کتابخانه تفاسیر
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 38
لا تفرح إلا بمعرفته لأنه الكامل على الإطلاق دون غيره، قال اللّه تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] قال: و قيل من لاه يلوه إذا احتجب، و قيل اشتقاقه من أله الفصيل أولع بأمه. و المعنى أن العباد مألوهون مولعون بالتضرع إليه في كل الأحوال، قال: و قيل مشتق من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به فألهه أي أجاره فالمجير لجميع الخلائق من كل المضار هو اللّه سبحانه لقوله تعالى: وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ [المؤمنون: 88] و هو المنعم لقوله تعالى وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53] و هو المطعم لقوله تعالى: وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ [الأنعام: 14] و هو الموجد لقوله تعالى قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء: 78] و قد اختار الرازي أنه اسم غير مشتق ألبتة، قال و هو قول الخليل و سيبويه و أكثر الأصوليين و الفقهاء ثم أخذ يستدل على ذلك بوجوه منها أنه لو كان مشتقا لاشترك في معناه كثيرون، و منها أن بقية الأسماء تذكر صفات له فتقول اللّه الرحمن الرحيم الملك القدوس، فدل أنه ليس بمشتق. قال: فأما قوله تعالى الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ «1» على قراءة الجر فجعل ذلك من باب عطف البيان، و منها قوله تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65] و في الاستدلال بهذه على كون هذا الاسم جامدا غير مشتق نظر و اللّه أعلم.
و حكى الرازي عن بعضهم أن اسم اللّه تعالى عبراني لا عربي، ضعّفه و هو حقيق بالتضعيف كما قال، و قد حكى الرازي هذا القول ثم قال: و أعلم أن الخلائق قسمان: واصلون إلى ساحل بحر المعرفة، و محرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة و تيه الجهالة، فكأنهم قد فقدوا عقولهم و أرواحهم؛ و أما الواجدون فقد وصلوا إلى عرصة النور و فسحة الكبرياء و الجلال فتاهوا في ميادين الصمدية و بادوا في عرصة الفردانية، فثبت أن الخلائق كلهم و الهون في معرفته، و روي عن الخليل بن أحمد أنه قال: لأن الخلق يألهون إليه، بفتح اللام و كسرها لغتان، و قيل إنه مشتق من الارتفاع، فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع: لاها، و كانوا يقولون إذا طلعت الشمس لاهت، و قيل إنه مشتق من أله الرجل إذا تعبد و تأله إذ تنسك، و قرأ ابن عباس (و يذرك و إلاهتك) و أصل ذلك الإله فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة فالتقت اللام التي هي عينها مع اللام الزائدة في أولها للتعريف فأدغمت إحداهما في الأخرى فصارتا في اللفظ لاما واحدة مشددة و فخمت تعظيما فقيل اللّه.
القول في تأويل الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، و رحمن أشد مبالغة من رحيم، و في كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا، و في تفسير بعض السلف ما يدل على ذلك كما تقدم في الأثر عن عيسى عليه السلام أنه قال: و الرحمن:
رحمن الدنيا و الآخرة، و الرحيم: رحيم الآخرة، و زعم بعضهم أنه غير مشتق إذ لو كان
(1) المراد ما جاء في آخر الآية الأولى و أول الآية الثانية من سورة إبراهيم: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ ... .
