کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 108
للمؤمن مرتبة مع الإيمان لم يكن قبل نزولها بموجودة، و ليست إلّا ما يقاوم كيد الشيطان و حبّ النفس للبقاء الموجب لضعف النفس عن مقارعة الأبطال و الثبات في جهاد الأعداء.
و بهذا تفارق السكينة أيضا روح الإيمان، فإنّ الروح لا يثبت التقوى إثباتا ضروريّا بتّيّا، بخلاف السكينة فإنّها تثبت الثبات و طمأنينة النفس البتّة.
و في الكافي عن الصادق- عليه السلام- قال: السكينة الإيمان. «1»
أقول: و رواه الصدوق في المعاني عن الباقر- عليه السلام-، «2» و قد تبيّن معناه.
و في الكافي أيضا عن الرضا- عليه السلام- قال: ريح تخرج من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان، أطيب ريحا من المسك، و هي التي أنزلها اللّه على رسوله بحنين فهزم المشركين. «3»
أقول: و في هذا المعنى عدّة روايات عنهم- عليهم السلام-، و قد روي هذا المعنى من طرق العامّة عن عليّ- عليه السلام-، «4» و لا شكّ أنّه تمثيل و تمثّل، و تمثّل المعنيّ على الإنسان إنّما يكون بصورة يألفها مع المعنى في غالب موارده، كتمثّل الدنيا بصورة الغانية الفتّانة أو العجوز الفانية، و كتمثّل الأعمال الصالحة بصور حسنة، و الأعمال الطالحة بصور قبيحة.
فلعلّ الوجه في تمثّل السكينة و الوقار الإلهي بصورة ريح الجنة ذات وجه كوجه الإنسان، هو أنّ الإنسان الضعيف القلب الهيّن الركن إذا صادف الهزاهز
(1). الكافي 2: 15، الحديث: 3.
(2). معاني الأخبار: 284، الحديث: 1.
(3). الكافي 3: 471، الحديث: 5؛ 4: 206، الحديث: 5، نقلها العلّامة- رحمه اللّه- بالمعنى.
(4). مجمع الزوائد 6: 321؛ المعجم الأوسط 7: 89.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 109
و الشدائد ضاق صدره، فنزول السكينة عليه يوجب انشراح صدره و اتّساعه و تنفّس كربه، كالنسيم اللطيف الفائح على من أجهده حرّ القيظ و تعب العمل.
و الإنسان مع ذلك إذا كان ذا وقار و طمأنينة لم يلتفت في وجهته، و لم يشاهد غير وجه نفسه لما معه من الكبرياء و العزّة النفسانيّة، فإذا كان ذلك كرامة له من اللّه سبحانه، فهو كريح من الجنّة لها صورة كصورة الإنسان فافهم ذلك.
قوله سبحانه: وَ عَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا
في تفسير القمّي عن الباقر- عليه السلام-: و هو القتل. «1»
أقول: و السياق يؤيّده.
قوله سبحانه: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ
في تفسير الصافي روي أنّ ناسا منهم جاؤوا إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله- و أسلموا و قالوا: يا رسول اللّه! أنت خير الناس و أبرّهم و قد سبي أهلونا و أولادنا و اخذت أموالنا، و قد سبي يومئذ ستّة آلاف نفس، و اخذ من الإبل و الغنم ما لا يحصى، فقال: اختاروا إمّا سباياكم و إمّا أموالكم، فقالوا: ما كنّا نعدل بالأحساب شيئا، فقام رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله- و قال: إنّ هؤلاء جاؤوا مسلمين، و إنّا خيّرناهم بين الذراري و الأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فمن كان بيده سبي و طابت نفسه أن يردّه فشأنه، و من لا فليعطنا و ليكن قرضا علينا حتّى نصيب شيئا [فنعطيه] «2» مكانه، فقالوا: رضينا و سلّمنا،
(1). تفسير القمّي 1: 288؛ البرهان في تفسير القرآن 4: 421، الحديث: 4.
(2). ما بين المعقوفتين في نسخة [منه- رحمه اللّه-]؛ و في نسخة المطبوعة: «فلنعطيه».
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 110
فقال- صلى اللّه عليه و آله-: إنّي لا أدري لعلّ فيكم من لا يرضى، فمرّوا عرفائكم فليرفعوا إلينا، فرفعوا إنّهم قد رضوا. «1»
قوله سبحانه: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ
قرئ بفتحتين، و هو مصدر، فالجملة من باب: زيد عدل، و قرئ بالكسر فالسكون، و هو صفة مشبّهة كالنجس بالفتح فالكسر، فالموصوف مقدّر و التقدير: جنس أو صنف نجس، و أغلب ما يؤتى به في صورة الاتباع، فيقال:
رجس نجس، و المراد بذلك قذارتهم الباطنيّة دون الظاهريّة، و هو ظاهر.
قوله سبحانه: وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً
قال في الصحاح: العيلة و العالة: الفاقة، يقال: عال يعيل عيلة و عيولا، إذا افتقر، «2» فهو غير الفقر، بل تقبّل الفقر و الاتّسام به.
قوله سبحانه: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ
قيّده بالمشيّة لينقطع الآمال إليه سبحانه، فالأمر بيده، و لقد و فى سبحانه بوعده، فأرسل السماء عليهم مدرارا، و أسلم أهل تبالة و جرش من اليمن فحملوا إلى مكّة الطعام و كلّ ما يعاش به، ثمّ أغناهم اللّه بفتح البلاد و الغنائم كما قيل.
(1). تفسير الصافي 2: 393؛ أنوار التنزيل 1: 411.
(2). الصحاح للجوهري مادّة: «ع ى ل».
