کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 239
لا يعلمون «1» «2» ، ثمّ قرأ عليهم: أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ «3» و قوله: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ «4» .
قوله تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ
وعيد بالعذاب، و الآيات كما ترى مسوقة للوعيد، متدرّجة من التلويح إلى التصريح.
كقوله أوّلا: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ.
و قوله ثانيا: وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ.
و قوله ثالثا: فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ.
و قوله رابعا: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ.
و قوله خامسا: وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ «5» حتّى ينتهي إلى قوله: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ «6» إلى آخر الآية.
قوله تعالى: وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
في الكافي عن الباقر- عليه السلام-: إنّ اللّه الحليم العليم إنّما غضبه على من لم يقبل منه رضاه، و إنّما يمنع من لم يقبل منه عطاه، و إنّما يضلّ من لم يقبل منه هداه «7» .
(1). في الكافي: «أن لا يقولوا حتّى يعلموا و لا يردّوا ما لم يعلموا»
(2). في تفسير العياشي: «ألا يقولوا»
(3). الأعراف (7): 169.
(4). الكافي 1: 43، الحديث: 8؛ مجمع البيان 5: 190؛ تفسير العيّاشي 2: 123، الحديث: 22.
(5). يونس (10): 46.
(6). يونس (10): 47.
(7). الكافي 8: 52، الحديث: 16، رسالة أبي جعفر (ع) إلى سعد الخير.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 240
أقول: و هذه استفادة لطيفة من الآية فإنّ هذه- الآية- أعني قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ واقعة في خلال آيات العذاب الّتي توعد هذه الأمّة بإرسال العذاب، و إنفاذ القضاء الفصل بين النبيّ- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- و بينهم، و فيها استئصالهم بالانقطاع عن الحياة الدنيويّة و مزايا نعمها، و هلاك أرواحهم بإضلال اللّه- سبحانه- إيّاهم عن صراط الهداية و سبيل الفلاح، فلمّا نفى- سبحانه- عن نفسه في هذا المقام أنّه لا يظلم الناس شيئا، دلّ ذلك على أنّ حرمان الشخص من الإنسان أو أمّة من الأمم الإنسانيّة عن شيء من النعم الظاهرة الجسمانيّة أو الباطنة الروحيّة لا يستند إليه تعالى، بل إنّما يستند إلى نفسه كما مرّ بيانه في قوله تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ «1» .
و تحصّلت من هاهنا قاعدة كلية و هي أنّ اللّه سبحانه لا يفيض عنه إلّا الخير، و أمّا الشّر كائنا ما كان فهو لقصور المستفيض القابل، و ردّه و عدم قبوله لعوائد الفضل و رشحات الجود.
فإن قلت: الأمر لا يتمّ بما ذكرت فما المانع من أن نقول: إنّ اللّه يفيض خيرا و شرا و رضا و غضبا و هداية و إضلالا لكنّه يخصّ كلّا من الخير و الشرّ بواحد من الفريقين فيرسل الخير و الرضا و الهداية بأهل الصلاح، و الشر و السخط و الإضلال بأهل الفسوق و الفساد.
قلت: يأبى عن ذلك ظاهر الآية فإنّها تدلّ على أنّ أمثال هذه البلاياء و النقمات ظلم، غير أنّها لا تستند إليه تعالى بل إلى أنفسهم، فهم يعملون أعمالا
(1). النساء (4): 79.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 241
تنتج ما يستقبلهم من المحن و الخسرانات فلا يقبلون فلاحا و لا هداية، و يسمى ذلك منهم بالمنع الإلهي و الاضلال الإلهي، و بالجملة بالغضب و السخط الإلهي فتدبّر.
فإن قلت: هب إنّ الأمر في الفرد من الإنسان كذلك، فما معنى ذلك في الأمّة و القوم، و ليس الأمّة إلّا الأفراد، فالمواجهة مع الأمم في هذه الأمور مجاز من غير حقيقة.
قلت: سيتبيّن أنّ الأمر ليس كذلك.
قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً
سيجيء الكلام في معنى الآية في آخر السورة.
*
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 242
[سورة يونس (10): الآيات 46 الى 56]
هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 243
قوله: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ
أنت إذا تصفّحت أحوال الإنسان، و تأمّلت و أجلت الفكر إجالة جيّدة في هذا النوع، و كذلك سائر الأنواع في هذا العالم الطبيعي، وجدت كلّ فرد من أفراده ذا خواصّ و آثار و أحوال تكوينيّة و غير تكوينيّة و هو ظاهر، و إذا تعّديت الفرد إلى الشعب و القبائل، و بالجملة إلى الاجتماعات القوميّة، و خاصّة الوحدات النسليّة و النسبيّة، وجدت كلّ جامعة قوميّة كالجسم الفردي ذات خواصّ و آثار مختصّة بها متميّزة عن غيرها، و هي مبادىء أخلاق و آداب و رسوم لا تتجاوزها إلى غيرها.