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 39
كذلك «1» لا تصل بذكر المرحوم و قد قال وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: 43] و حكى ابن الأنباري في الزاهر عن المبرد أن الرحمن: اسم عبراني ليس بعربي. و قال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن: و قال أحمد بن يحيى: الرحيم عربي و الرحمن عبراني، فلهذا جمع بينهما. قال أبو إسحاق: و هذا القول مرغوب عنه. و قال القرطبي: و الدليل على أنه مشتق «2» ما خرّجه الترمذي و صححه عن عبد الرحمن بن عوف رضي اللّه عنه أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول:
«قال اللّه تعالى: أنا الرحمن خلقت الرحم و شققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته و من قطعها قطعته» قال: و هذا نص في الاشتقاق فلا معنى للمخالفة و الشقاق، قال: و إنكار العرب لاسم الرحمن لجهلهم باللّه و بما وجب له، قال القرطبي: ثم قيل هما بمعنى واحد كندمان و نديم قاله أبو عبيدة، و قيل: ليس بناء فعلان كفعيل، فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل نحو قولك: رجل غضبان للرجل الممتلئ غضبا، و فعيل قد يكون بمعنى الفاعل و المفعول «3» ، قال أبو علي الفارسي: الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به اللّه تعالى، و الرحيم إنما هو من جهة المؤمنين [كما] قال اللّه تعالى: وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً و قال ابن عباس: هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر أي أكثر رحمة، ثم حكي «4» عن الخطابي و غيره أنهم استشكلوا هذه الصفة و قالوا لعله أرفق «5» كما في الحديث «إن اللّه رفيق يحب الرفق و يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف» و قال ابن المبارك: الرحمن إذا سئل أعطى و الرحيم إذا لم يسأل غضب. و هذا كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي و ابن ماجة من حديث أبي صالح الفارسي الخوزي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «من لم يسأل اللّه يغضب عليه» و قال بعض الشعراء: [الكامل]
اللّه يغضب ان تركت سؤاله
و بنيّ آدم حين يسأل يغضب «6»
و قال ابن جرير «7» : حدثنا السري بن يحيى التميمي حدثنا عثمان بن زفر قال: سمعت
(1) أي: «لو كان مشتقا من الرحمة» كما هي عبارة القرطبي.
(2) هو قول ابن الحصار يشير إلى ما خرّجه الترمذي، نقله القرطبي (1/ 104)
(3) و أورد القرطبي شاهدا على هذا قول عملّس بن عقيل:
فأما إذا عضّت بك الحرب عضّة
فإنك معطوف عليك رحيم
و أضاف: فالرحمن خاصّ الاسم عام الفعل، الرحيم عام الاسم خاصّ الفعل هذا قول الجمهور.
(4) أي القرطبي (1/ 106)
(5) أي: لعل قول ابن عباس هو: «هما اسمان رفيقان (بالفاء الموحدة) أحدهما أرفق من الآخر» على نحو ما جاء في القرطبي نقلا عن الحسين بن الفضل البجلي. قال: لأن الرقّة ليست من صفات اللّه تعالى في شيء، و الرفق من صفاته عز و جل. و بهذا المعنى نقل عن الخطابي.
(6) البيت بلا نسبة أيضا في القرطبي 1/ 106.
(7) تفسير الطبري 1/ 84.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 40
العزرمي يقول: الرحمن الرحيم قال: الرحمن بجميع الخلق، الرحيم قال: بالمؤمنين: قالوا و لهذا قال ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ [الفرقان: 59] و قال الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته و قال وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً فخصهم باسمه الرحيم. قالوا: فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه و الرحيم خاصة بالمؤمنين، لكن جاء في الدعاء المأثور:
رحمن الدنيا و الآخرة و رحيمهما. و اسمه تعالى الرحمن خاص به لم يسم به غيره كما قال تعالى قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: 110] و قال تعالى: وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:
45] و لما تجهرم مسيلمة الكذاب و تسمى برحمن اليمامة كساه اللّه جلباب الكذب و شهر به فلا يقال إلا مسيلمة الكذاب فصار يضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر من أهل المدر و أهل الوبر من أهل البادية و الأعراب.
و قد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن لأنه أكّد به و التأكيد لا يكون إلا أقوى من المؤكد، و الجواب أن هذا ليس من باب التأكيد و إنما هو من باب النعت و لا يلزم فيه ما ذكروه، و على هذا فيكون تقديم اسم اللّه الذي لم يسم به أحد غيره و وصفه أولا بالرحمن الذي منع من التسمية به لغيره كما قال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: 110] و إنما تجهرم «1» مسيلمة اليمامة في التسمي به و لم يتابعه على ذلك إلا من كان معه في الضلالة؛ و أما الرحيم فإنه تعالى وصف به غيره حيث قال: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] كما وصف غيره بذلك من أسمائه كما قال تعالى إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان: 2] و الحاصل أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره و منها ما لا يسمى به غيره كاسم اللّه و الرحمن و الخالق و الرازق و نحو ذلك فلهذا بدأ باسم اللّه و وصفه بالرحمن لأنه أخص و أعرف من الرحيم، لأن التسمية أولا إنما تكون بأشرف الأسماء فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص. فإن قيل: فإذا كان الرحمن أشد مبالغة فهلا اكتفى به عن الرحيم؟ فقد روي عن عطاء الخراساني ما معناه أنه لما تسمى غيره تعالى بالرحمن جيء بلفظ الرحيم ليقطع الوهم بذلك فإنه لا يوصف بالرحمن الرحيم إلا اللّه تعالى، كذا رواه ابن جرير «2» عن عطاء. و وجهه
(1) كذا و لعله «تجاسر» كما ورد في القرطبي.
