کتابخانه تفاسیر
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 29
[مسألة]
و قال الشافعي: في الإملاء يجهر بالتعوذ و إن أسر فلا يضر، و قال في «الأم» بالتخيير لأنه أسرّ ابن عمر و جهر أبو هريرة، و اختلف قول الشافعي فيما عدا الركعة الأولى هل يستحب التعوذ فيها على قولين و رجح عدم الاستحباب، و اللّه أعلم، فإذا قال المستعيذ: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم كفى ذلك عند الشافعي و أبي حنيفة و زاد بعضهم: أعوذ باللّه السميع العليم، و قال آخرون بل يقول: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم إن اللّه هو السميع العليم، قال الثوري و الأوزاعي، و حكي عن بعضهم أنه يقول: أستعيذ باللّه من الشيطان الرجيم، لمطابقة أمر الآية و لحديث الضحاك عن ابن عباس المذكور، و الأحاديث الصحيحة كما تقدم أولى بالاتباع من هذا و اللّه أعلم.
[مسألة] ثم الاستعاذة في الصلاة إنما هي للتلاوة و هو قول أبي حنيفة و محمد. و قال أبو يوسف: بل للصلاة، فعلى هذا يتعوذ المأموم و إن كان لا يقرأ و يتعوذ في العيد بعد الإحرام و قبل تكبيرات العيد و الجمهور بعدها قبل القراءة، و من لطائف الاستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو و الرفث و تطييب له و هو لتلاوة كلام اللّه و هي استعانة باللّه و اعتراف له بالقدرة و للعبد بالضعف و العجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه و دفعه إلا اللّه الذي خلقه و لا يقبل مصانعة و لا يدارى بالإحسان بخلاف العدو من نوع الإنسان كما دلت على ذلك آيات من القرآن في ثلاث من المثاني و قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء: 65] و قد نزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري فمن قتله العدو الظاهر البشري كان شهيدا، و من قتله العدو الباطني كان طريدا، و من غلبه العدو الظاهري كان مأجورا، و من قهره العدو الباطني كان مفتونا أو موزورا، و لما كان الشيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه استعاذ منه بالذي يراه و لا يراه الشيطان.
[فصل]
و الاستعاذة هي الالتجاء إلى اللّه تعالى و الالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر و العياذة تكون لدفع الشر و اللياذ يكون لطلب جلب الخير كما قال المتنبي: [البسيط]
يا من ألوذ به فيما أؤمله
و من أعوذ به ممن أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره
و لا يهيضون عظما أنت جابره
و معنى أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم أي أستجير بجناب اللّه من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا اللّه، و لهذا أمر تعالى بمصانعة شيطان الإنس و مداراته بإسداء الجميل إليه ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى و أمر بالاستعاذة به من شيطان الجن لأنه لا يقبل رشوة و لا يؤثر فيه جميل لأنه شرير بالطبع و لا يكفه عنك إلا الذي خلقه، و هذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة قوله في الأعراف: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199] فهذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر ثم قال: وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 30
نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 200] و قال تعالى في سورة قد أفلح المؤمنون:
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ. وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون: 96- 98] و قال تعالى في سورة حم السجدة:
و الشيطان في لغة العرب مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر و بعيد بفسقه عن كل خير، و قيل مشتق من شاط لأنه مخلوق من نار، و منهم من يقول: كلاهما صحيح في المعنى و لكن الأول أصح، و عليه يدل كلام العرب؛ قال أمية بن أبي الصلت في ذكر ما أوتي سليمان عليه السلام: [الخفيف]
أيّما شاطن عصاه عكاه
ثم يلقى في السجن و الأغلال «1»
فقال أيما شاطن و لم يقل أيّما شائط. و قال النابغة الذبياني و هو زياد بن عمرو بن معاوية بن جابر بن ضباب بن يربوع بن مرة بن سعد بن ذبيان: [الوافر]
نأت بسعاد عنك نوى شطون
فباتت و الفؤاد به رهين «2»
يقول: بعدت بها طريق بعيدة و قال سيبويه: العرب تقول تشيطن فلان إذا فعل فعل الشياطين و لو كان من شاط لقالوا تشيط فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح، و لهذا يسمون كل من تمرد من جني و إنسي و حيوان شيطانا. قال اللّه تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام: 112] و في مسند الإمام أحمد عن أبي ذر رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يا أبا ذر «تعوذ باللّه من شياطين الإنس و الجن» فقلت أو للإنس شياطين؟ قال: «نعم». و في صحيح مسلم عن أبي ذر أيضا قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «يقطع الصلاة المرأة و الحمار و الكلب الأسود» فقلت: يا رسول اللّه ما بال الكلب الأسود من الأحمر و الأصفر؟ فقال: «الكلب الأسود شيطان». و قال ابن وهب: أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ركب برذونا «3» فجعل
(1) البيت لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص 51؛ و جمهرة اللغة ص 947؛ و كتاب الجيم 2/ 292؛ و تاج العروس (عكا)؛ و الطبري 1/ 76؛ و لسان العرب (شطن، عكا)؛ و تهذيب اللغة 3/ 40؛ و مقاييس اللغة 3/ 185، و يروى أيضا: «ثم يلقى في الغلّ و الإكبال». و عكاه: شدّه في الحديد.