و لا ننسى مع ذلك أنّ للجهات الطبيعيّة من القطر و المحيط تأثيرا في ذلك، و أنّ الأمر في جميع ذلك يدور على الغالب لا الدائم، فالأحكام الغالبة في الاجتماعيات كليّات البتّة.
فهذه أمّة الصين، و هذه أمّة الهند، و هذه [أمّة] العرب، و هذه أمّة العجم، و هذه أمم الغرب تصدّق بوجودها ما ذكرناه، و ليست هذه الخصائص التكوينيّة في كلّ أمّة إلّا مستندة إلى وحدة حقيقيّة خارجيّة، و طبيعة موجودة سارية في الأفراد هي المبدأ و هي السبب لتلك الخصائص الخلقيّة و الخلقيّة، و الآثار الجسميّة و الروحيّة، و كذلك الحكم في الشعب الصغيرة المنشعبة من الأمم الكبار، كالقبائل و البطون و الأحياء حتّى ينتهي الأمر إلى الفرد، و لازم ذلك أن يكون لكلّ اجتماع هويّة ذات آثار و أحكام، نظير الفرد في كونه ذا هويّة صاحبة آثار و أحكام. نعم هذه الأحكام و الآثار يتقدّر في كلّ منهما على حسب ما يناسبه و يقتضيه.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 244
و عند ذلك ربّما يختلف الحكمان- أعني حكم الفرد و حكم الاجتماع- فترى وصفا في الفرد ممدوحا بقياسه إليه، مذموما بالقياس إلى النوع و الأمّة أو بالعكس، أو تجد الفرد مستحق الخير لسعادة في نفسه و الأمّة لا تستحقه و بالعكس، و هذه حقيقة ثابتة لا ينبغي الإرتياب فيها، و لا يزال الإنسان يزيد اعترافا بهذه الحقيقة حينا بعد حين و عصرا بعد عصر.
ثمّ إنّك إذا تدبّرت كلامه تعالى وجدته يؤيد هذه الحقيقة، و يعتني بشأنه اعتناء بالغا، فكما أنّه بيّن للفرد صلاحه و فساده و ما يتبعهما من سعادة و شقاء، ثمّ جمع ذلك كلّه في مثل قوله: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «1» . و قوله: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ «2» و قوله: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى «3» ، كذلك بيّن أنّ لكلّ أمّة موتا و حياة، و سعادة و شقاء، و أجلا و كتابا، و صلاحا و فسادا إلى آخر الأحكام الفرديّة.
فقال تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ و قال تعالى: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ «4» و قال تعالى: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا «5» و قال تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ «6» و قال تعالى: وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ «7» و قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ
(1). الأنعام (6): 164.
(2). المدّثّر (74): 38.
(3). النجم (53): 39.
(4). الرعد (13): 38.
(5). الجاثية (45): 28.
(6). الاسراء (17): 71.
(7). الرعد (13): 7.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 245
مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً «1» و قال تعالى: وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ «2» و قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ «3» .
و في القرآن آيات كثيرة في ذلك، و من هذا القبيل قوله تعالى: وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً «4» و قوله تعالى: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «5» .
و يستنتج من هذا أنّ لكلّ أمّة حياة دنيويّة مؤجّلة ربّما سعدت في آخرها بما أسلفته في أوّلها، و ربّما شقيت بما كسبته في حين من أحيان عمرها، و يوم من أيّام حياتها حينا آخرا و يوما آخر، قال تعالى: وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ «6» ، كما أنّ الفرد من الإنسان يجني في شيبه ما قد غرسه في شبابه، و يحصد يوما ما قد زرعه يوما.
و بالجملة فهذا حكم جار في الفرد و الأمّة على حدّ سواء، و إن كان هناك بعض الفروق و المميّزات بحسب ما يليق بموضوع الحكم، كما أنّ وصف الفرد وصف نفسه، و وصف الأمّة وصف الشايع الغالب من أفراده، و كما أنّ الفرد ربّما لم يتّصف بوصفين متقابلين كالسعادة و الشقاء و المدح و الذم، و الأمّة قد تتّصف
(1). الاسراء (17): 58.
(2). هود (11): 102.
(3). الأعراف (7): 96.
(4). النساء (4): 9.
(5). الشورى (42): 30.