کتابخانه تفاسیر
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 20
في أول كل سورة، قال أبو بكر بن أبي داود: يعني حيث يقرأ في الصلاة، قال: و اكتفيت بحفظ المسلمين لها عن كتابتها و قد قيل: إن الفاتحة أول شيء أنزل من القرآن كما ورد في حديث رواه البيهقي في دلائل النبوة و نقله الباقلاني أحد أقوال ثلاثة و قيل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ كما في حديث جابر في الصحيح و قيل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ و هذ هو الصحيح كما سيأتي تقريره في موضعه و اللّه المستعان.
ذكر ما ورد في فضل الفاتحة
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللّه تعالى في مسنده «1» حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى رضي اللّه عنه قال:
كنت أصلي فدعاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فلم أجبه حتى صليت، قال: فأتيته فقال: «ما منعك أن تأتيني»؟ قال: قلت: يا رسول اللّه إني كنت أصلي قال: ألم يقل اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24] ثم قال: «لأعلمنك «2» أعظم سورة في القرآن قيل أن تخرج من المسجد» قال: فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت:
يا رسول اللّه إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قال: «نعم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هي السبع المثاني و القرآن العظيم الذي أوتيته» و هكذا رواه البخاري عن مسدد و علي بن المديني، كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان به، و رواه في موضع آخر من التفسير، و أبو داوود و النسائي و ابن ماجة من طرق عن شعبة به، و رواه الواقدي عن محمد بن معاذ الأنصاري عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى عن أبيّ بن كعب فذكر نحوه. و قد وقع في الموطأ «3» للإمام مالك بن أنس رحمه اللّه ما ينبغي التنبيه عليه فإنه رواه مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي: أن أبا سعيد مولى عامر بن كريز أخبرهم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم نادى أبي بن كعب و هو يصلي في المسجد فلما فرغ من صلاته لحقه قال فوضع النبي صلّى اللّه عليه و سلم يده على يدي و هو يريد أن يخرج من باب المسجد ثم قال صلّى اللّه عليه و سلم: «إني لأرجو أن لا تخرج من باب المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة و لا في الإنجيل و لا في القرآن مثلها» قال أبي رضي اللّه عنه: فجعلت أبطئ في المشي رجاء ذلك ثم قلت: يا رسول اللّه ما السورة التي وعدتني؟ قال: «كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال: فقرأت عليه الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حتى أتيت على آخرها، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «هي هذه السورة و هي السبع المثاني و القرآن العظيم الذي أعطيت» فأبو سعيد هذا ليس بأبي سعيد بن المعلى كما اعتقده ابن الأثير في
(1) المسند ج 5 ص 334.
(2) المراد: لأعلمنك من أمرها ما لم تكن تعلمه قبل ذلك، و إلا فقد كان عالما بالسورة و حافظا لها.