(2) البيت للنابغة في ديوانه ص 218؛ و لسان العرب (شطن)؛ و مقاييس اللغة 3/ 184؛ و الطبري 1/ 76؛ و لزياد بن معاوية في تاج العروس (نبغ)؛ و بلا نسبة في مجمل اللغة 3/ 156.
(3) البرذون: يطلق على غير العربي من الخيل و البغال. و هو عظيم الخلقة غليظ الأعضاء قوي الأرجل عظيم الحوافر.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 31
يتبختر به فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبخترا فنزل عنه و قال ما حملتموني إلا على شيطان ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي. إسناده صحيح. و الرجيم فعيل بمعنى مفعول أي أنه مرجوم مطرود عن الخير كله كما قال تعالى: وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك: 5] و قال تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصافات: 6- 10] و قال تعالى: وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ [الحجر: 16- 18] إلى غير ذلك من الآيات و قيل رجيم بمعنى راجم لأنه يرجم الناس بالوساوس و الربائث و الأول أشهر و أصح.
[سورة الفاتحة (1): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
[بسم اللّه الرحمن الرحيم] افتتح بها الصحابة كتاب اللّه و اتفق العلماء على أنها بعض آية من سورة النمل، ثم اختلفوا هل هي آية مستقلة في أول كل سورة أو من أول كل سورة كتبت في أولها أو أنها بعض آية من كل سورة أو أنها كذلك في الفاتحة دون غيرها أو أنها إنما كتبت للفصل لا أنها آية على أقوال للعلماء سلفا و خلفا و ذلك مبسوط في غير هذا الموضع. و في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ و أخرجه الحاكم أبو عبد اللّه النيسابوري في مستدركه أيضا، و روي مرسلا عن سعيد بن جبير. و في صحيح ابن خزيمة عن أم سلمة رضي اللّه عنها أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة و عدها آية، لكنه من رواية عمر بن هارون البلخي، و فيه ضعف، عن ابن جريح عن ابن أبي مليكة عنها. و روى له الدارقطني متابعا عن أبي هريرة مرفوعا، و روي مثله عن علي و ابن عباس و غيرهما. و ممن حكي عنه أنها آية من كل سورة إلا براءة: ابن عباس و ابن عمر و ابن الزبير و أبو هريرة و علي، و من التابعين: عطاء و طاوس و سعيد بن جبير و مكحول و الزهري و به يقول عبد اللّه بن المبارك و الشافعي و أحمد بن حنبل في رواية عنه و إسحاق بن راهويه و أبو عبيد القاسم بن سلام رحمهم اللّه. و قال مالك و أبو حنيفة و أصحابهما: ليست آية من الفاتحة و لا من غيرها من السور، و قال الشافعي في قول في بعض طرق مذهبه هي آية من الفاتحة و ليست من غيرها و عنه أنها بعض آية من أول كل سورة و هما غريبان. و قال داود: هي آية مستقلة في أول كل سورة لا منها، و هذا رواية عن الإمام أحمد بن حنبل و حكاه أبو بكر الرازي عن أبي الحسن الكرخي، و هما من أكابر أصحاب أبي حنيفة رحمهم اللّه. هذا ما يتعلق بكونها آية من الفاتحة أم لا.
