کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 126
لاستحالة تحديده بحدّ مطلقا، و لا فرق في ذلك بين التحديد التام و الناقص، و إنما يعرف سبحانه بأسمائه و أوصافه، و معرفة الشيء بوجه من وجوهه معرفة لذلك الوجه حقيقة و للشيء بعرضه، و للكلام بقية سيمرّ بك إن شاء اللّه.
قوله سبحانه: وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
اللطف: هو رقّة، قوام الشيء بها، يصح أن ينفذ في خلل الأجسام، و بالتحليل و التجريد عن لوازم المصاديق المادية: نيل الشيء لكل ما ظهر و خفي و دقّ و جلّ، و هو سبحانه كذلك، فهو عالم بكل ما كبر و صغر و خفي لدقّته أو ظهر بكلّ مدرك من المدارك.
و الخبير من الخبرة و هو العلم بالشيء بحيث يأنس العالم بمعلومه بحيث لا يشتبه عليه و لا يخطأ فيه، و لذلك صار الغالب استعماله في موارد العلم الحاصل بتكرر الإدراك كتجربة و اعتبار، يقال: فلان من أهل الخبرة بهذا الأمر، و بالجملة فالإسمان اللطيف و الخبير من شعب الإسم العليم.
و في الكافي: عن الرضا- عليه السلام- في خبر طويل قال- عليه السلام-:
«و أمّا اللطيف فليس على قلّة و قضافة «1» و صغر، و لكن ذلك على النفاذ في الأشياء و الامتناع من أن يدرك، كقولك للرجل: لطف عني هذا الأمر، و لطف فلان في مذهبه و قوله يخبرك أنّه غمض فيه العقل و فات الطلب و عاد متغمضا «2» متلطّفا لا يدركه الوهم، و كذلك لطف اللّه تبارك و تعالى عن أن يدرك بحد أو يحدّ بوصف، و اللطافة منا الصغر و القلة، فقد جمعنا الإسم و اختلف المعنى.
(1). القضافة بالضاد المعجمة: الدقّة و المخافة [منه- رحمه اللّه-].
(2). في المصدر: «متعّمقا»
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 127
و أما الخبير: فهو الذي لا يعزب عنه شيء و لا يفوته شيء، ليس للتجربة و لا للإعتبار بالأشياء، فتفيده التجربة و الإعتبار علما، و لو لا هما ما علم، لأنّ من كان كذلك كان جاهلا، و اللّه لم يزل خبيرا بما يخلق [و ما لم يخلق،] و الخبير من الناس المستخبر عن جهل المتعلم، فقد جمعنا الأسم و اختلف المعنى» «1» الخبر.
و سيجيء بتمامه مع تفسيره في الكلام على الأسماء الحسنى في قوله تعالى:
وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى «2» .
قوله سبحانه: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ
البصيرة: نور القلب الذي به يدرك، كما أنّ البصر نور العين الذي به تدرك، فالبصيرة للقلب كالبصر للعين، و قد تطلق و يراد بها الحجّة، كما أنّ البصر قد يطلق و يراد به نفس العين التي بها الإبصار، فالمراد بقوله: أَبْصَرَ ، و قوله:
عَمِيَ . إعمال البصيرة و تركه.
ثمّ الكلام في هذه الآية وارد على لسان النبي- صلّى اللّه عليه و آله- كأنّه قيل: قل: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ إلى آخره، ثمّ أسقط و ضمّ الكلام إلى الكلام إشعارا بأن اللّه سبحانه هو المتكلم بلسانه و قوله قوله، ثم أعيد الكلام إلى ما كان عليه من خطابه لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه و آله- فقيل: وَ كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ .
قوله: وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ . أي تعلمت و قرأت.
(1). الكافي 1: 122 الحديث: 2.
(2). الأعراف (7): 180.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 128
في تفسير القمي: قال- عليه السلام-: «كانت قريش تقول لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه و آله- إن الذي تخبرنا [به] من الأخبار تتعلّمه من علماء اليهود و تدرسه» «1» .
أقول: و اللام في قوله: لِيَقُولُوا ، للغاية كما في قوله: وَ لِنُبَيِّنَهُ ، و الغايتان جميعا حقيقيتان، قال تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ «2» ، و قال: وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً «3» ، لا كما قيل: إن الغاية في الأوّل مجازيّة، و في الثاني حقيقية، و قد بيّنا ذلك فيما مرّ و سيجيء تمامه.
(1). تفسير القمي 1: 212.
(2). الإسراء (17): 20.
(3). الإسراء (17): 82.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 129
[سورة الأنعام (6): الآيات 113 الى 106]
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 130
قوله تعالى: وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ
في تفسير القمّي: منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» «2» .
