کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 318
قوله سبحانه: أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا
خصّ هاتان الصفتان من بين سائر صفاته ككونه جسما و ذا مكان و زمان و شكل و محدودا و غير ذلك، مع أنّ الجميع ينافي الإلهيّة «1» لكون هذين الوصفين من أوضح لوازم الإلهيّة عند من يتخذ شيئا إلها؛ فإنّه يتّخذه إلها ليعتنى به و يهديه إلى السعادة، و إلّا فلا معنى للرجوع إلى من يكون الرجوع و التألّه إليه و اللارجوع على السواء، و قد قال السامريّ لهم حين أخرجه إليهم: هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى «2» ، و قد علموا من موسى أنّ اللّه يكلّمه و يهديه إلى صراط مستقيم، و لذلك عقّب الكلام بقوله تعالى: اتَّخَذُوهُ وَ كانُوا ظالِمِينَ ، فأتى بالفصل دون الوصل، فكأنه قيل: فلم اتخذوه إلها و أمره بهذا الوضوح من الفساد؟
فقيل: اتّخذوه إلها و كانوا ظالمين من قبل، و كان لا يبعد عنهم مثل هذا الصنيع كلّ البعد.
قوله سبحانه: وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ
كناية عن اشتداد ندمهم، فإنّ النادم المتحسّر يعضّ على يده غمّا، فتصير يده مسقوطا فيها كما قيل.
قوله: غَضْبانَ أَسِفاً
الأسف: الحزن و شدّة الغضب.
(1). في المخطوط: أنّ الجميع الإلهية، و الصحيح ما أثبتناه، كما يظهر من ملاحظة الميزان في تفسير القرآن 8: 249 ذيل الآية.
(2). طه (20): 88.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 319
و قوله: خَلَفْتُمُونِي
أي قمتم مقامي بعدي.
و قوله: أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ
عجل عن الأمر: أي تركه غير تامّ.
و قوله: أَلْقَى الْأَلْواحَ
أي طرحها، و الآية تشهد أنّه- عليه السلام- كان عند الرجوع غضبان، ثمّ ألقى الألواح بعد ذلك؛ فقد اشتد غضبه بالمعاينة بعد الإخبار، و كذلك فسّر في الروايات.
ففي تفسير العياشي: عن الصادق- عليه السلام- قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى لمّا أخبر موسى أنّ قومه اتّخذوا عجلا جسدا له خوار فلم يقع منه موقع العيان، فلمّا رآهم اشتدّ غضبه فالقى الألواح من يده، قال أبو عبد اللّه- عليه السلام-:
و للرؤية فضل على الخبر» «1» .
أقول: و هذا المعنى مروي عن النبي- صلّى اللّه عليه و آله- أيضا «2» .
قوله سبحانه: وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ
في الكافي: عن الباقر- عليه السلام- قال: «ما أخلص عبد الإيمان باللّه أربعين يوما أو قال ما أجمل عبد ذكر اللّه أربعين يوما إلّا زهّده اللّه في الدنيا و بصّره
(1). تفسير العياشي 2: 29، الحديث: 81.
(2). الميزان في تفسير القرآن 8: 261، نقلا عن الدر المنثور.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 320
دائها و دوائها و أثبت الحكمة في قلبه و أنطق بها لسانه، ثم تلا: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ، فلا ترى صاحب بدعة إلّا ذليلا، و لا مفتريا على اللّه و على رسوله و على أهل بيته إلّا ذليلا» «1» .
أقول: و معنى الحديث ظاهر و صدره مستفاد من الآية بطنا.
(1). الكافي 2: 16، الحديث: 6.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 321
[سورة الأعراف (7): الآيات 158 الى 155]
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 322
[سورة الأعراف (7): الآيات 160 الى 159]
قوله [سبحانه]: أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا
في التوحيد: عن الرضا- عليه السلام-: إنّ السبعين لمّا صاروا معه «1» إلى الجبل قالوا له: إنّك قد رأيت اللّه سبحانه فأرناه كما رأيته، قال: إنّي لم أره، فقالوا:
لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ «2» ، فاحترقوا عن آخرهم و بقي موسى وحيدا فقال: يا ربّ اخترت سبعين رجلا من بني إسرائيل فجئت بهم و أرجع وحدي فكيف يصدّقني قومي بما أخبرتهم به، فلو شئت أهلكتهم من قبل و إياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا فأحياهم اللّه بعد موتهم» «3» .