فأما الجهر بها فمفرّع على هذا، فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها و كذا من قال إنها آية من أولها، و أما من قال بأنها من أوائل السور فاختلفوا، فذهب الشافعي رحمه اللّه إلى أنه
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 32
يجهر بها مع الفاتحة و السورة، و هو مذهب طوائف من الصحابة و التابعين و أئمة المسلمين سلفا و خلفا، فجهر بها من الصحابة أبو هريرة و ابن عمر و ابن عباس و معاوية و حكاه ابن عبد البر و البيهقي عن عمر و علي و نقله الخطيب عن الخلفاء الأربعة و هم أبو بكر و عمر و عثمان و علي و هو غريب، و من التابعين عن سعيد بن جبير و عكرمة و أبي قلابة و الزهري و علي بن الحسين و ابنه محمد و سعيد بن المسيب و عطاء و طاوس و مجاهد و سالم و محمد بن كعب القرظي و أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم و أبي وائل و ابن سيرين و محمد بن المنكدر و علي بن عبد اللّه ابن عباس و ابنه محمد و نافع مولى ابن عمر و زيد بن أسلم و عمر بن عبد العزيز و الأزرق بن قيس و حبيب بن أبي ثابت و أبي الشعثاء و مكحول و عبد اللّه بن معقل بن مقرن زاد البيهقي و عبد اللّه بن صفوان و محمد بن الحنفية. زاد ابن عبد البر: و عمرو بن دينار و الحجة في ذلك أنها بعض الفاتحة فيجهر بها كسائر أبعاضها و أيضا فقد روى النسائي في سننه و ابن خزيمة و ابن حبان في صحيحهما و الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة أنه صلّى فجهر في قراءته بالبسملة و قال بعد أن فرغ: إني لأشبهكم صلاة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم. و صححه الدارقطني و الخطيب و البيهقي و غيرهم.
و روى أبو داود و الترمذي عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان يفتتح الصلاة ببسم اللّه الرحمن الرحيم ثم قال الترمذي: و ليس إسناده بذاك. و قد رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس قال:
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يجهر ببسم اللّه الرحمن، و الرحيم ثم قال: صحيح و في صحيح البخاري عن أنس بن مالك أنه سئل عن قراءة النبي صلّى اللّه عليه و سلم فقال: كانت قراءته مدّا، ثم قرأ ببسم اللّه الرحمن الرحيم يمد بسم اللّه و يمد الرحمن و يمد الرحيم. و في مسند الإمام أحمد و سنن أبي داود و صحيح ابن خزيمة و مستدرك الحاكم عن أم سلمة رضي اللّه عنها قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقطع قراءته: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ و قال الدارقطني: إسناده صحيح. و روى الإمام أبو عبد اللّه الشافعي و الحاكم في مستدركه عن أنس أن معاوية صلّى بالمدينة فترك البسملة فأنكر عليه من حضره من المهاجرين ذلك فلما صلّى المرة الثانية بسمل. و في هذه الأحاديث و الآثار التي أوردناها كفاية و مقنع في الاحتجاج لهذا القول عما عداها. فأما المعارضات و الروايات الغريبة و تطريقها و تعليلها و تضعيفها و تقريرها فله موضع آخر. و ذهب آخرون إلى أنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة و هذا هو الثابت عن الخلفاء الأربعة و عبد اللّه بن مغفل و طوائف من سلف التابعين و الخلف و هو مذهب أبي حنيفة و الثوري و أحمد بن حنبل. و عند الإمام مالك أنه لا يقرأ البسملة بالكلية لا جهرا و لا سرا و احتجوا بما في صحيح مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يفتتح الصلاة بالتكبير و القراءة بالحمد للّه رب العالمين و بما في الصحيحين عن أنس بن مالك قال:
صليت خلف النبي صلّى اللّه عليه و سلم و أبي بكر و عمر و عثمان فكانوا يفتتحون بالحمد للّه رب العالمين.
و لمسلم: و لا يذكرون بسم اللّه الرحمن الرحيم في أول قراءة و لا في آخرها، و نحوه في السنن
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 33
عن عبد اللّه بن مغفل رضي اللّه عنه. فهذه مأخذ الأئمة رحمهم اللّه في هذه المسألة و هي قريبة لأنهم أجمعوا على صحة صلاة من جهر بالبسملة و من أسر و للّه الحمد و المنة.