قوله: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا
في المجمع: في تفسير أهل البيت: و لو شاء اللّه أن يجعلهم كلّهم مؤمنين معصومين حتى كان لا يعصيه أحد، لما كان يحتاج إلى جنة و لا إلى نار، ولكنّه أمرهم و نهاهم و امتحنهم و أعطاءهم ما له به عليهم الحجة من الآلة و الاستطاعة ليستحقّوا الثواب و العقاب «3» .
قوله: وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً
الفرق بين الحفيظ و الوكيل أن الحفيظ يحفظ أمر الغير حينما يكون الغير هو القائم بأمر نفسه، بخلاف الوكيل، فإن له القيام بأمر الغير و حفظه معا، و لذا كان الحفيظ بمعنى الرقيب، فكأنّه يحفظ الواقعة على ما وقعت، و لا يخلّيها تزول أو تتبدّل عن وجهها.
قوله: وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ
في تفسير القمّي: عن مسعدة عن الصادق- عليه السلام- قال: «سئل عن قول النبي- صلّى اللّه عليه و آله-: إنّ الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة
(1). التوبة (9): 5.
(2). تفسير القمي 1: 211.
(3). مجمع البيان 4: 121.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 131
سوداء في ليلة ظلماء، فقال: كان المؤمنون يسبّون ما يعبد المشركون من دون اللّه، فكان المشركون يسبّون ما يعبد المؤمنون، فنهى اللّه المؤمنين عن سب آلتهم لكي لا يسبّ الكفّار إله المؤمنين، فيكون المؤمنون قد أشركوا باللّه من حيث لا يعلمون، فقال: وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ «1» .
أقول: و العدو بالفتح فالسكون، و العدوّ بضمّتين و تشديد الواو، و العدوان جميعا بمعنى الظلم.
و في تفسير العياشي: عن عمر الطيالسي «2» ، عن أبي عبد اللّه، قال: سألته عن قول اللّه: وَ لا تَسُبُّوا الآية فقال: يا عمر أرأيت أحدا يسبّ اللّه؟ فقلت: جعلني اللّه فداك فكيف؟ قال: من سبّ ولي اللّه فقد سب اللّه «3» .
و في الاعتقادات: عنه- عليه السلام- إنّه قيل: إنّا نرى في المسجد رجلا يعلن بسب أعدائكم و يسبهم فقال: «ما له- لعنه اللّه- تعرّض بنا، قال اللّه:
وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ .
قال: و قال الصادق- عليه السلام- في تفسير هذه الآية: «لا تسبّوهم فإنّهم يسبّوان عليكم، و قال: من سبّ ولي اللّه فقد سبّ اللّه، و قال النبي- صلّى اللّه عليه و آله- لعلي- عليه السلام-: من سبّك فقد سبّني و من سبّني فقد سبّ اللّه و من سبّ اللّه فقد كبّه اللّه على منخريه في نار جهنم» «4» .
(1). تفسير القمّي 1: 213.
(2). ذكره البرقي في أصحاب الصادق- عليه السلام-، معجم رجال الحديث: 13: 66.
(3). تفسير العياشي 1: 373، الحديث: 80.
(4). الإعتقادات للمفيد: 107- 108؛ عيون الأخبار الرضا (ع) 2: 67، الحديث: 308؛ أمالي الصدوق: 87، الحديث: 2.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 132
أقول: و الأخبار في هذه المعاني كثيرة.
قوله: وَ ما يُشْعِرُكُمْ استفهام إنكار يعني أنّكم لا تدرون، و نحن نعلم أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ .
قوله: وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ
المراد بالفؤاد هو القلب، و هو الجوهر العاقل من الإنسان، و البصر حيثيّة إدراكه، و تقليبه جعل أعلاه أسفله و بالعكس، فيرى العالى سافلا و السافل عاليا و الحق باطلا و بالعكس.
و في تفسير القمّي: عن الباقر- عليه السلام-: وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ ، يقول:
[ننكّس] قلوبهم فيكون أسفل قلوبهم أعلاها و نعمى أبصارهم فلا يبصرون الهدى «1» .
أقول: و هذا عود بعد عود إلى ما يهيئه الكفر و الشرك و الجحود في سرائرهم من الآثار و سيعود إليه أيضا في قوله: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «2» .
قوله: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ
أي في أول البعثة و الدعوة، أو في عالم الذر قبل هذا العالم، و لكلّ من الوجهين وجه.
قوله: ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ
فليسوا مستقلين قادرين على ما شاءوا إلّا أن يشاء اللّه ذلك، فيملّكهم القدرة
(1). تفسير القمي 1: 213.