کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 276
و شاء أن يكون، و قد رفع بذلك المانع العامّ عن المورد، و بقي الباقي تحت المنع الإلهيّ العام، و حينئذ فكلّ إيمان فإنّما هو بإذن من اللّه- سبحانه- يرفع به المانع عن إيمان المؤمن، و أمّا المشرك فقد بقي تحت حكومة المنع الإلهيّ.
و من الآية يتبيّن أنّ الشرك أمر عدمي لا يتوقّف على إرادة من اللّه- سبحانه-، و إنّما يتوقّف على عدم إرادة الإيمان، و على عدم الإذن فقط، و بهذا المعني ينتسب إليه تعالى، و على هذا النحو الضلال و الكفر، و الفسوق و سائر ما يقابل السعادات العامّة و الخاصّة، و قد مرّت إشارات متفرّقة إليه فيما مرّ مرارا.
و من هاهنا يظهر أيضا أنّ المراد بجعل الرجس في قوله: وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ، وضع الشرك في قلوبهم، و قد عرفت أنّ معنى وضع الشرك عدم وضع الإيمان الذي هو طهارة.
في العيون عن الرضا- عليه السلام-: إنّه سأله المأمون عن الآية فقال:
حدثني أبي عن آبائي، عن أمير المؤمنين- عليهم السلام- قال: إنّ المسلمين قالوا لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-: لو أكرهت يا رسول اللّه من قدرت عليه من الناس على الإسلام لكثر عددنا و قوتنا على عدوّنا، فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-: ما كنت لألقي اللّه [عزّ و جلّ] ببدعة لم يحدث إليّ فيها شيئا، و ما أنا من المتكلّفين، فأنزل اللّه تعالى عليه: يا محمّد: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً على سبيل الإلجاء و الإضطرار في الدنيا، كما يؤمن «1» عند المعاينة و رؤية البأس في الآخرة، و لو فعلت ذلك بهم لم يستحقوا منّي ثوابا و لا مدحا، و لكنّي أريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير
(1). في بعض نسخه: «يؤمنون» [منه- رحمه اللّه-].
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 277
مضطرّين، ليستحقوا منّي الزلفى و الكرامة، و دوام الخلود في جنّة الخلد:
أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، و أمّا قوله [تعالى]: وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فليس ذلك على سبيل تحريم الإيمان عليها، و لكن على معنى أنّها ما كانت لتؤمن إلّا بإذن اللّه، و إذنه أمره لها بالإيمان ما كانت متكلّفة «1» متعبّدة، و إلجاؤه «2» إياهّا إلى الإيمان عند زوال التكليف و التعبّد عنها، فقال المأمون: فرّجت عنّي [يا ابا الحسن] فرّج اللّه عنك «3» .
أقول: صدر الحديث يوجب أن تكون الآية ذات شأن في النزول مستقلّ، و إنّها ليست تتمّة للآيات السابقة و إن ارتبطت بها بعض الارتباط، و أمّا قوله في ذيله «فليس ذلك على سبيل تحريم الإيمان عليها»، مراده- عليه السلام- ما ذكرناه أنّ أحدا من الناس لا يقدر على إيمان و على شيء آخر من أسباب السعادة من نفسه إلّا بإفاضة من اللّه- سبحانه-، فمن آمن فإنّما يؤمن بإذن اللّه- سبحانه-، و من لم يؤمن فإنّما ذلك لأنّ اللّه- سبحانه- لم يأذن في ذلك، فبقي الأمر على فقده و عدمه الأصلي.
و أمّا قوله- سبحانه-: بِإِذْنِ أمره لها بالإيمان، ليس المراد به أنّ الإذن مقصور على مرتبة الأمر التشريعي، و التكليف من غير تأثير منه تعالى في مرحلة الأفعال أصلا على ما يراه المعتزلة، فإنّ ظاهر قوله: وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، إنّ الإذن يختصّ به المؤمن في إيمانه، و ليس للمشرك فيه حظّ، مع أنّ الإذن بمعنى التكليف لا يختصّ بالمؤمن، و كذا ظاهر قوله:
(1). في المصدر: «مكلّفة»
(2). في المصدر: «ألجأه»
(3). عيون أخبار الرضا (ع) 1: 135- 136، الحديث: 33.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 278
وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ بل المراد أنّ الإذن بمعنى الأمر بالإيمان كاشف عن إفاضة إلهيّة أراد سبحانه إيصالها إلى عباده، فأمر أمرا تكليفيّا عامّا في مرحلة ظاهر التشريع، و خاصّا بحسب خصوص الإفاضة الإلهيّة و الرحمة الخاصّة، و إنّما ذكر- عليه السلام- ما يوهم مسلك المعتزلة، لأنّ السائل من أركان الإعتزال.
