کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 355
وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً «1» .
و سيجيء في سورة الأحزاب، و يأتي ما يتعلّق بها من الكلام و ما وردت فيها من الروايات.
و قوله- صلّى اللّه عليه و آله- في الرواية: وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ، يشعر بأنّ الميثاق ميثاق واحد مأخوذ على الأنبياء و غيرهم جميعا أخذا واحدا، و إنّما تعيّن في كلّ طائفة بحسب حالهم كما مرّ ذلك في سورة البقرة.
و في تفسير القمي: عن ابن مسكان، عن الصادق- عليه السلام- في قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ ، قلت: معاينة كان هذا؟
قال: «نعم، فثبتت المعرفة و نسوا الموقف و سيذكرونه، و لو لا ذلك لم يدر أحد من خالقه و رازقه، فمنهم من أقرّ بلسانه [في الذرّ] و لم يؤمن بقلبه فقال اللّه:
فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ » «2» «3» .
أقول: قد مرّ أنّ الغيب و الشهادة أمران نسبيّان، فكلّ غائب مشهود في نفسه غيب بالنسبة إلى غيره، فالدنيا كانت غيبا في الميثاق؛ كما أنّ الميثاق غيب بالنسبة إلى الدنيا، فلو فرض في الميثاق مخالفة بين الظاهر و الباطن بأن يظهر أحد الإيمان و يبطن الشرك كان ذلك في الدنيا كفرا ظاهرا و اعترافا باطنا، و هذا هو الذي ذكره- عليه السلام- بقوله: فمنهم من أقر بلسانه و لم يؤمن بقلبه.
و المراد بالإيمان المنفي مطاوعة القلب بمعنى عقده على الإطاعة و الخضوع
(1). الأحزاب (33): 7.
(2). يونس (10): 74.
(3). تفسير القمي 1: 248.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 356
دون مجرد المعرفة فإنه فطري شامل موجود في المشرك و المؤمن، غير منفي عن المشرك، و أمّا دلالة قوله تعالى: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ «1» .
فبيانه أنّ مثل هذا التركيب إنّما يورد فيما كان هناك ترقّب و انتظار، كالفرق بين أن يقال: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ «2» ، و بين أن يقال: فلم يؤمنوا بما كذّبوا به من قبل.
فإنّ الأوّل: يفيد أنّهم لم يؤمنوا و كان مترقّبا منهم ذلك، لكونهم كذّبوا به من قبل.
و الثاني: يفيد أنّهم لم يؤمنوا به بعد أن كذّبوا به من غير انتظار و لا اقتضاء من التكذيب السابق لعدم الإيمان اللاحق بخلاف الأوّل فإنّه يثبت اقتضاء الحالة الأولى للحالة الثانية و استلزامها لها، و لو كان المراد من التكذيب السابق، التكذيب الدنيوي، بمعنى أنّهم لم يؤمنوا لا حقا لتكذيبهم بآيات اللّه سابقا و عدم اعتنائهم بما تدلّ به من المبدء و المعاد و عدم اعتبارهم بما ينبغي أن يعتبر به المعتبرون، كان ذلك بناء الكلام على الإقتضاء العادي، و الإقتضاءات العاديّة كثيرا ما تتخلّف من غير تأثير، فإنّا كثيرا ما وجدنا أو سمعنا بالعتاة و الطغاة و الفجّار البالغين في هتك محارم اللّه عادوا بعد و تابوا و حسن رجوعهم و نصحت توبتهم فأصلحوا بعد أن كانوا مفسدين، و الإعتماد على امثال هذه الإقتضاءات منّا لمسامحتنا في أمر العلم و ركوننا بالظنون و الأوهام، لكنّه لا يصحّ منه سبحانه.
و من ذلك يظهر أنّ هذا التكذيب السابق منهم لا يتخلّف عن مقتضاه، و هذا
(1). يونس (10): 74.
(2). يونس (10): 74.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 357
يوجب أن يتحقق منهم تكذيب سابقا لا يتخلف عن عدم الإيمان اللاحق فهو في نشأة قبل نشأة الدنيا و هو الميثاق.
و في الكافي: عن زرارة، قال: إنّ رجلا سأل أبا جعفر عن قول اللّه عزّ و جلّ:
وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ، فقال:- و أبوه يسمع- «حدثني أبي أنّ اللّه عزّ و جلّ أخذ قبضة من تراب التربة التي خلق منها آدم فصبّ عليها الماء العذب الفرات؛ ثم تركها أربعين صباحا، ثم صبّ عليها الماء المالح الأجاج، فتركها أربعين صباحا، فلما اختمرت الطينة أخذها فعركها عركا شديدا فخرجوا كالذرّ من يمينه و شماله، و أمرهم جميعا أن يقعوا في النار، فدخل أصحاب إليمين فكانت عليهم بردا و سلاما، و أبي أصحاب الشمال أن يدخلوها» «1» .
أقول: و رواه العيّاشي في تفسيره «2» و الأخبار في هذا المعنى و أمره سبحانه للفريقين بالدخول في النار كثيرة جدّا و كأنّه تمثيل للإيمان فإنّه نار للكافر و سلام على المؤمن، فكانّ هناك بارزا في صورة النار و أمروا بدخولها فدخلها فريق و أبى آخرون، و يمكن أن يكون تمثيلا و كناية في كلام الأئمة- عليهم السلام-.
