کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج3، ص: 271
الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ «1» .
فأفاد أنّ هذا النفاق سيشيع بين المؤمنين و ذلك بتولّيهم اليهود و النصارى من جهة النصارى و ناحيتهم خاصّة.
أمّا اليهود فمغلولة الأيدي، قال تعالى: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا «2» ، فيستذلّ المؤمن بإيمانه و يعظّم الكافر بكفره، و يدع العلماء البيان و التعليم بالمداهنة و الخوف عن لومة اللائم فيصير المعروف منكرا و المنكر معروفا، فيواد عهم الدين و يرحل عنهم فضل اللّه، و يطلّ عليهم سخطه فخسروا في الدنيا و ضلّ سعي الساعي منهم في الآخرة، وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً «3» .
و قد بيّن لهم قبل عدّة آيات: أنّه أكمل دينهم بالرسالة و أتمّ النعمة عليهم و أنّهم في أمن من الكفّار بعد ذلك، و ليخشوا اللّه فحسب أن يمقتهم بسببهم أنفسهم و سيجيء لهذا الكلام بقايا فيما نتعرض بملاحم القرآن في آخر الزمان إن شاء اللّه.
قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ في المجمع قيل: هم أمير المؤمنين- عليه السلام- و أصحابه حين قاتل من قاتله من الناكثين و القاسطين و المارقين، قال: و روي ذلك عن عمّار و حذيفة و ابن عباس، ثم قال: و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه- عليهما السلام «4» -،
(1). آية 54 من السورة، سيأتي الكلام فيها.
(2). المائدة (5): 64.
(3). النور (24): 21.
(4). مجمع البيان 3: 258.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج3، ص: 272
قال: و روي ذلك عن عليّ- عليه السلام- أنّه قال يوم البصرة: «و اللّه ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم و تلا هذه الآية» «1» .
أقول: و أيّده بقول النبيّ- صلّى اللّه عليه و آله- يوم خيبر في علي- عليه السلام-: «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله، كرّار غير فرّار، لا يرجع حتّى يفتح اللّه على يديه» «2» . و الحديث مما اتفق على روايته الفريقان.
و عن تفسير الثعلبي في الآية: أنّها نزلت في علي- عليه السلام- «3» .
و عن النبيّ- صلّى اللّه عليه و آله- في الحديث المتّفق عليه أيضا: يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلّون «4» عليّ الحوض، فأقول: يا ربّ! أصحابي أصحابي «5» ، فيقال لي: لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقري» «6» .
و هو يؤيّد ما رواه القمّي في تفسيره: أنّ الآية مخاطبة لأصحاب النبيّ الذين يعادون آله «7» .
(1). مجمع البيان 3: 259؛ البرهان في تفسير القرآن 3: 417.
(2). الإحتجاج 1: 406؛ الجمل: 219؛ المستجاد من الإرشاد: 74؛ التبيان 3: 556.
(3). العمدة لابن بطريق: 158 عن تفسير الثعلبي.
(4). في بعض نسخ البخاري: «فيحلّؤن» و في بعضها الآخر: «فيجلون»، ثم حكى البخارى عن شعيب، عن الزهري: كان أبو هريرة يحدّث عن النبى- صلى اللّه عليه و آله-: «فيجلون» و قال عقيل: «فيحلّؤن».
(5). في الأصل و في بعض المصادر: «أصيحابي، أصيحابي»
(6). الإيضاح: 233؛ العمدة: 289؛ صحيح البخاري 8: 150؛ فتح الباري 11: 464؛ كنز العمال 14: 417؛ تفسير نور الثقلين 1: 641؛ تفسير القرطبي 4: 168.
(7). تفسير القمّي 1: 170، في المصدر: «غصبوا آل محمد حقّهم و ارتّدوا عن دين اللّه».
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج3، ص: 273
و في تفسير النعماني عن سليمان بن هارون العجلي، قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السلام- يقول: «إنّ صاحب هذا الأمر محفوظ له، لو ذهب الناس جميعا أتى اللّه بأصحابه و هم الذين قال اللّه عزّ و جلّ: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ «1» و هم الذين قال اللّه: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «2» .
أقول: و روى هذا المعنى العيّاشي في تفسيره «3» .
(1). الأنعام (6): 89.
(2). لم أجده في رسالة المحكم و المتشابه، المعروف بتفسير النعماني، و لكنّه موجود في كتاب الغيبة للنعماني: 316.
(3). تفسير العيّاشي 1: 326، الحديث: 135؛ البرهان في تفسير القرآن 3: 55؛ المحجّة فيما نزل في الحجّة: 64؛ بحار الأنوار 52: 370؛ منتخب الأثر: 475؛ ينابيع المودة 3: 237.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج3، ص: 274
[ [سورة المائدة (5): الآيات 56 الى 55]
] قوله سبحانه: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ
الأخبار متكاثرة بين العامّة و الخاصّة في نزول الآية في حق علي- عليه السلام-.
