کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 224
الذي كانوا يستعجلونه من القضاء الفصل بين النبيّ- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- و الامّة، و سيعود هذا الرّجاء وعدا محتوما في أواسط السورة عند قوله تعالى:
وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ «1» إلى تمام عشر آيات.
قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً
و إنّما كان أسرع مكرا لأنّ المكر الذي يمكرون به هو بعينه مكر من اللّه بهم و هو أقرب إليهم من أنفسهم، فمكره بهم أسرع وصولا إليهم من مكرهم في آيات اللّه تعالى، كما قال تعالى في الآية التالية: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ.
و يدلّ أيضا على ما ذكرنا جميع ما ورد في القرآن من آيات الاستدراج و نحوها.
قوله سبحانه: إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ
سيجيء معنى كتابة الملائكة للأعمال في سورة الجاثية عند قوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ «2» ، و إنّ كتابة الملائكة نفس الأعمال الخارجيّة لا رسوم مأخوذة منها نظير الكتابة المعمولة عندنا، و على هذا يستقيم كون مكر اللّه تعالى أسرع بكتابة الرسل لأعمالهم فلا تغفل.
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ
لمّا بيّن أنّ لهم مكرا في آيات اللّه سبحانه، و أنّ اللّه تعالى يقلب مكرهم إليهم،
(1). يونس (10): 46.
(2). الجاثية (45): 29.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 225
قرّر تعالى ذلك بقوله: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ، و هو نظير ما هو المعمول عندنا من بيان الحكم الكلّي ثمّ المثال بشيء من جزئيّاته، فهو بيان بوجه و تعليل بوجه، و لذلك جاء بالفصل من وصل.
و قوله تعالى: وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ
التفات من الخطاب إلى الغيبة لفائدة التعجب، فالمقام مقام من يحسن كلّ الإحسان إلى بعض المحتاجين إليه المرتزقين منه، و هو يلتجىء إليه في وقت الشدّة و ينساه في موسم الرخاء، فيخاطبه بتقرير كرامته له و خيانته إيّاه، و إعمال نفوذه، و بسط اقتداره، و إنّ غدره يعود إليه لا محالة و لا يتعدّاه إلى غيره، فيخاطبه بقصصه حتّى إذا وصل إلى أعجب محلّ من أنبائه تركه و رجع في حديثه إلى بعض السامعين فقصّه بموضع العجب من القصّة ليتعجّب من أمرهم ثمّ يعود إلى ما كان عليه من الخطاب أوّلا، فهو تعالى يخاطب هؤلاء الماكرين بقصصهم الّتي تنبيء عن ذلك، حتّى إذا بلغ موضع غفلتهم عن ربّهم، حيث لا يذكرون اللّه و لا يرقبون زوالا لنعمتهم، و افتقارا إلى منعمهم، تركهم و تحوّل في الخطاب لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- ليقضي من أمرهم العجب، و لذلك لم يقع الإلتفات من أوّل الآية بل أخّر إلى وسطها، حيث يبلغ الحديث مبلغ العجب و هو جريان الريح الطيّبة و فرحهم بها، كأنّهم قد ملكوها و انقادت لهم أسباب الأمن و السلامة.
قوله تعالى: رِيحٌ عاصِفٌ
أي شديدة الهبوب، و قوله لهم تعالى: أُحِيطَ بِهِمْ كنّى بالإحاطة عن الهلاك.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 226
قوله تعالى: لَمْ تَغْنَ
أي لم تقم على ساق.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ
السلام و الأمن متقاربا المفهوم، غير أنّ السلام معنى وجوديّ و الأمن معنى عدميّ، فإنّ كونك في أمن من الشيء أن لا يضرّك بوجه، و كونه سلاما عليك أن يلائم شأنك و يفيدك، فالسّلام يستلزم الأمن بوجه، و الإنسان و هو في الدنيا لا يواجه السلام المطلق أبدا، فإنّ هذه الأسباب الّتي تحفّ بنا و تحيط بنا من جميع الجهات لا يلائمنا إلّا شطر يسير منها، و لا نستفيد إلّا من أقلّ قليل من بينها، و إذا أخذت هذه الكلمة الّتي وصف اللّه سبحانه بها داره الّتي يدعو إليها أخذا على الحقيقة تحصّل عندك معنى دار اللّه و هي الجنّة و الزلفى.
و في المعاني عن الباقر- عليه السلام- في هذه الآية قال- عليه السلام-: إنّ السلام هو اللّه عزّ و جلّ، و داره التي خلقها لعباده و لأوليائه هو الجنّة «1» .
(1). معاني الاخبار: 176- 177، الحديث: 2، و فيه: «التي خلقها لأوليائه الجنّة».