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 111
[سورة التوبة (9): الآيات 29 الى 31]
قوله سبحانه: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
عرف أهل الكتاب في وجوب قتالهم بكونهم لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... و غيّاه بقوله:
حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، فتردّد أمرهم بين ثلاث: إمّا الإيمان و إمّا القتل و إمّا الجزية.
و في التهذيب عن الباقر- عليه السلام-: بعث اللّه محمّدا- صلى اللّه عليه و آله- بخمسة أسياف إلى أن قال: و السيف الثاني: على أهل الذمّة، قال اللّه تعالى: وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً نزلت هذه الآية في أهل الذمّة، ثمّ نسخها قوله
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 112
سبحانه: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فمن كان منهم في دار الإسلام فلم يقبل منهم «1» إلّا الجزية أو القتل، و مالهم فيء و ذراريهم سبي، فإذا قبلوا الجزية على أنفسهم «2» حرم علينا «3» سبيهم و حرمت «4» أموالهم و حلّت لنا مناكحتهم، و من كان منهم في دار الحرب حلّ لنا سبيهم و أموالهم و لم تحلّ لنا مناكحتهم و لم تقبل منهم إلّا الدخول في دار الإسلام «5» أو الجزية أو القتل. «6»
أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة متكثّرة الفروع، تطلب من كتاب الجهاد.
و المراد بأهل الكتاب: من لهم كتاب سماويّ، و قد فسّروا في السنّة باليهود و النصارى و المجوس، و عليه كان عمل رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله- في سيرته، فأخذ من اليهود و من النصارى و من مجوس هجر «7» الجزية على ما يثبته التاريخ و الرواية.
قوله: وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ
تكرار لا النفي للتأكيد، فإنّهم كانوا يدّعون جميع ذلك من الإيمان باللّه و اليوم الآخر و تحريم ما حرّم اللّه، فمسّت حاجة الكلام إلى نفي كلّ واحد بنفي مستقلّ.
(1). في المصدر:- «منهم»
(2). في المصدر:- «على أنفسهم»
(3). في المصدر: «لنا»
(4). في المصدر:- «حرمت»
(5). في المصدر:- «الدخول في دار الإسلام»
(6). تهذيب الاحكام 4: 114، الحديث: 1.
(7). عدّ ياقوت عدّة من المدن باسم «هجر» ثمّ قال: و الهجر بالألف و اللام موضع آخر و قد فتحت في أيام النبي- صلى اللّه عليه و آله- راجع: معجم البلدان 5: 393.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 113
قوله سبحانه: وَ رَسُولُهُ
ورود هذه الكلمة لكون المقصود من عبادة اللّه هو أن يعبد من حيث يريده اللّه تعالى، لا من حيث يريده العابد على ما عرفت من معنى العبادة في تفسير سورة الفاتحة، فلا بدّ في عبادته أن يعبد على ما يشرّعه بلسان رسوله، فتكذيبهم رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله- أوجب أن يكون تحريمهم ما حرّم اللّه تعالى غير مقبول و لا مرضيّ عنده سبحانه، و لذلك نفى سبحانه جميع الاصول و الفروع عنهم من الإيمان باللّه و اليوم الآخر و تحريم ما حرّم اللّه و الأخذ بدين الحقّ.
قوله سبحانه: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ
بناء نوع من جزى دينه إذا قضاه، فالجزية دين عليهم يجب أن يقضوه.
و قوله سبحانه: عَنْ يَدٍ
أي عن يد متواتية غير ممتنعة و لا مستنكفة، فهو من قبيل الكناية يراد بها كمال الإطاعة.
و قوله سبحانه: وَ هُمْ صاغِرُونَ
من صغر بمعنى ذلّ، و هو أيضا من قبيل الكناية.
قوله سبحانه: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ
و هو قول بعض اليهود.
و في الإحتجاج عن رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله-: إنّه طالبهم فيه بالحجّة، فقالوا بأنّه- عليه السلام- أحيى لبني إسرائيل التوراة بعد ما ذهب، و لم يفعل بها
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 114
هذا إلّا لأنّه ابنه، فقال- صلى اللّه عليه و آله-: كيف صار عزيز ابن اللّه دون موسى و هو الذي جاءهم بالتوراة و رأوا منه من المعجزات ما قد علمتم، فإن كان عزيز ابن اللّه، لما ظهر من إكرامه من إحياء التوراة فلقد كان موسى بالنبوّة أحقّ و أولى، «1» الحديث.
أقول: و ظاهره أنّ مرادهم بالبنوّة بنوّة التشريف دون التوليد.
قوله: وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ
و هو قول بعضهم أيضا أرادوا به التشريف.
و في الإحتجاج أيضا عن رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله-: إنّه طالبهم بالحجّة، فقالوا: إنّ اللّه لمّا أظهر على يد عيسى من الأشياء العجيبة، ما ظهر، فقد اتّخذه ولدا على جهة الكرامة فقد سمعتم ما قلته لليهود في هذا المعنى الذي ذكرتموه، ثمّ أعاد ذلك كلّه فسكتوا، الحديث. «2»
قوله سبحانه: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ
إن كانت الباء للظرفيّة كان المعنى أنّ القول تعلّق بأفواههم، فلم ينزل قلوبهم، و إن كانت للسببيّة فالمعنى أنّ قلوبهم غير شاعرة لمعناه و لا قاصدة، و على كلا الوجهين هو كناية عن عدم إذعانهم أنفسهم بما يدّعونه، فإنّهم إن أرادوا بنوّة الولادة فقد جعلوا للّه سبحانه جسما محكوما بنظام المادّة، و هم يعلمون أنّه منزّه
(1). الإحتجاج للطبرسي 1: 23؛ تهذيب الاحكام 4: 114، الحديث: 1؛ البرهان في تفسير القرآن 4: 429، الحديث: 1.