(2) حديث عطاء: «كان الرحمن، فلما اختزل الرحمن من اسمه كان الرحمن الرحيم». قال القرطبي:
و الذي قال عطاء من ذلك غير فاسد المعنى، بل جائز أن يكون جل ثناؤه خصّ نفسه بالتسمية بهما معا مجتمعين، إبانة لهما من خلقه، ليعرف عباده بذكرهما مجموعين أنه المقصود بذكرهما من دون سواه من خلقه، مع ما في تأويل كل واحد منهما من المعنى الذي ليس في الآخر منهما.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 41
بذلك و اللّه أعلم. و قد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن حتى رد اللّه عليهم ذلك بقوله قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى . و لهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لعلي اكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* فقالوا: لا نعرف الرحمن و لا الرحيم. رواه البخاري و في بعض الروايات: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة. و قال تعالى وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً [الفرقان:
60] و الظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جحود و عناد و تعنت في كفرهم فإنه قد وجد في أشعارهم في الجاهلية تسمية اللّه بالرحمن. قال ابن جرير: و قد أنشد لبعض الجاهلية الجهال: [الطويل]
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها
ألا قضب الرحمن ربي يمينها «1»
و قال سلامة بن جندل الطهوي «2» : [الطويل]
عجلتم علينا إذ عجلنا عليكم
و ما يشإ الرحمن يعقد و يطلق «3»
و قال ابن جرير «4» : حدثنا أبو كريب عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة حدثنا أبو روق عن الضحاك عن عبد اللّه بن عباس قال الرحمن الفعلان من الرحمة هو من كلام العرب و قال الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرفيق الرقيق لمن «5» أحب أن يرحمه و البعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه، و كذلك أسماؤه كلها. و قال ابن جرير «6» أيضا: حدثنا محمد بن بشار حدثنا حماد بن مسعدة عن عوف عن الحسن قال: الرحمن اسم ممنوع. و قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان حدثنا زيد بن الحباب حدثني أبو الأشهب عن الحسن قال الرحمن اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه تسمى به تبارك و تعالى. و قد جاء في حديث أم سلمة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان يقطّع قراءته حرفا حرفا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فقرأ بعضهم كذلك و هم طائفة و منهم من وصلها بقوله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ . و كسرت الميم لالتقاء الساكنين و هم الجمهور، و حكى الكسائي من الكوفيين عن بعض العرب أنها تقرأ بفتح الميم و صلة الهمزة فيقولون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فنقلوا حركة الهمزة إلى الميم بعد تسكينها كما قرئ قول اللّه تعالى: الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ قال ابن عطية: و لم ترد هذه قراءة عن أحد فيما علمت.
(1) البيت بلا نسبة في الطبري 1/ 86؛ و المخصص لابن سيده 17/ 152.
(2) كذا أيضا في أصول تفسير الطبري، كما أشار محقق طبعة دار المعارف بمصر 1/ 131، حاشية (3).
قال: و هو خطأ، إذ ليس سلامة طهويا. و صححها بالسعدي. قلت: و لعل الحافظ ابن كثير تابع الطبري في هذا الخطأ، إذ ينقل عنه في هذا المقام.
(3) البيت لسلامة بن جندل في ديوانه ص 19؛ و تفسير الطبري 1/ 86.
(4) تفسير الطبري 1/ 85.
(5) في الطبري: «الرقيق الرفيق بمن أحب».
(6) الطبري 1/ 88.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 42
[سورة الفاتحة (1): آية 2]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)
القراء السبعة على ضم الدال في قوله (الحمد للّه) هو مبتدأ و خبر. و روي عن سفيان بن عيينة و رؤبة بن العجاج أنهما قالا (الحمد للّه) بالنصب و هو على إضمار فعل و قرأ ابن أبي عبلة (الحمد للّه) بضم الدال و اللام اتباعا للثاني الأول، و له شواهد لكنه شاذ، و عن الحسن و زيد بن علي (الحمد للّه) بكسر الدال اتباعا للأول الثاني.
قال أبو جعفر بن جرير «1» : معنى الْحَمْدُ لِلَّهِ الشكر للّه خالصا دون سائر ما يعبد من دونه، و دون كل ما برأ من خلقه، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد و لا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الآلات لطاعته، و تمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، و غذاهم من نعيم العيش من غير استحقاق منهم ذلك عليه، و مع ما نبههم عليه و دعاهم إليه من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم، فلربنا الحمد على ذلك كله أولا و آخرا. و قال ابن جرير رحمه اللّه: (الحمد للّه) ثناء أثنى به على نفسه و في ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال: قولوا الحمد للّه. قال: و قد قيل إن قول القائل: الحمد للّه ثناء عليه بأسمائه الحسنى و صفاته العلى، و قوله (الشكر للّه) ثناء عليه بنعمه و أياديه. ثم شرع في رد ذلك بما حاصله أن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلا من الحمد و الشكر مكان الآخر. و قد نقل السلمي هذا المذهب أنهما سواء عن جعفر الصادق و ابن عطاء من الصوفية، و قال ابن عباس (الحمد للّه) كلمة كل شاكر، و قد استدل القرطبي لابن جرير بصحة قول القائل الحمد للّه شكرا «2» . و هذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر، لأنه اشتهر عند كثير من العلماء من المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة و المتعدية، و الشكر لا يكون إلا على المتعدية و يكون بالجنان و اللسان و الأركان كما قال الشاعر: [الطويل]
أفادتكم النعماء مني ثلاثة :
يدي و لساني و الضمير المحجبا
و لكنهم اختلفوا أيهما أعمّ الحمد أو الشكر على قولين، و التحقيق أن بينهما عموما و خصوصا فالحمد أعم من الشكر من حيث ما يقعان عليه لأنه يكون على الصفات اللازمة
(1) الطبري 1/ 89.
(2) هذا و هم من ابن كثير، إذ إن القرطبي عارض رأي الطبري بقوله: «ذهب أبو جعفر الطبري و أبو العباس المبرد إلى أن الحمد و الشكر بمعنى واحد سواء، و ليست بمرضى» ثم قال: «الصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، و الشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان. و على هذا الحد قال علماؤنا: الحمد أعمّ من الشكر» (تفسير القرطبي 1/ 133- 134). و عقّب محمود محمد شاكر على من ناقضوا رأي الطبري بقوله: و الذي قاله الطبري أقوى حجّة و أعرق عربية من الذين ناقضوه. (تفسير الطبري، 1/ 138، حاشية (2)، طبعة دار المعارف بمصر)
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 43
و المتعدية، تقول: حمدته لفروسيته و حمدته لكرمه و هو أخص، لأنه لا يكون إلا بالقول، و الشكر أعم من حيث ما يقعان عليه لأنه يكون بالقول و الفعل و النية كما تقدم و هو أخص لأنه لا يكون إلا على الصفات المتعدية لا يقال: شكرته لفروسيته و تقول شكرته على كرمه و إحسانه إليّ. هذا حاصل ما حرره بعض المتأخرين و اللّه أعلم.
و قال أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري: الحمد نقيض الذم، تقول حمدت الرجل أحمده حمدا و محمدة فهو حميد و محمود و التحميد أبلغ من الحمد، و الحمد أعم من الشكر، و قال في الشكر: هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف، يقال: شكرته و شكرت له، و باللام أفصح. و أما المدح فهو أعم من الحمد لأنه يكون للحي و للميت و للجماد أيضا كما يمدح الطعام و المكان و نحو ذلك و يكون قبل الإحسان و بعده، و على الصفات المتعدية و اللازمة أيضا فهو أعم.
ذكر أقوال السلف في الحمد
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو معمر القطيعي حدثنا حفص عن حجاج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: قال عمر رضي اللّه عنه: قد علمنا سبحان اللّه و لا إله إلا اللّه، فما الحمد للّه؟ فقال علي: كلمة رضيها اللّه لنفسه، و رواه غير أبي معمر عن حفص فقال: قال عمر لعلي- و أصحابه عنده-: لا إله إلا اللّه و سبحان اللّه و اللّه أكبر قد عرفناها فما الحمد للّه؟ قال علي: كلمة أحبها اللّه تعالى لنفسه و رضيها لنفسه و أحب أن تقال «1» . و قال علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران: قال ابن عباس: الحمد للّه كلمة الشكر و إذا قال العبد الحمد للّه قال اللّه: شكرني عبدي. رواه ابن أبي حاتم، و روى أيضا هو و ابن جرير «2» من حديث بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال: الحمد للّه هو الشكر للّه و الاستخذاء له و الإقرار له بنعمته و هدايته و ابتدائه و غير ذلك. و قال كعب الأحبار: الحمد للّه ثناء على اللّه، و قال الضحاك: الحمد للّه رداء الرحمن، و قد ورد الحديث بنحو ذلك «3» .