(1). الكافي 2: 7، الحديث: 2.
(2). تفسير العياشي 2: 40، الحديث: 109.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 358
[سورة الأعراف (7): الآيات 180 الى 175]
قوله سبحانه: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا
نزلت في بلعم بن باعورا على ما ذكره المفسرون.
و في تفسير القمي: عن الرضا- عليه السلام-: إنّه أعطي بلعم بن باعورا
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 359
الاسم الأعظم و كان يدعو به فيستجاب له فمال إلى فرعون، فلمّا مرّ فرعون في طلب موسى و أصحابه قال فرعون لبلعم: ادع اللّه على موسى و أصحابه ليحبسه علينا، فركب حمارته ليمرّ في طلب موسى فامتنعت عليه حمارته، فأقبل يضربها فأنطقها اللّه عزّ و جلّ فقالت: ويلك على ماذا تضربني أ تريد أن أجيء معك لتدعو على نبىّ اللّه و قوم مؤمنين؟! فلم يزل يضربها حتى قتلها، فانسلخ الإسم من لسانه و هو قوله: فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ. وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ، و هو مثل ضربه اللّه»، الحديث «1» .
أقول: قوله- عليه السلام-: «أعطي الإسم الأعظم» يستفاد ذلك من قوله تعالى: آياتِنا ، حيث أطلق الآيات و لم يقل من آياتنا، و سيأتي إن شاء اللّه معنى الإسم الأعظم و يظهر منه معنى إيتاء الآيات و إعطائها.
و قوله تعالى: فَانْسَلَخَ
السلخ: نزع الجلد و اللباس و نحوها، و فيه إشارة عن كونها مستعارة فيه غير راسخة.
و قوله: فَأَتْبَعَهُ
من الإتباع و هو الدرك و اللحوق، و فيه إشارة إلى أنّ تسلّط الشيطان عليه إنّما تفرّع على سوء سريرته لا بالعكس كقوله تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «2» .
(1). تفسير القمي 1: 248.
(2). الصف (61): 5.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 360
و قوله: فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ
الغيّ: خلاف الرشد، كالضلال خلاف الهدى، و الفرق بين الغيّ و الضلال أنّ الضلال فقد المقصد مع قصده، و الغيّ فقد المقصد مطلقا، فالغاوي هو الخارج عن الطريق من غير مقصد، و الضالّ هو الخارج عنه الواقع فيما لا يوصل إلى المطلوب، و لذلك يستعمل الغاوي فيمن لا يقدر على تدبير نفسه في السير و لا يحسن السلوك.
و قوله: إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ
اللهث: شدة تنفس الكلب مع إخراج لسانه لتعب أو عطش، و هو أخسّ أحواله، فهو مثل لسوء سريرة الرجل و إنّ سوء السريرة ممّا لا يؤثّر فيه التعرّض و عدمه فهو مؤثّر لا محالة، و الآيتان من جملة آيات الميثاق تدلّ على أنّ السعادة و الشقاء راجعتان إلى السريرة و مرحلة الروح.
و قد عرفت في ذيل قوله تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ «1» ، إنّ ذلك كلّه راجع إلى الطينة و الميثاق فارجع.
قوله سبحانه: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ
الذرء: الخلق، و الآية تدل على أنّ النار غاية لخلق كثير من الثقلين في بدئه، فموقعها قبل موقع الميثاق، فهي من آيات الطينة كالآيتين السابقتين عقّب بها جميعا آيات الميثاق للإتصال الذي بين بدء الخلق و أخذ الميثاق، و يستنتج من جميع الآيات الستّ أنّ اللّه سبحانه خلق الخلق حين خلقهم صنفين: سعيد إلى
(1). الأعراف (7): 29.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج4، ص: 361
الجنة لا محالة، و شقي إلى النار لا محالة، ثم أخذ منهم الميثاق للتوحيد و سائر آياته من النبوة و الولاية و غيرهما، فمنهم من أقرّ و باطنه طاهر من الشرك و هم المؤمنون حقا، و منهم من أقرّ و باطنه خبيث و هم المشركون في الدنيا كما مرّ في رواية ابن مسكان عن الصادق «1» .
و في الكافي: عن حمران، عن الصادق- عليه السلام- قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى حيث خلق الخلق خلق ماءا عذبا و ماءا مالحا أجاجا، فامتزج الماء بالماء، فأخذ طينا من أديم الأرض فعركه عركا شديدا فقال لأصحاب اليمين:
و هم كالذرّ يدبّون إلى الجنة [بسلام] و لا أبالي «2» ، و قال لأصحاب الشمال: إلى النار و لا أبالي، ثم قال: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ » «3» ، الحديث «4» .
أقول: و قد مرّ في هذا المعنى عدّة روايات في مطاوي أخبار الطينة عند قوله تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ «5» ، و قوله- عليه السلام- حكاية عنه سبحانه: «إلى الجنّة و لا أبالي»، و قوله: «إلى النار و لا أبالي» إشارة إلى قوله: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ «6» ، و قد مرّ فيما مرّ، أنّه سبحانه مالك على الإطلاق و كلّ شيء ملكه و كلّ فعل منه تصرف في
(1). تفسير القمّي 1: 248.
(2). في المصدر:- «و لا ابالي»
(3). الأعراف (7): 172.
(4). الكافي 2: 8، الحديث: 1.
(5). الأعراف (7): 29- 30.