فصل في فضلها
قال الإمام العالم الحبر العابد أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم «1» رحمه اللّه في تفسيره:
حدثنا أبي حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا زيد بن المبارك الصنعاني حدثنا سلام بن وهب الجندي حدثنا أبي عن طاوس عن ابن عباس أن عثمان بن عفان سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* ؟ فقال: «هو اسم من أسماء اللّه و ما بينه و بين اسم اللّه الأكبر إلا كما بين سواد العينين و بياضهما من القرب» و هكذا رواه أبو بكر بن مردويه عن سليمان بن أحمد عن علي بن المبارك عن زيد بن المبارك به. و قد روى الحافظ بن مردويه من طريقين عن إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن يحيى عن مسعر عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «إن عيسى ابن مريم عليه السلام أسلمته أمه إلى الكتّاب ليعلمه، فقال له المعلم: اكتب فقال: ما أكتب؟ قال:
بسم اللّه، قال له عيسى: و ما بسم اللّه؟ قال المعلم: ما أدري، قال له عيسى: الباء بهاء اللّه، و السين سناؤه، و الميم مملكته، و اللّه إله الآلهة، و الرحمن رحمن الدنيا و الآخرة، و الرحيم رحيم الآخرة» و قد رواه ابن جرير «2» من حديث ابراهيم بن العلاء الملقب زبريق عن إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن يحيى عن ابن أبي مليكة عمن حدثه عن ابن مسعود و مسعر عن عطية عن أبي سعيد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فذكره، و هذا غريب جدا، و قد يكون صحيحا إلى من دون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم. و قد يكون من الإسرائيليات لا من المرفوعات و اللّه أعلم «3» . و قد روى جويبر
(1) هو عبد الرحمن بن محمد الرازي الحافظ المتوفى سنة 327 ه. و تفسيره انتقاه الشيخ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 ه في مجلّد. (كشف الظنون 1/ 436)
(2) تفسير الطبري 1/ 81.
(3) قال الأستاذ محمود محمد شاكر تعليقا على هذا الحديث (تفسير الطبري 1/ 121، حاشية): هذا حديث موضوع لا أصل له. رواه ابن حبان في كتاب المجروحين، في ترجمة إسماعيل بن يحيى بن عبد اللّه التميمي و قال في إسماعيل هذا: «كان ممن يروي الموضوعات عن الثقات و ما لا أصل له عن الأثبات، لا تحل الرواية عنه و لا الاحتجاج به بحال». ثم ضرب مثلا من أكاذيبه هذا الحديث. و يتابع الأستاذ شاكر: و ما أدري كيف فات الحافظ ابن كثير أن في إسناده هذا الكذاب، فتسقط روايته بمرة و لا يحتاج إلى هذا التردّد. و أما السيوطي فقد ذكره في الدر المنثور و لم يغفل عن علته، فذكر أنه بسند ضعيف جدا. و ترجم الذهبي في الميزان لإسماعيل بن يحيى هذا، و تبعه ابن حجر في لسان الميزان، و في ترجمته: «قال صالح بن محمد جزرة: كان يضع الحديث. و قال الأزدي: ركن من أركان الكذب لا تحل الرواية عنه. و قال النيسابوري و الدارقطني و الحاكم: كذاب». ثم إن إسناده فيه أيضا راو مجهول و هو «من حدثه عن ابن مسعود» و فيه أيضا عطية بن سعد بن جنادة العوفي و هو ضعيف، ضعفه أحمد و أبو حاتم و غيرهما.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 34
عن الضحاك نحوه من قبله. و قد روى ابن مردويه من حديث يزيد بن خالد عن سليمان بن بريدة و في رواية عن عبد الكريم أبي أمية عن ابن بريدة عن أبيه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «أنزلت علي آية لم تنزل على نبي غير سليمان بن داود و غيري و هي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* ، و روي بإسناده عن عبد الكريم بن المعافى بن عمران عن أبيه عن عمر بن ذر عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد اللّه قال: لما نزل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* هرب الغيم إلى المشرق و سكنت الرياح، و هاج البحر و أضغت البهائم بآذانها، و رجمت الشياطين من السماء، و حلف اللّه تعالى بعزته و جلاله أن لا يسمى اسمه على شيء إلا بارك فيه. و قال وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: من أراد أن ينجيه اللّه من الزبانية التسعة عشر فليقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* فيجعل اللّه له من كل حرف منها جنة من كل واحد. ذكره ابن عطية و القرطبي و وجه ابن عطية و نصره بحديث «لقد رأيت بضعة و ثلاثين ملكا يبتدرونها» لقول الرجل ربنا و لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، من أجل أنها بضعة و ثلاثون حرفا و غير ذلك. و قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده «1» : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عاصم قال: سمعت أبا تميمة يحدث عن رديف النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال «2» : عثر بالنبي صلّى اللّه عليه و سلم [حماره] «3» . فقلت تعس الشيطان فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلم:
«لا تقل تعس الشيطان، فإنك إذا قلت تعس الشيطان تعاظم و قال بقوتي صرعته، و إذا قلت باسم اللّه تصاغر حتى يصير مثل الذباب» هكذا وقع في رواية الإمام أحمد، و قد روى النسائي في «اليوم و الليلة» و ابن مردويه في تفسيره من حديث خالد الحذاء عن أبي تميمة و هو الهجيمي عن أبي المليح بن أسامة بن عمير عن أبيه قال: كنت رديف النبي صلّى اللّه عليه و سلم فذكره و قال: «لا تقل هكذا فإنه يتعاظم حتى يكون كالبيت، و لكن قل بسم اللّه فإنه يصغر حتى يكون كالذبابة» فهذا من تأثير بركة بسم اللّه، و لهذا تستحب في أول كل عمل و قول، فتستحب في أول الخطبة لما جاء «كل أمر لا يبدأ فيه ببسم اللّه الرحمن الرحيم فهو أجذم «4» » و تستحب البسملة عند دخول الخلاء لما ورد من الحديث في ذلك و تستحب في أول الوضوء لما جاء في مسند الإمام أحمد «5» و السنن من رواية أبي هريرة و سعيد بن زيد و أبي سعيد مرفوعا: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه» و هو حديث حسن و من العلماء من أوجبها عند الذكر هاهنا و منهم من قال بوجوبها مطلقا و كذا تستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي و جماعة، و أوجبها آخرون عند الذكر و مطلقا في قول بعضهم كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء اللّه. و قد ذكره الرازي في تفسيره في فضل البسملة أحاديث
(1) المسند ج 7 ص 349.