(3) الموطأ، كتاب الصلاة، حديث 37 (باب ما جاء في أم القرآن)
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 21
جامع الأصول و من تبعه فإن ابن المعلى صحابي أنصاري و هذا تابعي من موالي خزاعة، و ذاك الحديث متصل صحيح، و هذا ظاهره منقطع إن لم يكن سمعه أبو سعيد هذا من أبي بن كعب، فإن كان قد سمعه منه فهو على شرط مسلم و اللّه أعلم. على أنه قد روي عن أبي بن كعب من غير وجه كما قال الإمام أحمد «1» : حدثنا عفان حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم على أبيّ بن كعب، و هو يصلي فقال: يا أبيّ، فالتفت ثم لم يجبه، ثم قال: أبيّ، فخفف «2» أبيّ ثم انصرف إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقال: السلام عليك أي رسول اللّه قال: و عليك السلام ما منعك أي أبيّ إذ دعوتك أن تجيبني، قال: أي رسول اللّه إني كنت في الصلاة قال: أ و لست تجد فيما أوحى اللّه تعالى إلي [أن] «3» اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ قال: بلى يا رسول اللّه لا أعود قال أ تحب أن أعلمك سورة لم ينزل لا في التوراة و لا في الإنجيل و لا في الزبور و لا في الفرقان مثلها؟ قلت: نعم أي رسول اللّه، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: إني لأرجو أن لا أخرج من هذا الباب حتى تعلمها، قال: فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بيدي يحدثني و أنا أتبطأ مخافة أن يبلغ قبل أن يقضي الحديث، فلما دنونا من الباب قلت: أي رسول اللّه ما السورة التي وعدتني؟ قال:
ما تقرأ في الصلاة «4» ؟ قال: فقرأت عليه أم القرآن قال: و الذي نفسي بيده ما أنزل اللّه في التوراة و لا في الإنجيل و لا في الزبور و لا في الفرقان مثلها إنها السبع المثاني «5» . و رواه الترمذي عن قتيبة عن الدراوردي عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه فذكره و عنده: إنها من السبع المثاني و القرآن العظيم الذي أعطيته ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، و في الباب عن أنس بن مالك، و رواه عبد اللّه ابن الإمام أحمد عن إسماعيل بن أبي معمر عن أبي أسامة عن عبد الحميد بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب، فذكره مطولا بنحوه أو قريبا منه. و قد رواه الترمذي و النسائي جميعا عن أبي عمار حسين بن حريث عن الفضل بن موسى عن عبد الحميد بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: ما أنزل اللّه في التوراة و لا في الإنجيل مثل أم القرآن، و هي السبع المثاني و هي مقسومة بيني و بين عبدي. هذا لفظ النسائي، و قال الترمذي: حديث حسن غريب.
و قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا هاشم يعني ابن البريد، حدثنا عبد اللّه بن محمد بن عقيل عن ابن جابر قال: انتهيت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و قد أهراق «6» الماء فقلت: السلام
(1) المسند ج 3 ص 387.
(2) عبارة المسند: «ثم صلّى أبيّ فخفّف» في موضع «ثم قال: أبيّ، فخفّف».
(3) زيادة من المسند.
(4) عبارة المسند: «فكيف تقرأ في الصلاة»؟.
(5) عبارة المسند: «و إنها للسّبع من المثاني».
(6) أهراق يهريق إهراقة الماء: أراقه.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 22
عليك يا رسول اللّه فلم يرد علي، قال فقلت: السلام عليك يا رسول اللّه فلم يرد علي، قال:
فقلت: السلام عليك يا رسول اللّه فلم يرد علي، قال: فانطلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يمشي و أنا خلفه حتى دخل رحله «1» و دخلت أنا المسجد فجلست كئيبا حزينا فخرج عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و قد تطهر فقال: عليك السلام و رحمة اللّه و عليك السلام و رحمة اللّه و عليك السلام و رحمة اللّه ثم قال:
«ألا أخبرك يا عبد اللّه بن جابر بأخير سورة في القرآن» قلت: بلى يا رسول اللّه، قال «اقرأ الحمد للّه رب العالمين حتى تختمها «2» » هذا إسناد جيد، و ابن عقيل هذا يحتج به الأئمة الكبار و عبد اللّه بن جابر هذا الصحابي ذكر ابن الجوزي أنه هو العبدي و اللّه أعلم، و يقال إنه عبد اللّه بن جابر الأنصاري البياضي فيما ذكره الحافظ ابن عساكر. و استدلوا بهذا الحديث و أمثاله على تفاضل بعض الآيات و السور على بعض كما هو المحكي عن كثير من العلماء، منهم إسحاق بن راهويه و أبو بكر بن العربي و ابن الحفار من المالكية، و ذهبت طائفة أخرى إلى أنه لا تفاضل في ذلك لأن الجميع كلام اللّه، و لئلا يوهم التفضيل نقص المفضل عليه، و إن كان الجميع فاضلا، نقله القرطبي عن الأشعري و أبي بكر الباقلاني و أبي حاتم بن حيان البستي و يحيى بن يحيى و رواية عن الإمام مالك.
