کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج6، ص: 67
و المعلوليّة، لا يرضي فطرة إلّا أن يثبت لموجودات هذا العالم علّة توجبها، فربّما رأى أنّ الموجودات تنقسم إلى أنواع مختلفة غير متماثلة، فيظنّ فيما يثبت أنّ لكلّ نوع منها ربّا، فيأخذ بعبادة ما يستعظمه منها، كما أنّه منشأ عبادة الأصنام، غير أنّ الفطرة الصافية تكذّب ذلك، فإنّ العالم على تشتّت أجزائه، و تفرّق موجوداته؛ بقياس بعضها إلى بعض يندرج تحت نظام واحد كلّي، تركّب على مادّة واحدة، و العلّة التي يستند إليه العالم يجب أن لا تتأثر عن شيء دونه، و لا تكون مغلوبة مقهورة عن بعض أجزائه، و كلّ ربّ من الأرباب المتفرقة التي أثبتوها إنّما يغلب و يقهر ما هو تحت سيطرة ربوبيّته، و أمّا ما دون ذلك فهو مقهور له منفعل عنه، فله- لا محالة- علّة فوقه، فالعلّية المطلقة لا تصلح إلّا لعلّة واحدة قاهرة لكلّ شيء دونها، و هو اللّه الواحد القهّار، فما ذكره- عليه السلام- بقوله:
أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ برهان تامّ، و إنّما وصف الأرباب بالتفرّق، و وصف اللّه- سبحانه- بالقهر، و جمع الأرباب و وحّد اللّه- سبحانه-؛ للإشارة إلى وجود منافات بين الربوبيّة و بين التعدّد، و ذلك للزوم المقهوريّة على ذلك الفرض.
قوله سبحانه: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً
إذ ليس لها سلطان على شيء من أنفسها و ما أنزل اللّه سبحانه لها مِنْ سُلْطانٍ فلم يبق لكم من معبود إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها فقط، فلا حقيقة لها إلّا في الوهم فقط.
قوله سبحانه: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ
لأنّه- سبحانه- ينتهي إليه وجود كلّ شيء، فلو كان في العالم حكم فهو له، و من
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج6، ص: 68
حكمه في العبادة أنّه أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ إمّا تكوينا، فأمره الفطري الذي أودعه في فطرة الناس، و إمّا تشريعا، فبلسان أنبيائه و رسله.
قوله سبحانه: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
و القيّم: هو القائم بالأمر الغير المزايل عن تدّبيره، و على هذا فالقيّم من الدين:
هو الذي لا يناقض بعض أجزائه بعضا لرجوع الجميع إلى أصل واحد غير مختلف كالتوحيد، و لا يناقض المجموع ما عليه حقيقة الأمر لاتّكائه على الفطرة التي فطر اللّه الخلق عليها، و الفطرة متّكأة على حقيقة الخلقة و عين الخارج و لا معنى للخبط و الخطاء فيها، فقد جمع الدين كلّه في كلمة واحدة و هو قوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ فللعالم إلها لا يجوز أن يدان و يخضع الّا بما حكم به، و لكن أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك لإخلادهم إلى الأرض و توغّلهم في مشتهيات الحياة الدنيا، قال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا* ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ. «1»
و قال تعالى: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً. «2»
فهؤلاء من جملة الناس عالمون و غير عالمين، عالمون بفطرتهم و جاهلون بإعراضهم عنها و اشتغالهم بما لا يدوم لهم و لا ينفعهم.
قوله سبحانه: أَمَّا أَحَدُكُما
و هو الذي رأى أنّه يعصر خمرا بقرينة قوله تعالى: فَيَسْقِي. و كذلك الآخر
(1). النجم (53): 29- 30.
(2). الجاثية (45): 23.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج6، ص: 69
هو الآخر بقرينة الْآخَرُ.
قوله سبحانه: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي
قيل: لمّا قال يوسف- عليه السلام- للآخر: أنت يقتلك الملك و يصلبك و تأكل الطير من دماغك، جحد الرجل، فقال: إنّي لم أر ذلك، فقال يوسف: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ.
أقول: و هو وجيه؛ لدلالة قوله: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ على سبق إنكار ما، و الفتوى و الفتيا: القول عن نظر و رأي.
قوله سبحانه: فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ
الضمير راجع إلى صاحب السقي الذي ظنّ أنّه ناج منهما، و الدليل على ذلك قوله تعالى بعد عدّة آيات: وَ قالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ. «1»
و في بعض الروايات ما يدلّ على أنّ الناسي ذكر ربّه هو يوسف، و هو مردود بتصريحه- سبحانه-: أنّ يوسف من المخلصين، و أنّ الشيطان لا سبيل له إلى المخلصين.
