کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 122
[سورة التوبة (9): الآيات 36 الى 37]
قوله سبحانه: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ
و هي ذو القعدة، و ذو الحجّة، و المحرّم، و رجب الفرد، و كانت العرب ترى و تعتقد حرمة هذه الأشهر الأربع، و قد تمسّكوا به من دين إبراهيم و إسماعيل، حتّى أنّ أحدهم لو ظفر على قاتل أبيه أو تمكّن من عدوّه ما بسط إليه يدا قط، و كان ذلك بينهم حتّى حدث النسيء و هو أنّهم إذا أرادوا قتالا في شهر حرام أحلّوه و حرّموا مكانه آخر غيره، و كان ذلك مختصّا بالمحرّم و صفر.
و كانا يسمّيان صفرا الأوّل و صفرا الثاني، فربما احلّ صفر الأوّل في هذه
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 123
السنّة و حرّم مكانه صفر الثاني، ثمّ حرّم في القابل صفر الأوّل و حلّ الثاني.
ثمّ إنّهم سروا هذا التغيير إلى بقيّة الشهور، حتّى رفضوا خصوص هذه الأربعة و اعتبروا فيها العدد فقط، و هو الأربعة، و ربما زادوا شهرا واحدا أو شهرين على شهور السنة، فصارت السنة ثلاثة عشر شهرا أو أربعة عشر شهرا.
و قد ذكروا أنّ أوّل ذلك حدث في كنانة، و كانوا فقراء ذوي حاجة إلى الغارة، و كان جنادة بن عوف الكناني سيّدا مطاعا في الجاهليّة، و كان يقوم على جمل أحمر في الموسم، فيقول: إنّ آلهتكم قد أحللت لكم المحرّم فأحلّوه، ثمّ ينادي في القابل: إنّ آلهتكم قد حرّمت عليكم المحرّم فحرّموه. «1»
و بالجملة كان ذلك دائرا بينهم في الجاهليّة، حتّى أثبت الإسلام المشهور اثني عشر لا تزيد و لا تنقص، كما قال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً، و أثبت الحرمة في صفر الأوّل فسمّي شهر اللّه المحرّم، ثمّ قيل المحرّم تخفيفا فسمّي به فهو من الألفاظ الإسلاميّة.
قوله سبحانه: إِنَّمَا النَّسِيءُ
و هو تأخير حرمة شهر إلى سنة اخرى غير هذه السنة، كما كانوا يؤخّرون حرمة المحرّم من سنة إلى قابل، فيحرّمون في هذه السنة صفرا، ثمّ إذا كان من قابل عادوا إلى تحريم المحرّم كما كان، أو النسيء تأخير الحرمة من شهر إلى شهر آخر كتأخيره من المحرّم إلى صفر.
و كيف كان فالنسيء فعيل بمعنى مفعول من النساء و هو التأخير و قرئ نسيّ
(1). تفسير الصافي 3: 409.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 124
بتشديد الياء.
و نسبه في المجمع إلى الصادق- عليه السلام-، «1» و في الجوامع إلى الباقر- عليه السلام-. «2»
(1). مجمع البيان 5: 44.
(2). جوامع الجامع 2: 63.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 125
[سورة التوبة (9): الآيات 38 الى 42]
قوله سبحانه: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا
و ذكر أصحاب السير و التاريخ و اشتملت عليه الروايات ما ملخّصه أنّه كان ذلك
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 126
في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوع رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله- من الطائف فإنّ الصيّافة كانوا يقدمون المدينة من الشام معهم الدرموك و الطعام، فأشاعوا بالمدينة أنّ الروم قد اجتمعوا يريدون غزو رسول اللّه في عسكر عظيم، و أنّ هرقل «1» قد سار في جنوده و جلب معهم غسّان «2» و جذام «3» و بهراء «4» و عاملة، «5» و قدم عساكره البلقاء «6» و نزل هو حمص، فتهيّأ رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله- و عزم على الخروج إلى تبوك، و كتب إلى تميم و غطفان و طيّ، و إلى من أسلم من خزاعة، و جهينة و مزينة، «7» و بعث إلى عتاب بن اسيد عامله على مكّة، يستنفرهم لغزو الروم و أمر- صلى اللّه عليه و آله- بمعسكره، فضرب في ثنيّة الوداع، و أمر أهل الجدّة و اليسار أن يعينوا من لا قوّة به، و يعدّوا من لا عدّة له و قام- صلى اللّه عليه و آله- خطيبا. «8»
و قال بعد حمد اللّه تعالى و الثناء عليه: أيّها الناس إنّ أصدق الحديث كتاب اللّه، و أولى القول «9» كلمة التقوى، و خير الملل ملّة إبراهيم، و خير السنن سنّة محمّد، و أشرف الحديث ذكر اللّه، و أحسن القصص هذا القرآن، و خير الامور عزائمها، و شرّ الامور محدثاتها، و أحسن الهدى هدى الأنبياء، و أشرف القتلى
(1). هرقل: «ملك الروم».