حديث آخر: قال البخاري في فضائل القرآن: حدثنا محمد بن المثنى، و حدثنا وهب حدثنا هشام عن محمد عن معبد عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا في مسير لنا، فنزلنا فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحي سليم «3» و إن نفرنا غيّب فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه «4» برقية فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة و سقانا لبنا. فلما رجع قلنا له: أ كنت تحسن رقية أو كنت ترقي؟ فقال: لا ما رقيت إلا بأم الكتاب قلنا: لا تحدثوا شيئا حتى نأتي أو نسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلّى اللّه عليه و سلم فقال: «و ما كان يدريه أنها رقية اقسموا و اضربوا لي بسهم» و قال أبو معمر: حدثنا عبد الوارث، حدثنا هشام، حدثنا محمد بن سيرين حدثني معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري بهذا، و هكذا رواه مسلم و أبو داود من رواية هشام و هو ابن حسان عن ابن سيرين به و في بعض روايات مسلم لهذا الحديث أن أبا سعيد الخدري هو الذي رقى ذلك السليم يعني اللديغ يسمونه بذلك تفاؤلا.
(1) الرّحل: مركب للبعير و الناقة، و هو من مراكب الرجال دون النساء. و يعبّر به عما يستصحبه الراكب و عما جلس عليه في المنزل، و عن المنزل نفسه، و عن مسكن الرجل.
(2) المسند ج 6 ص 187.
(3) السليم: الملدوغ (على التفاؤل). و هو أيضا الجريح المشفي على الهلكة. و النّفر: رهط الإنسان و عشيرته، و الجماعة الذين ينفرون في الأمر.
(4) أبنه: عابه، و اتّهمه. و المراد: ما كنا نعلم أنه يرقي فنعيبه بذلك، باعتبار أن توسّل الرّمى مما يعاب عليه الإنسان المسلم.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 23
حديث آخر: روى مسلم «1» في صحيحه و النسائي «2» في سننه من حديث أبي الأحوص سلام بن سليم عن عمار بن رزيق عن عبد اللّه بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و عنده جبرائيل، إذ سمع نقيضا «3» فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك فأتى النبي صلّى اللّه عليه و سلم فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب و خواتيم سورة البقرة لن تقرأ حرفا منهما إلا أوتيته، و هذا لفظ النسائي.
و لمسلم نحوه حديث آخر، قال مسلم «4» : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي (هو ابن راهويه) حدثنا سفيان بن عيينة عن العلاء، (يعني ابن عبد الرحمن بن يعقوب الخرقي) عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها أم القرآن فهي خداج «5» » ثلاثا غير تمام. فقيل لأبي هريرة: إنا نكون خلف الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: قال اللّه عز و جل: «قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين و لعبدي ما سأل، فإذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال اللّه: حمدني عبدي، و إذا قال الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال اللّه: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال اللّه: مجدني عبدي، و قال مرة: فوض إلي عبدي، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال: هذا بيني و بين عبدي و لعبدي ما سأل، فإذا قال اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ قال اللّه: هذا لعبدي و لعبدي ما سأل». و هكذا رواه النسائي عن إسحاق بن راهويه و قد روياه أيضا عن قتيبة عن مالك عن العلاء، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة به، و في هذا السياق «فنصفها لي و نصفها لعبدي، و لعبدي ما سأل» و كذا.
رواه ابن إسحاق عن العلاء و قد رواه مسلم من حديث ابن جريج عن العلاء عن أبي السائب هكذا. و رواه أيضا من حديث ابن أبي أويس عن العلاء عن أبيه و أبي السائب، كلاهما عن أبي هريرة. و قال الترمذي: هذا حديث حسن. و سألت أبا زرعة عنه فقال: كلا الحديثين صحيح، من قال عن العلاء عن أبيه و عن العلاء عن أبي السائب. روى هذا الحديث عبد اللّه بن الإمام أحمد من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب مطولا. و قال ابن جرير «6» :
حدثنا صالح بن مسمار المروزي حدثنا زيد بن الحباب حدثنا عنبسة بن سعيد عن مطرف بن طريف عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم:
(1) كتاب صلاة المسافرين، حديث 254.
