کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 111
[سورة التوبة (9): الآيات 29 الى 31]
قوله سبحانه: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
عرف أهل الكتاب في وجوب قتالهم بكونهم لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... و غيّاه بقوله:
حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، فتردّد أمرهم بين ثلاث: إمّا الإيمان و إمّا القتل و إمّا الجزية.
و في التهذيب عن الباقر- عليه السلام-: بعث اللّه محمّدا- صلى اللّه عليه و آله- بخمسة أسياف إلى أن قال: و السيف الثاني: على أهل الذمّة، قال اللّه تعالى: وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً نزلت هذه الآية في أهل الذمّة، ثمّ نسخها قوله
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 112
سبحانه: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فمن كان منهم في دار الإسلام فلم يقبل منهم «1» إلّا الجزية أو القتل، و مالهم فيء و ذراريهم سبي، فإذا قبلوا الجزية على أنفسهم «2» حرم علينا «3» سبيهم و حرمت «4» أموالهم و حلّت لنا مناكحتهم، و من كان منهم في دار الحرب حلّ لنا سبيهم و أموالهم و لم تحلّ لنا مناكحتهم و لم تقبل منهم إلّا الدخول في دار الإسلام «5» أو الجزية أو القتل. «6»
أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة متكثّرة الفروع، تطلب من كتاب الجهاد.
و المراد بأهل الكتاب: من لهم كتاب سماويّ، و قد فسّروا في السنّة باليهود و النصارى و المجوس، و عليه كان عمل رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله- في سيرته، فأخذ من اليهود و من النصارى و من مجوس هجر «7» الجزية على ما يثبته التاريخ و الرواية.
قوله: وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ
تكرار لا النفي للتأكيد، فإنّهم كانوا يدّعون جميع ذلك من الإيمان باللّه و اليوم الآخر و تحريم ما حرّم اللّه، فمسّت حاجة الكلام إلى نفي كلّ واحد بنفي مستقلّ.
(1). في المصدر:- «منهم»
(2). في المصدر:- «على أنفسهم»
(3). في المصدر: «لنا»
(4). في المصدر:- «حرمت»
(5). في المصدر:- «الدخول في دار الإسلام»
(6). تهذيب الاحكام 4: 114، الحديث: 1.
(7). عدّ ياقوت عدّة من المدن باسم «هجر» ثمّ قال: و الهجر بالألف و اللام موضع آخر و قد فتحت في أيام النبي- صلى اللّه عليه و آله- راجع: معجم البلدان 5: 393.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 113
قوله سبحانه: وَ رَسُولُهُ
ورود هذه الكلمة لكون المقصود من عبادة اللّه هو أن يعبد من حيث يريده اللّه تعالى، لا من حيث يريده العابد على ما عرفت من معنى العبادة في تفسير سورة الفاتحة، فلا بدّ في عبادته أن يعبد على ما يشرّعه بلسان رسوله، فتكذيبهم رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله- أوجب أن يكون تحريمهم ما حرّم اللّه تعالى غير مقبول و لا مرضيّ عنده سبحانه، و لذلك نفى سبحانه جميع الاصول و الفروع عنهم من الإيمان باللّه و اليوم الآخر و تحريم ما حرّم اللّه و الأخذ بدين الحقّ.
قوله سبحانه: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ
بناء نوع من جزى دينه إذا قضاه، فالجزية دين عليهم يجب أن يقضوه.
و قوله سبحانه: عَنْ يَدٍ
أي عن يد متواتية غير ممتنعة و لا مستنكفة، فهو من قبيل الكناية يراد بها كمال الإطاعة.
و قوله سبحانه: وَ هُمْ صاغِرُونَ
من صغر بمعنى ذلّ، و هو أيضا من قبيل الكناية.
قوله سبحانه: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ
و هو قول بعض اليهود.
و في الإحتجاج عن رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله-: إنّه طالبهم فيه بالحجّة، فقالوا بأنّه- عليه السلام- أحيى لبني إسرائيل التوراة بعد ما ذهب، و لم يفعل بها
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 114
هذا إلّا لأنّه ابنه، فقال- صلى اللّه عليه و آله-: كيف صار عزيز ابن اللّه دون موسى و هو الذي جاءهم بالتوراة و رأوا منه من المعجزات ما قد علمتم، فإن كان عزيز ابن اللّه، لما ظهر من إكرامه من إحياء التوراة فلقد كان موسى بالنبوّة أحقّ و أولى، «1» الحديث.
أقول: و ظاهره أنّ مرادهم بالبنوّة بنوّة التشريف دون التوليد.