قوله سبحانه: بِضْعَ سِنِينَ
البضع من كنايات العدد، يطلق على ما بين الثلث إلى السبع، و في تفسير العياشي عن الصادق- عليه السلام- قال: سبع سنين. «2»
(1). يوسف (12): 45.
(2). تفسير العياشي 2: 178، الحديث: 30؛ بحار الأنوار 12: 303، الحديث: 105.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج6، ص: 70
[سورة يوسف (12): الآيات 43 الى 57]
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج6، ص: 71
قوله سبحانه: سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ «1»
قوله سبحانه: وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ
في تفسيري العياشي و المجمع: عن الصادق- عليه السلام- أنّه قرء و سبع سنابل. «2»
قوله سبحانه: أَضْغاثُ أَحْلامٍ
خبر مبتدأ محذوف، أي هذه أضغاث أحلام، و الأضغاث؛ جمع: ضغث- بالكسر فالسكون- و هو ما جمع من أخلاط النبات و حزم.
و الأحلام؛ جمع: حلم؛ بمعنى الرؤيا و ربّما خصّ بالرؤيا الباطلة، و لعلّه المراد باللفظ هاهنا بدليل قوله تعالى: وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ.
و إن كان المراد مطلق الرؤيا فاللام للعهد الذكري، أي و ما نحن بتأويل هذا النوع من الأحلام،- و هو أضغاث الأحلام- بعالمين.
(1). في الأصل بياض.
(2). تفسير العياشي 2: 179؛ مجمع البيان 5: 406.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج6، ص: 72
و بالجملة؛ المراد بأضغاث الأحلام الرؤيا المشوّشة التي اجتمعت أجزائها من جهات شتّى من غير ارتباط صحيح بينها حتّى يمكن للمعبّر الانتقال إلى تأويله.
قوله سبحانه: وَ قالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما
أي من صاحبي السجن و هو ساقي الملك، و قوله: وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أي تذكّر ما كان نسيه من مقالة يوسف في السجن، بعد أمّة من الزمان، و الأمّة: هي الجماعة، و الزمان: المراد الزمان الطويل.
و في تفسير القمّي: عن عليّ- عليه السلام- بَعْدَ أُمَّةٍ أي: بعد وقت، و قوله تعالى: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ، أي إلى من عنده علم بتأويله. «1»
قوله سبحانه: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ
حكاية القول: أي فأرسلوه إلى يوسف، فأتاه فقال: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ.
و قوله سبحانه: لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ
يدلّ على انتشار خبر الرؤيا بين الناس، و انتظارهم لانكشاف تأويله.
قوله سبحانه: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً
أي على عادتكم المعهودة، أو جدّا و جهدا، و إنّما ذكر- عليه السلام- ما يجب أن يفعلوه عقيب هذه الرؤيا، لدفع ما يستقبلهم من مصائب القحط و الجدب، ليعلم الملك مكانته من الرأي السديد، و يعلم ضمنا تأويل الرؤيا، فيخرجه من
(1). تفسير القمّي 1: 374؛ و قريب منه في مجمع البيان 5: 410.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج6، ص: 73
السجن ليستفيد من ثاقب نظره، و ينتفع من سديد رأيه في تدبير الملك.
قوله سبحانه: ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ
في تفسير المجمع: عن الصادق- عليه السلام- إنّه قرأ ما قرّبتم لهنّ. «1»
و في تفسير القمّي: عنه- عليه السلام-: إنّه أنزل ما قرّبتم لهنّ. «2»
قوله سبحانه: فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ
من الغيث بمعنى المطر، أي يمطرون و يتخلّصون من الجدب.
و قوله سبحانه: وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ
بالبناء للفاعل، أي: يعصرون، ما يعصر من الثمار و الحبوب و الزروع، و بالبناء للمفعول من عصره إذا أنجاه، أي: ينجون، أو بمعنى يمطرون.
و في تفسير القمّي: عن الصادق- عليه السلام-: إنّه قرأ رجل على أمير المؤمنين- عليه السلام- ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ، يعني بالبناء للفاعل، فقال- عليه السلام-: ويحك و أيّ شيء يعصرون، يعصرون الخمر؟ قال الرجل: يا أمير المؤمنين كيف أقرؤها؟ فقال، إنّما أنزلت: عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ، أي يمطرون بعد المجاعة، و الدليل على ذلك قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً «3» . «4»
(1). مجمع البيان 1: 406.
(2). تفسير القمّي 1: 374.
(3). النبأ (78): 14.