(2) كتاب الافتتاح، باب 25.
(3) النقيض: الصوت كصوت الباب إذا فتح.
(4) كتاب الصلاة، حديث 38. و ما وضعناه بين هلالين ليس من حديث مسلم.
(5) الخداج: النقصان. و قوله عليه الصلاة و السلام: «خداج» أي ذات خداج.
(6) تفسير الطبري 1/ 117.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 24
«قال اللّه تعالى: قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين و له ما سأل فإذا قال العبد الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال: حمدني عبدي و إذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال: أثنى عليّ عبدي، ثم قال: هذا لي و له ما بقي. و هذا غريب من هذا الوجه «1» .
الكلام على ما يتعلق بهذا الحديث مما يختص بالفاتحة من وجوه
أحدها: أنه قد أطلق فيه لفظ الصلاة، و المراد القراءة كقوله تعالى: وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا [الإسراء: 110] أي بقراءتك كما جاء مصرحا به في الصحيح عن ابن عباس، و هكذا قال في هذا الحديث: «قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين فنصفها لي و نصفها لعبدي و لعبدي ما سأل» ثم بين تفضيل هذه القسمة في قراءة الفاتحة فدل على عظم القراءة في الصلاة، و أنها من أكبر أركانها إذا أطلقت العبادة و أريد بها جزء واحد منها هو القراءة، كما أطلق لفظ القراءة و المراد به الصلاة في قوله: وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء: 78] و المراد صلاة الفجر كما جاء مصرحا به في الصحيحين من أنه يشهدها ملائكة الليل و ملائكة النهار فدل هذا كله على أنه لا بد من القراءة في الصلاة و هو اتفاق من العلماء، و لكن اختلفوا في مسأله نذكرها في الوجه الثاني، و ذلك أنه هل يتعين للقراءة في الصلاة فاتحة الكتاب أم تجزئ هي أو غيرها؟ على قولين مشهورين، فعند أبي حنيفه و من وافقه من أصحابه و غيرهم، أنها لا تتعين بل مهما قرأ به من القرآن أجزأه في الصلاة و احتجوا بعموم قوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20] و بما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال له: «إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسّر معك من القرآن» قالوا فأمره بقراءة ما تيسر و لم يعين له الفاتحة و لا غيرها فدل على ما قلنا.
و القول الثاني: أنه تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة و لا تجزئ الصلاة بدونها، و هو قول بقية الأئمة مالك و الشافعي و أحمد بن حنبل و أصحابهم و جمهور العلماء، و احتجوا على ذلك بهذا الحديث المذكور حيث قال صلوات اللّه و سلامه عليه: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج» و الخداج هو الناقص كما فسر به في الحديث «غير تمام» و احتجوا أيضا بما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» و في صحيح ابن خزيمة و ابن حبان عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها فيها بأم القرآن»
(1) العبارة الأخيرة هي من قول الحافظ ابن كثير لا من قول الطبري، فتنبّه.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 25
و الأحاديث في هذا الباب كثيرة و وجه المناظرة هاهنا يطول ذكره و قد أشرنا إلى مأخذهم في ذلك رحمهم اللّه.
ثم إن مذهب الشافعي و جماعة من أهل العلم أنه تجب قراءتها في كل ركعة. و قال آخرون:
إنما تجب قراءتها في معظم الركعات. و قال الحسن و أكثر البصريين: إنما تجب قراءتها في ركعة واحدة من الصلوات أخذا بمطلق الحديث «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» و قال أبو حنيفة و أصحابه و الثوري و الأوزاعي: لا تتعين قراءتها بل لو قرأ بغيرها أجزأه لقوله تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ و اللّه أعلم. و قد روى ابن ماجة من حديث أبي سفيان السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعا «لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد و سورة في فريضة أو غيرها» و في صحة هذا نظر و موضع تحرير هذا كله في كتاب الأحكام الكبير و اللّه أعلم.