أقول: الأمور الكثيرة المتعددّة ربّما لم يكن لمجموعها إلّا أثر كلّ واحد واحد كالمجموع من زيد و حجر و قطن مثلا، و ربّما كان للمجموع أثر دون الآحاد، إمّا كيف ما اتّفق و إمّا في حال دون حال كالقياس المستتبع للنتيجة، و كبدن الإنسان المؤلّف تأليفا خاصّا يركبه الروح فيؤثّر أثره، و هذا المجمع المستتبع للأثر هو الذي يسمى بالترتيب و التدبير مأخوذان من الرتبة و الدبر، أي إعطاء كلّ رتبته و اتيان كل بعد ما بعده، و نسبة التدبير إلى الآمر المدبّر نسبة الروح إلى الجسد، فبينهما اتحاد و اختلاف، و مالك الأمور المحتاجة في إنتاجها إلى التدبير ربّما ملك نفسها و تدبيرها معا، و ربّما ملك نفسها دون تدبيرها كالمعتوه و الصغير
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج3، ص: 275
و لهما مال، فالإستمتاع منه بالأكل و الشرب مثلا لهما، لكن تدبير المال لغيرهما كالوالد و ذلك لوجود جهاز التغذّي فيهما دون العقل و التميز.
و هذا المعنى أعني ملك التدبير هو المسمّى ب: الولاية كما أنّ المعنى الأوّل يسمّى ب: الربوبيّة، و هذا هو الأصل في معنى الولاية و الجامع بين جميع موارد استعمالاتها، فوليّ الصغير: من بيده تدبير أمره، و وليّ المجنون: من يلي أمره، و الملك وليّ الرعية؛ لأنّه يلي أمورهم العامّة، و الوالي يلي العامّ من أمر الناس، و وليّ العهد يلي أمر العهد الذي عهد إليه في الملك و السلطنة، و الصديق و الخليل وليّ صديقه و خليله؛ لأنّه له أن يلي أمره بسبب الصداقة و الخلة، وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ «1» ، لأنّ المؤمن له و عليه أن يتخذ أخاه المؤمن كذلك، و ينزّله منزلة نفسه، و يسلب عن نفسه الإختيار إتجاه إرادته، و الثاني يلي الأوّل، أي يلي أمره في الرتبة التي بعده.
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها «2» ، أي نأمرك أن تلي جهة الكعبة، و يولّون الأدبار:
أي يجعلون أدبارهم هي التي تلي جهة الحرب، كأنّ جهتي المعركة أمران يحتاجان إلى التدبير و يتكفلهما العسكران تدبيرا إلى غير ذلك، و كذلك المولى بجميع المعاني التي عدّت له.
فالولاية هي ملك التدبير، و الوليّ من اختزن عنده معنى الولاية على ما يتحمّله صيغة فعيل.
قال تعالى: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ «3» و قال: أَلا إِنَ
(1). التوبة (9): 71.
(2). البقرة (2): 144.
(3). فصلت (41): 31.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج3، ص: 276
أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ «1» ، فالولاية ملك التدبير و الوليّ مالكه.
أقول: ثم إنّ معناها حيث يرجع إلى الملك كان لها من المراتب ما للملك على ما مرّ في سورة آل عمران عند قوله: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ «2» ، فإذ ليس شيء من الأشياء يملك من ذاته و آثار ذاته شيئا إلّا باللّه سبحانه، فله سبحانه كلّ شيء أوّلا، و هو الملك له و لها مآلها ثانيا، و بقدر ما قدّر لها و ملّكها و هو خلقها و وجودها و تمليكه إياها.
ثمّ إنّ له سبحانه تدبير الأمور التي ملّكها إيّاها أوّلا إذ لا يقدر شيء على شيء، و هو الولاية للّه الحقّ، و لها من التدبير و الولاية في أمورها بقدر ما وهبه لها ثانيا.
فهذه أربعة معان مترتّبة يشير إلى أولها قوله سبحانه: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ «3» ، و إلى الثاني قوله: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ «4» ، و إلى الثالث قوله:
فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُ «5» ، و إلى الرابع قوله: وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «6» ، و إلى الوسطين قوله: كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى «7» .
و تشتمل على الأربعة جميعا قوله: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ «8» ، و قد مرّ في آية الكرسي.
(1). يونس (10): 62.
(2). آل عمران (3): 26.
(3). آل عمران (3): 26.
(4). آل عمران (3): 26.
(5). الشورى (42): 9.
(6). الإنسان (76): 30.
(7). طه (20): 50.
(8). البقرة (2): 255.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج3، ص: 277
فإنّ الشفيع إنّما يريد بشفاعته أن يتمّ للعاصي أو المحتاج أمرا ما كان يناله وحده، و يدبّر له ما لا يقوى على تدبيره بالاستدعاء من غير إيجاب فهي ولاية ادّعائية يوجدها الشفيع بالقرب و المنزلة فافهم ذلك.
و بالجملة، فله سبحانه الولاية المطلقة على كلّ شيء لملكه لذوات الأشياء و لتدبيرها، قال سبحانه: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُ «1» ، و قال:
الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى «2» ، فهداية كلّ شيء إلى ما أعطى من الخلقة هو الولاية، و قال سبحانه: وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى «3» و قال: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ «4» و قال: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ «5» .
فهذه حقيقة الولاية و هي للّه وحده- عزّ اسمه- تنبعث من الملك الحقيقي، و تلحق بها الولاية الموهوبة بحسب الملك الموهوب للأسباب المتوسّطة بحسب ما ذهب لها من السببيّة و هذه هي التي يسميّها بالشفاعة قال سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ و قال: لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ «6» .
و بالجملة، فهي حيثيّة حقيقيّة غير متغيّرة و لم تنسب إلى المليكة ولاية غير ما في قوله: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ «7» ، و قوله: نَحْنُ
(1). الشورى (42): 9.
(2). طه (20): 50.
(3). الأعلى (87): 3.
(4). السجدة (32): 4.
(5). يونس (10): 3.
(6). النجم (53): 26.