(2) في المسند: «عن رديف النبي. قال شعبة: قال عاصم، عن أبي تميمة، عن رجل، عن رديف النبي قال: عنر بالنبي ... إلخ».
(3) الزيادة من مسند أحمد.
(4) الأجذم: المقطوع.
(5) المسند ج 4 ص 83.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 35
منها عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «إذا أتيت أهلك فسم اللّه فإنه إن وجد لك ولد كتب بعدد أنفاسه و أنفاس ذريته حسنات» و هذا لا أصل له و لا رأيته في شيء من الكتب المعتمد عليها و لا غيرها، و هكذا تستحب عند الأكل لما في صحيح مسلم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال لربيبه عمر بن أبي سلمة: «قل بسم اللّه و كل بيمينك و كل مما يليك» و من العلماء من أوجبها و الحالة هذه و كذلك تستحب عند الجماع لما في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم اللّه اللهم جنبنا الشيطان و جنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا».
و من هاهنا ينكشف لك أن القولين عند النحاة في تقدير المتعلق بالباء في قولك بسم اللّه هل هو اسم أو فعل متقاربان، و كل قد ورد به القرآن، أما من قدره بسم تقديره بسم اللّه ابتدائي فلقوله تعالى: وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [هود: 41] و من قدره بالفعل أمرا أو خبرا نحو أبدأ بسم اللّه او ابتدأت باسم اللّه فلقوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: 1] و كلاهما صحيح فإن الفعل لا بد له من مصدر فلك أن تقدر الفعل و مصدره و ذلك بحسب الفعل الذي سميت قبله إن كان قياما أو قعودا أو أكلا أو شرابا أو قراءة أو وضوءا أو صلاة فالمشروع ذكر اسم اللّه في الشروع في ذلك كله تبركا و تيمنا و استعانة على الإتمام و التقبل و اللّه أعلم، و لهذا روى ابن جرير «1» و ابن أبي حاتم من حديث بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: إن أول ما نزل به جبريل على محمد صلّى اللّه عليه و سلم قال:
«يا محمد قل: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال: قل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* قال: قال له جبريل [قل] بسم اللّه يا محمد، يقول: اقرأ بذكر اللّه ربك و قم و اقعد بذكر اللّه تعالى» لفظ ابن جرير.
و أما مسألة الاسم هل هو المسمى أو غيره ففيها للناس ثلاثة أقوال: أحدها أن الاسم هو المسمى، و هو قول أبي عبيدة و سيبويه، و اختاره الباقلاني و ابن فورك، و قال الرازي و هو محمد بن عمر المعروف بابن خطيب الري في مقدمات تفسيره: قالت الحشوية و الكرامية و الأشعرية: الاسم نفس المسمى و غير نفس التسمية، و قالت المعتزلة: الاسم غير المسمى و نفس التسمية، و المختار عندنا أن الاسم غير المسمى و غير التسمية. ثم نقول إن كان المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات متقطعة و حروف مؤلفة، فالعلم الضروري حاصل أنه غير المسمى و إن كان المراد بالاسم ذات المسمى، فهذا يكون من باب إيضاح الواضحات و هو عبث، فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع التقديرات يجري مجرى العبث، ثم شرع «2» يستدل على مغايرة الاسم للمسمى، بأنه قد يكون الاسم موجودا و المسمى مفقودا كلفظة المعدوم و بأنه
(1) تفسير الطبري 1/ 78.