و الوجه الثالث: هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء [أحدها] أنه تجب عليه قراءتها كما تجب على إمامه لعموم الأحاديث المتقدمة [و الثاني] لا تجب على المأموم قراءة بالكلية لا الفاتحة و لا غيرها و لا في الصلاة الجهرية و لا السرية، لما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده «1» عن جابر بن عبد اللّه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم أنه قال: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» و لكن في إسناده ضعف «2» . و رواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر من كلامه، و قد روي هذا الحديث من طرق و لا يصح شيء منها عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم و اللّه أعلم [و القول الثالث] أنه تجب القراءة على المأموم في السرية لما تقدم، و لا يجب ذلك في الجهرية لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا، و إذا قرأ فأنصتوا» و ذكر بقية الحديث، و هكذا رواه أهل السنن أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم أنه قال: «و إذا قرأ فأنصتوا» و قد صححه مسلم بن الحجاج أيضا، فدل هذان الحديثان على صحة هذا القول و هو قول قديم للشافعي رحمه اللّه: و رواية عن الإمام أحمد بن حنبل و الغرض من ذكر هذه المسائل هاهنا بيان اختصاص سورة الفاتحة بأحكام لا تتعلق بغيرها من السور و اللّه أعلم. و قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا غسان بن عبيد عن أبي عمران الجوني عن أنس رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «إذا وضعت جنبك على الفراش و قرأت فاتحة الكتاب و قل هو اللّه أحد فقد أمنت من كل شيء إلا الموت».
(1) ج 5 ص 100.
(2) إسناد الإمام أحمد جاء على النحو التالي: حدثنا عبد اللّه، حدثني أبي، حدثنا أسود بن عامر، أنبأنا حسن بن صالح عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 26
الكلام على تفسير الاستعاذة
قال اللّه تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ. وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 199- 200] و قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ. وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون: 96- 97] و قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 34- 36] فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها و هو أن اللّه تعالى يأمر بمصانعة العدو الإنسي و الإحسان إليه ليرده عنه طبعه الطيب الأصل إلى الموادة و المصافاة، و يأمر بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة إذ لا يقبل مصانعة و لا إحسانا و لا يبتغي غير هلاك ابن آدم لشدة العداوة بينه و بين أبيه آدم من قبل كما قال تعالى: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف: 27] و قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] و قال: أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف: 50] و قد أقسم للوالد آدم عليه السلام أنه له لمن الناصحين و كذب فكيف معاملته لنا و قد قال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82- 83] و قال تعالى:
قالت طائفة من القراء و غيرهم: نتعوّذ بعد القراءة، و اعتمدوا على ظاهر سياق الآية، و لدفع الإعجاب بعد فراغ العبادة، و ممن ذهب إلى ذلك حمزة فيما نقله عنه ابن قلوقا «1» و أبو حاتم السجستاني، حكى ذلك أبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة الهذلي المغربي في كتابه «الكامل» «2» و روي عن أبي هريرة أيضا و هو غريب. و نقله محمد بن عمر الرازي في تفسيره عن ابن سيرين في رواية عنه قال: و هو قول إبراهيم النخعي و داود بن علي الأصبهاني الظاهري.
و حكى القرطبي عن أبي بكر بن العربي عن المجموعة عن مالك رحمه اللّه: أن القارئ يتعوذ بعد الفاتحة، و استغربه ابن العربي. و حكى قولا ثالثا و هو الاستعاذة أولا و آخرا جمعا بين الدليلين، نقله الرازي. و المشهور الذي عليه الجمهور أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة لدفع الموسوس فيها و معنى الآية عندهم فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98] أي إذا أردت القراءة كقوله تعالى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ
(1) هو عبد الرحمن بن قلوقا، أو أقلوقا، الكوفي. من الرواة. انظر طبقات القراء لابن الجزري 1/ 376.