کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 17
سورة الأنعام
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 19
[سورة الأنعام (6): الآيات 3 الى 1]
السور المفتتحة بحمد اللّه تبارك و تعالى- و هي: فاتحة الكتاب، و الأنعام، و الكهف، و سبأ، و الملائكة «1» ، كما يعطيه التدبر- تشترك جميعا ببيان صور من صور الموجودات الجميلة المحمودة، فيرجع حمده إلى اللّه تبارك و تعالى، و هو المحمود بكلّ حمد.
و سورة الأنعام تختصّ من بينها أنّها تبيّن بدء عالم الوجود على كثرتها من
(1). اي: سورة فاطر.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 20
مبدأ واحد و رجوعها إلى واحد هو اللّه عزّ اسمه، فالغرض منها بيان التوحيد، و لذلك أعطت حقيقة الإيجاد و حقيقة الحياة الدنيا و الموت و القيامة و حقيقة الهداية و الإضلال بأقسامها و لذلك افتتحت بالتوحيد و اختتمت به أيضا، كقوله سبحانه: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «1» ، و قوله: قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ «2» ، و قوله: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ «3» .
و قد ورد في عدّة روايات عن الخاصة و العامّة نزولها جملة واحدة، و هو يؤيد ما ذكرناه.
ففي الكافي: عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، قال: «قال أبو عبد اللّه- عليه السلام-: إنّ سورة الأنعام نزلت جملة، شيّعها سبعون ألف ملك، حتى انزلت على محمّد فعظّموها و بجّلوها، فإنّ اسم اللّه عزّ و جلّ فيها في سبعين موضعا، و لو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها» «4» .
أقول: رواها العيّاشي: عن أبي بصير، عنه- عليه السلام- بتفاوت يسير في اللفظ «5» .
و في تفسير القمّي: عن الرضا- عليه السلام- قال: «نزلت سورة الأنعام جملة واحدة، شيّعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتسبيح و التهليل و التكبير، فمن قرأها استغفروا «6» له إلى يوم القيامة» «7» .
(1). الأنعام (6): 161.
(2). الأنعام (6): 164.
(3). الأنعام (6): 165.
(4). الكافي 2: 622، الحديث: 12.
(5). تفسير العياشي 1: 353، الحديث: 1 و 3.
(6). في المصدر: «سبحوا»
(7). تفسير القمي: 1: 193؛ مجمع البيان 4: 5.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 21
و في جوامع الجوامع: قال: و في حديث أبيّ: «أنزلت عليّ الأنعام جملة واحدة، يشيّعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح و التحميد، فمن قرأها صلّى [عليه اولئك] السبعون ألف ملك بعدد كلّ آية في الأنعام يوما و ليلة» «1» .
قوله سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ
كان الأنسب بحسب مقام الكلام أن يبدأ بالتكلّم مع الغير، كما سيعود إليه في قوله: أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ «2» ، لكن حيث كان الكلام سيعود إلى مخاطبة الكافرين المعرضين عن توحيد اللّه سبحانه و الإسلام له، اجتنب عن تعريف التكلّم معهم بالمشافهة، فخاطبهم مخاطبة من لا يريد أن يعرف مقامهم، حفظا عن التهتّك و الإزراء و لذا ذكر عند العدول عن مخاطبتهم و الإعراض عنهم، فقال: وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ «3» ، و لم يقل: و ما نكلّمهم إلّا و هم معرضون. فألبس نفسه لباس الغيبة، و خاطب النبيّ- صلّى اللّه عليه و آله- فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ فنسب إليه سبحانه ما عليه مدار هذا العالم في نظامه من السموات و الأرض و الظلمات و النور، و لم يضلّ ضال في التوحيد كالدهرية و الطبيعية و الوثنية و المشركين و أهل التثنية إلّا فيها و الكل للّه، ثمّ ذكر أنّ الكفار مع ذلك يعدلون عن اللّه سبحانه إلى غيره، و قولنا: مع ذلك مفاد قوله: ثُمَ إذ قال: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ؛ و إذ كان عدو لهم بعد ذلك الوضوح من البيان مستعجبا
(1). جوامع الجامع 1: 550.
(2). الآية (6) من السورة.
(3). الآية (4) من السورة.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 22
مستغربا، عدل عن مخاطبة الرسول إلى مخاطبتهم أنفسهم لعلّهم يتنبّهوا و يستيقظوا عن نومة الغفلة، فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ، فأنتم ترون أنّكم لستم موجودين من تلقاء أنفسكم، بل موجودون من الغير مخلوقون له، و ليس مجرد الإيجاد كيفما دام، بل وجودكم وجود مؤجّل مقدّر، فهذا الوجود المؤجل المقدّر المحدود هذا، لمفاض من عنده، فكما أنّ أصل وجودكم مقصود بالإفاضة فكذا أجله و قدره و حدّه، و ليس الأجل الحقيقي المعيّن عندكم فهو عند غيركم، فوجودكم من عنده أوله و آخره و جميع جهاته.
ثم إنّكم مع ذلك تمترون في توحيده، و ليس كلّ هذا الإيجاد و التدبير منه سبحانه أمرا اضطراريّا من غير علم و تدبير، حتى يكون إيمانكم و كفركم به على السواء، بل هو اللّه في السموات و في الأرض، و في تكرار «في» تفصيل الكلام يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ ، لأنّه اللّه- عزّ اسمه-.
و لمّا بلغ الكلام هذا المبلغ و استشعر إعراضهم، أعرض عنهم و عدل ثانيا عن خطابهم إلى خطاب رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله- و عن غيبة نفسه- و هو على كلّ شيء شهيد- إلى التكلّم بالغير، فقال: وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ «1» .
ثمّ ذكر أنّ ذلك لتكذيب منهم سابق، و أنّه سيأتيهم أنباء ذلك. فقال: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ ، فهو وبال ما هو معهم من قبل فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ «2» و هي ما سيشاهدونه من وبال كفرهم.
فهذا ما افتتحت به السورة، و لا يزال يحوم إلى آخر السورة حول هذا البيان
(1). الآية (4) من السورة.