قال ابن جرير: حدثنا سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية بن الوليد حدثني عيسى بن إبراهيم عن موسى بن أبي حبيب عن الحكم بن عمير و كانت له صحبة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إذا قلت الحمد للّه رب العالمين فقد شكرت اللّه فزادك، و قد روى الإمام أحمد بن حنبل «4» : حدثنا روح حدثنا عوف عن الحسن عن الأسود بن سريع قال: قلت يا رسول اللّه ألا أنشدك محامد حمدت
(1) الدر المنثور 1/ 34.
(2) تفسير الطبري 1/ 89؛ و الدر المنثور 1/ 34.
(3) حديثا كعب و الضحاك أخرجهما ابن جرير و ابن أبي حاتم (الدر المنثور 1/ 34)
(4) المسند ج 5 ص 303.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 44
بها ربي تبارك و تعالى فقال: «اما إن ربك يحب الحمد» و رواه النسائي عن علي بن حجر عن ابن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن الأسود بن سريع به. و روى أبو عيسى الحافظ الترمذي و النسائي و ابن ماجة من حديث موسى بن إبراهيم بن كثير عن طلحة بن خراش عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «أفضل الذكر لا إله إلا اللّه، و أفضل الدعاء الحمد للّه» و قال الترمذي حسن غريب، و روى ابن ماجة عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «ما أنعم اللّه على عبد نعمة فقال: الحمد للّه إلا كان الذي أعطي أفضل مما أخذ» و قال القرطبي في تفسيره و في نوادر الأصول عن أنس عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال الحمد للّه كان الحمد للّه أفضل من ذلك» قال القرطبي و غيره: أي لكان إلهامه الحمد للّه أكثر نعمة عليه من نعم الدنيا لأن ثواب الحمد للّه لا يفنى و نعيم الدنيا لا يبقى قال اللّه تعالى: الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلًا [الكهف: 46] و في سنن ابن ماجة عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حدثهم أن عبدا من عباد اللّه قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك و عظيم سلطانك. فعضلت «1» بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى اللّه فقالا: يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال اللّه، و هو أعلم بما قال عبده، ماذا قال عبدي؟ قالا يا رب إنه قال: لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك و عظيم سلطانك. فقال اللّه لهما «اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها» و حكى القرطبي عن طائفة أنهم قالوا: قول العبد (الحمد للّه رب العالمين) أفضل من قوله (لا إله إلا اللّه) لاشتمال الحمد للّه رب العالمين على التوحيد مع الحمد، و قال آخرون (لا إله إلا اللّه) أفضل لأنها تفصل بين الإيمان و الكفر و عليها يقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه، كما ثبت في الحديث المتفق عليه و في الحديث الآخر: «أفضل ما قلت أنا و النبيون من قبلي: لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له» و قد تقدم عن جابر مرفوعا «أفضل الذكر لا إله إلا اللّه و أفضل الدعاء الحمد للّه» و حسنه الترمذي، و الألف و اللام في الحمد لاستغراق جميع أجناس الحمد و صنوفه للّه تعالى كما جاء في الحديث: «اللهم لك الحمد كله و لك الملك كله و بيدك الخير كله و إليك يرجع الأمر كله» الحديث.
[القول في تأويل رَبِّ الْعالَمِينَ ]
و الرب هو المالك المتصرف و يطلق في اللغة على السيد و على المتصرف للإصلاح و كل ذلك صحيح في حق اللّه، و لا يستعمل الرب لغير اللّه بل بالإضافة تقول: رب الدار، رب كذا، و أما الرب «2» فلا يقال إلا للّه عز و جل، و قد قيل إنه الاسم الأعظم. و العالمين جمع عالم، و هو
(1) عضل به الأمر: اشتدّ و استغلق.