أقول: و روى قريبا منه في العيون «4» .
فإن قلت: ظاهر المقام أن يقال بما قال السفهاء منّا، أو ما يؤدّي معناه، فإنّ ذنبهم الذي أخذتهم به الصاعقة، قولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً «5» ،
(1). في المصدر: «... و السبعون الذين أختارهم صاروا معه»
(2). البقره (2): 55.
(3). التوحيد: 423، الحديث: 1.
(4). عيون الأخبار 1: 160، الحديث: 1.
(5). البقرة (2): 55.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 323
فما وجه قوله: بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ ؟
قلت: إنّما قالوه عنادا و استكبارا، و إلّا فالآية في معرفة اللّه كثيرة مفيدة فحصرها في الرؤية و التمادي و اللجاج في طلبها كان عنادا و استكبارا و لذلك أهلكوا، و إلّا فمجرد الطلب و لو جهلا، لم يكن موجبا للإهلاك، كما قالوا:
يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ «1» ، إلى غير ذلك من اقتراحاتهم و تهكّماتهم، و لذلك قال: بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ ، و لم يقل بما قاله الجاهلون منّا، فبدّل القول بالفعل و الجهل بالسفاهة.
قوله: فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا
قدّم في دعائه المغفرة على الرحمة، و كذا في دعائه لنفسه و أخيه حين قال:
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ «2» ، بخلاف ما في دعاء قومه حين قالوا: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَ يَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «3» ، و سيأتي الوجه فيه.
قوله سبحانه: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ
صفة الرحمة التي فينا رقّة قلب الراحم للمرحوم من حيث إنه المستحق أن يحسن إليه أو أن لا يساء إليه، و هذا المعنى و إن كان وصفا جسمانيا منبعثا عن انفعال بدني إلّا أنّه متّحد بوصف إدراكي من أجله نسمّيها رحمة، فإنّ الذي يريد أن يبطش إنسانا ذا ذنب و يقهره إنّما يتصوّره متلبّسا بالذنب، فهو ما دام يتصوّره
(1). الأعراف (7): 138.
(2). الأعراف (7): 151.
(3). الأعراف (7): 149.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 324
كذلك لا ينحرف عن إرادة الإنتقام أو السياسة، فإذا تصوّره متلبسا مع الذنب بما يستدعي عدم الإسائة إليه كجهالة مّا بالذنب، أو عثرة أو صفة أخرى تستدعي عدم السياسة ككونه شابا حدث السنّ أو جميلا أو ضعيفا أو نحو ذلك، فإن لم يذعن به أخذ انتقامه، و إن أذعن على وفق هذا الإستدعاء فقد وجده غير مستحق للإسائة إليه أو مستحقا للإحسان من هذه الجهة و ان كان مستحقا لذلك من جهة ذنبه و قصوره، و هذه هي حقيقة الرحمة.
فهي إذعان الراحم أنّ المرحوم على تلبّسه بالذنب أو ما يجري مجراه حقيقة أو دعوى متلبّس بما لا يستحق معه الإسائة أو بما يستحق معه الإحسان، و إذا نسب هذا المعنى إلى اللّه- جلّت كبريائه- بما يناسب ساحة قدسه و عظمته كان ذلك وضعه تعالى كلّ شيء موضع الإحسان و الإفاضة على قدر ما يستحقه، فخلقه الخلق و إيجاده الأشياء و كل ما من قبله تعالى رحمة منه، و إذ كان إحسانه و إنعامه ذا مراتب، و كل مرتبة منها مسبوقة بالإستحقاق القبلي للإحسان و الإنعام، فرحمته تعالى مراتب، كل مرتبة منها مسبوقة بزوال المانع و ستر المنافي و هو المغفرة، غير أنّ نفس المغفرة تحتاج إلى رحمة، فكلّ مغفرة مسبوقة برحمة و لا عكس، فإنّ الرحمة الأولى و هي أصل الإيجاد غير مسبوقة بالمغفرة إلّا بحسب ما يعتبره العقل، حيث يعتبر الأشياء بحسب ماهياتها مستدعية للوجود و مفتقرة إلى إيجاد الموجد عزّت إفاضته.
و من هنا يظهر أنّ الرحمة تنقسم إلى قسمين: