر: لا أدري «2» فبينما هم في ذلك إذ دخل عليّ- عليه السلام- فقال: «في أيّ شيء أنتم»؟ فألقى «3» اليهوديّ المسألة عليه، «4» فقال لهم: خبّروني: أنّ النهار إذا أقبل الليل أين يكون؟ [و الليل إذا أقبل النهار أين يكون؟] فقالوا له: في علم اللّه تعالى [يكون]، فقال عليّ- عليه السلام-: «كذلك الجنان تكون في علم اللّه تعالى»، فجاء عليّ إلى النبيّ- صلّى اللّه عليه و آله- و أخبره بذلك، فنزل:
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ . «5» «6»
أقول: معنى إحالتهم الأمر إلى علم اللّه دعوى عدم الدليل على انحصار و عاء الموجودات فيما يناله الحسّ من الوعاء و لا أحكامها فيما ندركه من الأحكام حتّى يقع التزاحم و التدافع، فإحالته- عليه السلام- عدم تزاحم الجنان من حيث الوعاء مرجعه إلى ذلك، و يرجع بالآخرة إلى ما قدّمناه، كما لا يخفى.
قوله سبحانه: وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً
في المجالس عن عبد الرحمن بن غنم الدوسي: أنّ الآيات نزلت في بهلول
(1). في المصدر: «الصيفي»
(2). في المصدر: «لا أعلم»
(3). في المصدر: «فألتفت»
(4). في المصدر: «و ذكر المسألة»
(5). النحل (16): 43.