(2). أربع من قبائل اليمن [منه- رحمه اللّه-]. و «غسّان» اسم ماء نزل عليه قوم من الأزد.
(3). جذام: «قبيلة من اليمن نزل بجبال حسمي».
(4). بهراء: «قبيلة من قضاعة».
(5). عاملة: «حيّ من اليمن».
(6). البلقاء: «مدينة بالشام».
(7). مزينة: «قبيلة من مصر».
(8). تفسير القمي 1: 290؛ تفسير الصافي 3: 410.
(9). في الاختصاص: «و أوثق العري»
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 127
الشهداء، «1» و أعمى العمى الضلالة بعد الهدى، و خير الأعمال ما نفع، و خير الهدى ما اتّبع، و شرّ العمى عمى القلب، و اليد العليا خير من اليد السفلى، و ما قلّ و كفى خير ممّا كثر و ألهى، و شرّ المعذرة محضر الموت، و شرّ الندامة يوم القيامة.
و من الناس من لا يأتي الجمعة إلّا نزرا، و منهم من لا يذكر اللّه إلّا هجرا، و من أعظم الخطايا اللسان الكذوب، و خير الغنى غنى النفس، و خير الزاد التقوى، و رأس الحكمة مخافة اللّه، و خير ما القي في القلب اليقين و الارتياب من الكفر، و التباعد «2» من عمل الجاهليّة، و الغلول من قيح جهنّم، و السكر جمر النار، و الشعر من إبليس، و الخمر جماع الإثم، و النساء حبائل إبليس، و الشباب شعبة من الجنون.
و شرّ المكاسب كسب الرباء، و شرّ المآكل أكل مال اليتيم، و السعيد من وعظ بغيره، و الشقيّ من شقي في بطن امّه، و إنّما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع، و الأمر إلى آخره، و ملاك الأمر خواتيمه، و أربى الربا الكذب، و كلّ ما هو آت قريب، و سباب المؤمن فسوق، و قتال المؤمن كفر، و أكل لحمه من معصية اللّه و حرمة ماله كحرمة دمه.
[و من توكّل على اللّه كفاه، و من صبر ظفر]، «3» و من يعف يعف اللّه عنه، و من كظم الغيظ آجره اللّه، و من يصبر على الرزيّة يعوّضه اللّه، و من تبع السمعة يسمع اللّه به، و من يصم يضاعف اللّه له، «4» و من يعص اللّه يعذّبه [اللّه].
(1). في الاختصاص: «و أشرف القتل قتل الشهداء»
(2). في الاختصاص: «و النياحة»
(3). في الاختصاص بدل ما بين المعقوفتين: «و من يبالي على اللّه يكذبه»
(4). في الاختصاص: «و من يصم بصره»
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 128
اللهمّ اغفر لي و لامّتي، أستغفر اللّه لي و لكم. «1»
فرغّب الناس في الجهاد و حثّوا عليه، و بذلوا الأموال و أعدّوا العدّة حتّى اجتمع في معسكره- صلى اللّه عليه و آله- نحو من خمسة و عشرين ألف مجاهد غير العبيد و البنين.
و كان الوقت وقت قحط و قيظ و حرّ، و لذلك تعلّل عدّة من المنافقين فلم يخرجوا مع النبيّ- صلى اللّه عليه و آله- و بقوا في المدينة يقلّبون الامور و يكدّرون صفو الامور، و كانوا قد كثر عددهم و عظم أمرهم يومئذ حتّى آل الأمر أن همّوا برسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله- ليلة العقبة.
فخرج رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله- و خلّف مكانه أمير المؤمنين عليّا- عليه السلام-، و سار رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله- حتّى نزل الجرف، فرجع عبد اللّه بن ابيّ بغير إذن، فقال- صلى اللّه عليه و آله-: «حسبي اللّه هو الذي أيّدني بنصره و بالمؤمنين و ألّف بين قلوبهم»، فلمّا انتهى إلى الجرف. لحقه عليّ- عليه السلام- و أخذ بغرز «2» راحلته و قال: يا رسول اللّه! زعمت قريش أنّك تركتني بالمدينة استثقالا لي، فقال- صلى اللّه عليه و آله-: أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي، فقال: قد رضيت، و رجع إلى المدينة. «3»
(1). الاختصاص للمفيد: 342؛ المغاذي للواقدي 3: 1016؛ البرهان في تفسير القرآن 4: 465؛ مدينة البلاغة 1: 57، الخطبة: 22؛ و قريب منه في الامالي للصدوق: 487، المجلس: 74، الحديث: 1.
(2). الغرز، بالفتح فالسكون: ركاب الرجل من جلد فإذا كان من خشب أو حديد فهو ركاب، [منه- رحمه اللّه-]