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 227
[سورة يونس (10): الآيات 26 الى 30]
قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى
الحسنى خلاف السوأى و اللام للجنس، فإذا كان لهم جنس الحسنى من غير أن يتقيّد بعدد معيّن كالواحد بالواحد أو العشرة بالواحد دلّ على زيادة العناية في حقّهم، قد قال تعالى في غيرهم: جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها و من هنا يعلم أنّ قوله تعالى: وَ زِيادَةٌ، هو من غير جنس الحسنى المذكور، فإنّ جنس الحسنى لا يخرج منه شيء من جنسه حتّى يكون هو الزيادة و هو ظاهر، و في أمالي
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 228
الشيخ عن أمير المؤمنين- عليه السلام- فيما كتبه لمحمّد بن أبي بكر ليقرأ على أهل مصر، و فيه قال اللّه تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ فأمّا الحسنى فهي الجنّة و الزيادة هي الدنيا «1» .
أقول: و في هذا المعنى روايات اخر، و الرواية تؤيّد ما ذكرناه أنّ الزيادة من غير جنس الحسنى، و أمّا كون الإحسان و صالح العمل يهيّيء للإنسان حياة طيّبة آمنة مطمئنّة دون السيّئات فممّا لا يحتاج إلى بيان. و في نهج البيان عن عليّ بن إبراهيم، قال: قال- عليه السلام-: الزيادة هبة اللّه عزّ و جلّ «2» .
أقول: و مراده- عليه السلام- أنّه أمر وراء ما يقابل العمل و يريده الإنسان بكسبه، كما يدلّ عليه قوله تعالى: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ «3» . فإنّ ظاهره أنّ هذا المزيد غير ما يشاءونه و غير ما يمكن أن تتعلق به المشيئة، فهو من غير جنس ثواب الأعمال، و من غير سنخ ما تدركه العقول و يريده الإنسان، و سيجيء بقيّة الكلام فيه في قوله: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ «4» .
و في الصافي عن القمّي، قال: الزيادة هي النظر إلى رحمة اللّه «5» . و في المجمع عن أمير المؤمنين- عليه السلام-: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب «6» .
(1). الأمالي للطوسيّ: 24، الحديث: 30.
(2). لم نعثر عليه في نهج البيان المطبوع، و لكن نقله البحراني عنه في البرهان في تفسير القرآن 4: 21، الحديث: 5.
(3). ق (50): 35.
(4). الزمر (39): 34؛ الشورى (42): 22.
(5). تفسير الصافي 2: 400؛ تفسير القمّي 2: 326.
(6). مجمع البيان 5: 179.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 229
أقول: لعلّ معنى الروايتين راجع إلى ما رواه في نهج البيان «1» .
قوله تعالى: قَتَرٌ
القترة: غبرة لها سواد.
قوله تعالى: جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها
الجملة خبر للموصول وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جزاء سيئة واحدة منهم كائن بمثلها، أو التقدير: و الذين كسبوا السيّئات ليعلموا أنّ السيّئة الواحدة تجزي بمثلها، و اللّه أعلم.
قوله تعالى: كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ
غشيه الشيء إذا أحاط به من كلّ جانب، و في الكافي و تفسير العيّاشي، عن الصادق- عليه السلام-: أما ترى البيت إذا كان الليل كان أشدّ سوادا «2» فكذلك هم يزدادون سوادا «3» «4» .
قوله تعالى: وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً
إلى آخر الآيات الثلاث من غرر الآيات القرآنية، تبيّن حقيقة البعث على ألطف
(1). نهج البيان 3: 63.
(2). في المصدرين:+ «من خارج»
(3). في تفسير العياشي: «وجوههم تزداد سوادا»
(4). الكافي 8: 252، الحديث: 355؛ تفسير العيّاشي 2: 122، الحديث: 17؛ بحار الانوار 7: 186، الحديث: 45.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 230
بيان ممكن، و تشير إليها على أدقّ إشارة و إيماء، و هي كالشرح لإجمال قوله تعالى: الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «1» .
قوله: مَكانَكُمْ
أي: الزموا مكانكم و لا تعدوه.
و قوله تعالى: فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ
أي فرّقنا بينهم، كناية عن بطلان الروابط الدنيويّة التي زيّنها في أبصارهم و الأوهام، فيعود كلّ شيء فردا منفردا ليس معه إلّا نفسه و ما كسبته نفسه و اللّه المالك القاهر، فيقول: شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ.
و هذا الكلام معهم كلام من غير مجرى العادة، فإنّ الروابط قد تزيّلت و الأسباب قد تقطّعت، ثمّ يؤكّده أو يفسّره قوله تعالى: فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ.
و هاتان الجملتان أعني قولهم: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ، ثمّ قولهم: إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ يبيّن بأتمّ البيان أنّ عبادة المشركين لشركائهم ليس إلّا في ظرف و همهم و وعاء زعمهم، فكان النفي له و الغفلة عنه سيّين كما تشاهد في الجملتين بوضع إحداهما في جنب الاخرى، فالشركاء يقولون: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ فينفون عبادتهم، ثمّ يعطفون على ذلك بفاء التعليل قولهم: إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ فمؤدّى الجملتين بمجموعهما هو قوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ ما