کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 24
أن يخلق النار، و خلق الطاعة قبل أن يخلق المعصية»، [و خلق الرحمة قبل الغضب] و خلق الخير قبل الشر، و خلق الأرض قبل السماء، و خلق الحياة قبل الموت، و خلق الشمس قبل القمر، و خلق النور قبل الظلمة» «1» .
أقول: «2»
قوله سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا
فيه إشارة إلى أنّ الحدوث و البقاء كلاهما مستندان إليه سبحانه، و في تنكير طِينٍ و أَجَلٌ إشارة إلى تحقير أمرهما في جنب عظمة قدرته و نفوذ مشيئته، فيفيد فخامة القدرة و مضيّ الإرادة.
و قوله سبحانه: وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ
و الأجل المسمّى هو المعين بالتسمية و التحديد كقوله: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى «3» ، و فيه دلالة على أنّ الأجل أجلان: أجل غير مسمّى و لا محدود، و أجل مسمّى لا يقبل التغيّر و التبدّل، و الدليل على ذلك قوله: عِنْدَهُ ، و قد قال سبحانه: وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ «4» ، فهو من كلمات اللّه المكتوبة في أمّ الكتاب، و من هنا يظهر معنى الأجل المسمّى، و أنّه أمر خارج عن موجودات هذه النشأة الدنيوية الفانية البائدة، غير قابل للفناء و التبديل.
و في تفسير العيّاشي: عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه- عليه السلام-
(1). الكافي 8: 145، الحديث: 116.
(2). بياض في النسخة.
(3). البقرة (2): 282.
(4). النحل (16): 96.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 25
في قوله: ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ قال: الأجل الذي غير مسمّى موقوف، يقدّم منه ما شاء و يؤخّر منه ما شاء، [قال:] و أمّا الأجل المسمّى فهو الذي ينزّل مما يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها من قابل، قال: و ذلك قول اللّه: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ «1» «2» .
أقول: و روى هذا المعنى بطريقين عن حمران «3» .
و فيه أيضا: عن حصين، عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- في قوله: قَضى أَجَلًا وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ قال: «الأجل الأول هو ما نبذه الى الملائكة و الرسل و الأنبياء، و الأجل المسمّى عنده هو الذي ستره اللّه عن الخلائق» «4» .
أقول: و رجوعه إلى جواز وقوع البداء و عدم جوازه، و سيجيء الكلام في البداء في آخر سورة الرعد إن شاء اللّه تعالى.
و في الكافي: عن حمران، عن أبي جعفر- عليه السلام- في الآية قال: «هما أجلان: أجل محتوم و أجل موقوف» «5» .
أقول: و في هذا المعنى بعض روايات أخر و مرجعه إلى معنى الروايات السابقة «6» .
و في تفسير القمّي: عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- قال: «الأجل المقضي هو المحتوم الذي قضاه [اللّه و حتمه] و المسمّى هو الذي فيه البداء، يقدّم
(1). الأعراف (7): 34.
(2). تفسير العياشي 1: 354، الحديث: 5.
(3). تفسير العياشي 1: 354، الحديث: 6 و 7.
(4). تفسير العياشي 1: 355، الحديث: 9.
(5). الكافي 1: 147، الحديث: 4.
(6). الغيبة للنعماني: 301، الحديث: 5 و 6.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 26
ما يشاء و يؤخّر ما يشاء، و المحتوم ليس فيه تقديم و لا تأخير» «1» .
أقول: الظاهر أنّ في الرواية سهوا من أحد أو بعض الرواة، و المعنى الصحيح المؤيّد بالكتاب ما تدلّ عليه الروايات السابقة كما مرّ.
قوله سبحانه: وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ
معنى كونه سبحانه في السماوات و في الأرض عموم الوهيّته فيهما، فإنّ المظروف إذا لم يقبل الحلول في ظرفه، أفاد التركيب شمول و صفه له، كقولك:
هو الأمير في شرق الأرض و غربها، و هو المعروف في البرّ و البحر.