قوله سبحانه: وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ
تعقيب لما جرت عليه آيات السورة أنّ الكلمة حقّت عليهم أنّهم لا يؤمنون، و أنّ العذاب و المؤاخذة واقع عليهم لا محالة، و على ذلك يجري أيضا قوله تعالى:
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ يعني أيّام العذاب:
فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ «1»
ثمّ استدرك أنّ العذاب إنّما ينزل بساحة المشركين بقوله: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ.
(1). الأعراف (7): 71.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 279
[سورة يونس (10): الآيات 104 الى 109]
وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ اصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)
قوله سبحانه: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ
ختم ما قدّمه من البيان و عرّفه من السنّة الإلهيّة، و هي الحكم بحياة الإنسان في الدنيا إلى حين، و إرسال الرسل، و استكبار الناس من الإيمان، و القضاء الفاصل بينهم و بين الرسل بكلمتين، أمران يبلغهما رسول اللّه- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- إليهم:
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 280
إحداهما: أنّه موحّد غير مشرك.
و الثاني: إنّ ما جاء به حقّ من عند اللّه- سبحانه-، و لهم الخيرة إن اختاروا الإيمان فلهم، و إن اختاروا الكفر فعليهم، و هما قوله سبحانه: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآيات و قوله- سبحانه-: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ.
قوله- سبحانه-: وَ لكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ
وصف المعبود تعالى بالتوفّي لأنّ المقام مقام الإيعاد و التهديد.
قوله- سبحانه-: وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ
لما كان معنى: أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قيل لي أن كن من المؤمنين صحّ أن يعطف عليه قوله: وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ بحسب المعنى، و قد جمع في الآيتين بين التوحيد بحسب الإعتقاد، و التوحيد بحسب الأفعال، فقوله: أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ راجع إلى التوحيد بحسب الإعتقاد، و هو الإيمان بأنّ اللّه واحد لا شريك له، و قوله: وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً راجع إلى التوحيد في مقام الطاعات و التقرّبات، و قوله- سبحانه-: وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ، راجع إلى التوحيد فيما يستقبل الإنسان من الحوادث بحسب الحياة الدنيا، فيطمع في شيء و يخاف شيئا، و يرغب في شيء، و يلتجيء إلى شيء.
و بالجملة فمحصّل الآيات: التوحيد في الاعتقاد، و التوحيد في الأخلاق، و التوحيد في الأفعال و الأعمال.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 281
و من هنا يظهر وجه تغيير السّياق في قوله تعالى: أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً.
قوله- سبحانه-: إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ
هذا بمنزلة البيان لقوله تعالى: وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ، و هو من شواهد ما ذكرناه أنّ قوله: وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، راجع إلى النهي عن الالتجاء إلى الأسباب من دون اللّه تعالى.
قوله- سبحانه-: وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ
تتمة للأمرين السابقين بقوله: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ و قوله: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ، و عطف للكلام إلى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-، فقد كان الخطابان أعني قوله: قُلْ و قُلْ تلخيصا لمعاني آيات السورة، و هذا الخطاب أعني قوله: وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ تلخيص لمعنى ذينك الخطابين فيما يرجع إلى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- و هذا نظير قول القائل منّا لرسول يرسله إلى قوم في تكاليف يعود إلى المرسل و المرسل إليهم، حيث يقول: قل لهم: أمرني فلان أن أعمل كذا و كذا و ابلّغه إليكم ليعملوا به، ثمّ يقول للرسول: و اعمل بما تبلّغه إليهم.
و على هذا فالمراد بقوله: وَ اصْبِرْ الاستقامة في جميع اصول التوحيد و فروعه، و الثبات على توحيد اللّه- سبحانه-، و إقامة الوجه للدين الحنيف، و تحمّل الأذى في جنب اللّه تعالى حتّى يحكم اللّه.
و من ما مرّ يظهر وجه عطف قوله: وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ بالواو دون الفاء
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج5، ص: 282
مع ظهور الترتّب، و ذلك لما عرفت أنّه تتمة للكلام السابق، و إرجاع معناه إلى رسول اللّه [- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-]، و ليس من قبيل النتيجة المأخوذة.
و في قوله: حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ
تكرار للوعيد و الوعد السابق، و إرجاع آخر الكلام إلى أوّله و اللّه العالم.