قوله: وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ
و هو قول بعضهم أيضا أرادوا به التشريف.
و في الإحتجاج أيضا عن رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله-: إنّه طالبهم بالحجّة، فقالوا: إنّ اللّه لمّا أظهر على يد عيسى من الأشياء العجيبة، ما ظهر، فقد اتّخذه ولدا على جهة الكرامة فقد سمعتم ما قلته لليهود في هذا المعنى الذي ذكرتموه، ثمّ أعاد ذلك كلّه فسكتوا، الحديث. «2»
قوله سبحانه: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ
إن كانت الباء للظرفيّة كان المعنى أنّ القول تعلّق بأفواههم، فلم ينزل قلوبهم، و إن كانت للسببيّة فالمعنى أنّ قلوبهم غير شاعرة لمعناه و لا قاصدة، و على كلا الوجهين هو كناية عن عدم إذعانهم أنفسهم بما يدّعونه، فإنّهم إن أرادوا بنوّة الولادة فقد جعلوا للّه سبحانه جسما محكوما بنظام المادّة، و هم يعلمون أنّه منزّه
(1). الإحتجاج للطبرسي 1: 23؛ تهذيب الاحكام 4: 114، الحديث: 1؛ البرهان في تفسير القرآن 4: 429، الحديث: 1.
(2). الاحتجاج 1: 24.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 115
من ذلك، و إن أرادوا بنوّة التشريف فقد عظّموا أمرهما بزعمهم، لكن استصغروا أمر اللّه سبحانه، و فرّطوا في جنبه و هم يعلمون.
قوله سبحانه: يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا
المضاهاة: المشابهة، و كأنّ تقدير الكلام يضاهون قولا قَوْلَ الَّذِينَ ...، فحذف التمييز للدلالة عليه في الكلام، و قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا هو قولهم:
الملائكة بنات اللّه.
قوله سبحانه: قاتَلَهُمُ اللَّهُ
دعاء عليهم، كقوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ، «1» و كأنّ المراد به القتل بعد القتل.
و في الاحتجاج عن أمير المؤمنين- عليه السلام- في حديث: أي لعنهم اللّه، «2» فسمّى اللعنة قتلا. «3» «4»
و في المجالس و تفسير العيّاشي عن النبيّ- صلى اللّه عليه و آله- قال: اشتدّ غضب اللّه على اليهود حين قالوا: عزير ابن اللّه، و اشتدّ غضب اللّه على النصارى حين قالوا: المسيح ابن اللّه، و اشتدّ غضب اللّه على من أراق دمي و آذاني في عترتي. «5»
(1). عبس (80): 17.
(2). في المصدر:+ «أنّى تؤفكون»
(3). في المصدر: «قتالا»
(4). الاحتجاج 1: 250.
(5). في الأمالي للصدوق: 159، الحديث: 1- «و اشتدّ غضب اللّه على من أراق دمي و آذاني في عترتي»؛ تفسير العيّاشي 2: 86، الحديث: 43؛ البرهان في تفسير القرآن 4: 438، الحديث: 3.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 116
قوله سبحانه: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً
تفسير العيّاشي عن الصادق- عليه السلام-: أما و اللّه «1» ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، و لو دعوهم إلى عبادة أنفسهم لما أجابوهم، و لكن أحلّوا لهم حراما و حرّموا عليهم حلالا فعبدوهم «2» من حيث لا يشعرون. «3»
أقول: و في هذا المعنى أخبار كثيرة يشتمل على أنّ من أطاع أحدا في دعوته فقد عبده، فإن دعى الداعي إلى اللّه فقد عبده، و إن دعى إلى غيره فأطاعه فقد عبد ما يدعوه إليه، و قد سمّى اللّه سبحانه الإطاعة عبادة في مواضع من كلامه، قال تعالى: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ، «4» و قال: يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ، «5» و قال: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ. «6»
قوله سبحانه: وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ
فرق بين عبادتهم المسيح و بين عبادتهم الأحبار، لكون الاولى عبادة صريحة و الثانية عبادة طاعة.
(1). في المصدر:- «أما و اللّه»؛ و في الكافي 1: 53: «أما و اللّه ما دعوهم».
(2). في المصدر: «فكانوا يعبدونهم»؛ و في الكافي 1: 53: «فعبدوهم».
(3). تفسير العيّاشي 2: 87، الحديث: 48.
(4). يس (36): 60- 61.
(5). مريم (19): 44.
(6). سبأ (34): 41.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 117
[سورة التوبة (9): الآيات 32 الى 35]
قوله سبحانه: نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