و في [التوحيد] روى الصدوق، عن الصادق- عليه السلام- في الآية قال:
«كذلك هو في كلّ مكان»، قال الراوي: قلت: بذاته؟ قال: و يحك أنّ الأماكن أقدار، فإذا قلت في مكان بذاته لزمك أن تقول في أقدار و غير ذلك، و لكن هو بائن من خلقه محيط بما خلق علما و قدرة و إحاطة و سلطانا [و ملكا]، و ليس علمه بما في الأرض بأقلّ ممّا في السماء، لا يبعد منه شيء، و الأشياء له سواء علما و قدرة و سلطانا [و ملكا] و إحاطة «2» .
أقول: لما كان الخلق و القضاء المذكوران في الآية السابقة في نفسهما غير كافيين في إيجاب الإسلام و العبودية، تمّم البرهان بالإبانة عن سعة الوهيّته، و ركنها العلم و القدرة، و السلطان و الإحاطة، و الإبانة عن تعلق العلم بالأعمال و ظرفها، سواء كان هو السرّ أو الجهر و إليه الإشارة بما في الرواية.
(1). تفسير القمّي 1: 194.
(2). التوحيد: 132- 133، الحديث: 15.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 27
[سورة الأنعام (6): الآيات 10 الى 4]
قوله: وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ
تفريع اللمس على التنزيل؛ لإفادة كونه أبعد من السحر لاجتماع الحاسّتين:
البصر و اللمس، و لأنّ الناس يرون اللمس أقرب إلى الحقيقة من البصر.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 28
قوله: وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ
لأنّ عادته سبحانه جرت أن لا يمهل قوما بعد إذ سألوا آية فأجيبوا بها؛ لأنّ الحق إذا ظهر و لم يبق عليه لبس لم ينظر الجاحدون، لعدم بقاء حاجة إلى وجودهم، كما قال سبحانه: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ «1» .
أو لأنّ عالم الملائكة أرفع أفقا و أعلى وجودا من دار، يعيش فيها الإنسان الدنيوي و هي الدنيا، فظهور الملائكة لهم ظهورا تامّا لا يكون إلّا بتبديل دارهم بدارهم، و هو الموت و العذاب، كما هو ظاهر قوله سبحانه: وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً. يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً «2» ، و حينئذ لم يبق مجال للدعوة النبوية لظهور الحقائق و ارتفاع اللبس و انسداد باب الإختيار، و لذلك عقّبه
بقوله سبحانه: وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ .
و أنت إذا تأمّلت وجدت الوجهين جميعا راجعين إلى مرجع واحد.
هذا و ربّما يستفاد من قوله: وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا ، عدم التباين النوعي بين الملك و الإنسان لظهوره في إمكان صيرورة الملك إنسانا كما يظهر من قوله أيضا: وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ «3» .
و لبيانه محلّ آخر سيجيء إن شاء اللّه تعالى.
(1). الحجر (15): 8.
(2). الفرقان (25): 21- 22.
(3). الزخرف (43): 60.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 29
قوله: وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً
الضمير إلى مطلق الرسول المعلوم من السياق دون رسول اللّه- صلّى اللّه عليه و آله- لمنافاته إلى سؤالهم، فإنّهم قالوا: لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ، و لم يقولوا:
لو لا جعله اللّه ملكا.
و قوله: وَ لَلَبَسْنا
من اللّبس بفتح اللام نظير الإلتباس بمعنى الريب، دون اللّبس بضم اللام.
و قوله سبحانه: وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ
في مساق قوله: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «1» ، و المعنى- و اللّه العالم-:
و لقرّرنا في قلوبهم مع الملك الريب الذي يرتابون به مع الإنسان، و إليه يرجع ما في تفسير العيّاشي: عن عبد اللّه بن أبي يعفور «2» قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السلام- «لبسوا عليهم لبس اللّه عليهم، فإنّ اللّه يقول: وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ » «3» .
قوله: فَحاقَ
يقال: حاق بالشيء أي أحاط.
(1). الصف (61): 5.
(2). في المصدر: «عبد اللّه بن يعقوب» و هو تصحيف، و الصحيح: «عبد اللّه بن ابي يعفور» كما في الأصل؛ البرهان في تفسير القرآن 3: 533، الحديث: 4، و الطبعة المحقّقة من المصدر 2: 91، الحديث: 10.
. (3). تفسير العيّاشي 1: 355، الحديث: 10.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 30
[سورة الأنعام (6): الآيات 18 الى 11]
قوله سبحانه: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا