کتابخانه تفاسیر
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 41
بذلك و اللّه أعلم. و قد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن حتى رد اللّه عليهم ذلك بقوله قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى . و لهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لعلي اكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* فقالوا: لا نعرف الرحمن و لا الرحيم. رواه البخاري و في بعض الروايات: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة. و قال تعالى وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً [الفرقان:
60] و الظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جحود و عناد و تعنت في كفرهم فإنه قد وجد في أشعارهم في الجاهلية تسمية اللّه بالرحمن. قال ابن جرير: و قد أنشد لبعض الجاهلية الجهال: [الطويل]
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها
ألا قضب الرحمن ربي يمينها «1»
و قال سلامة بن جندل الطهوي «2» : [الطويل]
عجلتم علينا إذ عجلنا عليكم
و ما يشإ الرحمن يعقد و يطلق «3»
و قال ابن جرير «4» : حدثنا أبو كريب عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة حدثنا أبو روق عن الضحاك عن عبد اللّه بن عباس قال الرحمن الفعلان من الرحمة هو من كلام العرب و قال الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرفيق الرقيق لمن «5» أحب أن يرحمه و البعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه، و كذلك أسماؤه كلها. و قال ابن جرير «6» أيضا: حدثنا محمد بن بشار حدثنا حماد بن مسعدة عن عوف عن الحسن قال: الرحمن اسم ممنوع. و قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان حدثنا زيد بن الحباب حدثني أبو الأشهب عن الحسن قال الرحمن اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه تسمى به تبارك و تعالى. و قد جاء في حديث أم سلمة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان يقطّع قراءته حرفا حرفا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فقرأ بعضهم كذلك و هم طائفة و منهم من وصلها بقوله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ . و كسرت الميم لالتقاء الساكنين و هم الجمهور، و حكى الكسائي من الكوفيين عن بعض العرب أنها تقرأ بفتح الميم و صلة الهمزة فيقولون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فنقلوا حركة الهمزة إلى الميم بعد تسكينها كما قرئ قول اللّه تعالى: الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ قال ابن عطية: و لم ترد هذه قراءة عن أحد فيما علمت.
(1) البيت بلا نسبة في الطبري 1/ 86؛ و المخصص لابن سيده 17/ 152.
(2) كذا أيضا في أصول تفسير الطبري، كما أشار محقق طبعة دار المعارف بمصر 1/ 131، حاشية (3).
قال: و هو خطأ، إذ ليس سلامة طهويا. و صححها بالسعدي. قلت: و لعل الحافظ ابن كثير تابع الطبري في هذا الخطأ، إذ ينقل عنه في هذا المقام.
(3) البيت لسلامة بن جندل في ديوانه ص 19؛ و تفسير الطبري 1/ 86.
(4) تفسير الطبري 1/ 85.
(5) في الطبري: «الرقيق الرفيق بمن أحب».
(6) الطبري 1/ 88.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 42
[سورة الفاتحة (1): آية 2]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)
القراء السبعة على ضم الدال في قوله (الحمد للّه) هو مبتدأ و خبر. و روي عن سفيان بن عيينة و رؤبة بن العجاج أنهما قالا (الحمد للّه) بالنصب و هو على إضمار فعل و قرأ ابن أبي عبلة (الحمد للّه) بضم الدال و اللام اتباعا للثاني الأول، و له شواهد لكنه شاذ، و عن الحسن و زيد بن علي (الحمد للّه) بكسر الدال اتباعا للأول الثاني.
قال أبو جعفر بن جرير «1» : معنى الْحَمْدُ لِلَّهِ الشكر للّه خالصا دون سائر ما يعبد من دونه، و دون كل ما برأ من خلقه، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد و لا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الآلات لطاعته، و تمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، و غذاهم من نعيم العيش من غير استحقاق منهم ذلك عليه، و مع ما نبههم عليه و دعاهم إليه من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم، فلربنا الحمد على ذلك كله أولا و آخرا. و قال ابن جرير رحمه اللّه: (الحمد للّه) ثناء أثنى به على نفسه و في ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال: قولوا الحمد للّه. قال: و قد قيل إن قول القائل: الحمد للّه ثناء عليه بأسمائه الحسنى و صفاته العلى، و قوله (الشكر للّه) ثناء عليه بنعمه و أياديه. ثم شرع في رد ذلك بما حاصله أن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلا من الحمد و الشكر مكان الآخر. و قد نقل السلمي هذا المذهب أنهما سواء عن جعفر الصادق و ابن عطاء من الصوفية، و قال ابن عباس (الحمد للّه) كلمة كل شاكر، و قد استدل القرطبي لابن جرير بصحة قول القائل الحمد للّه شكرا «2» . و هذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر، لأنه اشتهر عند كثير من العلماء من المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة و المتعدية، و الشكر لا يكون إلا على المتعدية و يكون بالجنان و اللسان و الأركان كما قال الشاعر: [الطويل]
أفادتكم النعماء مني ثلاثة :
يدي و لساني و الضمير المحجبا
و لكنهم اختلفوا أيهما أعمّ الحمد أو الشكر على قولين، و التحقيق أن بينهما عموما و خصوصا فالحمد أعم من الشكر من حيث ما يقعان عليه لأنه يكون على الصفات اللازمة
(1) الطبري 1/ 89.
(2) هذا و هم من ابن كثير، إذ إن القرطبي عارض رأي الطبري بقوله: «ذهب أبو جعفر الطبري و أبو العباس المبرد إلى أن الحمد و الشكر بمعنى واحد سواء، و ليست بمرضى» ثم قال: «الصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، و الشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان. و على هذا الحد قال علماؤنا: الحمد أعمّ من الشكر» (تفسير القرطبي 1/ 133- 134). و عقّب محمود محمد شاكر على من ناقضوا رأي الطبري بقوله: و الذي قاله الطبري أقوى حجّة و أعرق عربية من الذين ناقضوه. (تفسير الطبري، 1/ 138، حاشية (2)، طبعة دار المعارف بمصر)
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 43
و المتعدية، تقول: حمدته لفروسيته و حمدته لكرمه و هو أخص، لأنه لا يكون إلا بالقول، و الشكر أعم من حيث ما يقعان عليه لأنه يكون بالقول و الفعل و النية كما تقدم و هو أخص لأنه لا يكون إلا على الصفات المتعدية لا يقال: شكرته لفروسيته و تقول شكرته على كرمه و إحسانه إليّ. هذا حاصل ما حرره بعض المتأخرين و اللّه أعلم.
و قال أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري: الحمد نقيض الذم، تقول حمدت الرجل أحمده حمدا و محمدة فهو حميد و محمود و التحميد أبلغ من الحمد، و الحمد أعم من الشكر، و قال في الشكر: هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف، يقال: شكرته و شكرت له، و باللام أفصح. و أما المدح فهو أعم من الحمد لأنه يكون للحي و للميت و للجماد أيضا كما يمدح الطعام و المكان و نحو ذلك و يكون قبل الإحسان و بعده، و على الصفات المتعدية و اللازمة أيضا فهو أعم.
ذكر أقوال السلف في الحمد
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو معمر القطيعي حدثنا حفص عن حجاج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: قال عمر رضي اللّه عنه: قد علمنا سبحان اللّه و لا إله إلا اللّه، فما الحمد للّه؟ فقال علي: كلمة رضيها اللّه لنفسه، و رواه غير أبي معمر عن حفص فقال: قال عمر لعلي- و أصحابه عنده-: لا إله إلا اللّه و سبحان اللّه و اللّه أكبر قد عرفناها فما الحمد للّه؟ قال علي: كلمة أحبها اللّه تعالى لنفسه و رضيها لنفسه و أحب أن تقال «1» . و قال علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران: قال ابن عباس: الحمد للّه كلمة الشكر و إذا قال العبد الحمد للّه قال اللّه: شكرني عبدي. رواه ابن أبي حاتم، و روى أيضا هو و ابن جرير «2» من حديث بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال: الحمد للّه هو الشكر للّه و الاستخذاء له و الإقرار له بنعمته و هدايته و ابتدائه و غير ذلك. و قال كعب الأحبار: الحمد للّه ثناء على اللّه، و قال الضحاك: الحمد للّه رداء الرحمن، و قد ورد الحديث بنحو ذلك «3» .
قال ابن جرير: حدثنا سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية بن الوليد حدثني عيسى بن إبراهيم عن موسى بن أبي حبيب عن الحكم بن عمير و كانت له صحبة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إذا قلت الحمد للّه رب العالمين فقد شكرت اللّه فزادك، و قد روى الإمام أحمد بن حنبل «4» : حدثنا روح حدثنا عوف عن الحسن عن الأسود بن سريع قال: قلت يا رسول اللّه ألا أنشدك محامد حمدت
(1) الدر المنثور 1/ 34.
(2) تفسير الطبري 1/ 89؛ و الدر المنثور 1/ 34.
(3) حديثا كعب و الضحاك أخرجهما ابن جرير و ابن أبي حاتم (الدر المنثور 1/ 34)
(4) المسند ج 5 ص 303.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 44
بها ربي تبارك و تعالى فقال: «اما إن ربك يحب الحمد» و رواه النسائي عن علي بن حجر عن ابن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن الأسود بن سريع به. و روى أبو عيسى الحافظ الترمذي و النسائي و ابن ماجة من حديث موسى بن إبراهيم بن كثير عن طلحة بن خراش عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «أفضل الذكر لا إله إلا اللّه، و أفضل الدعاء الحمد للّه» و قال الترمذي حسن غريب، و روى ابن ماجة عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «ما أنعم اللّه على عبد نعمة فقال: الحمد للّه إلا كان الذي أعطي أفضل مما أخذ» و قال القرطبي في تفسيره و في نوادر الأصول عن أنس عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال الحمد للّه كان الحمد للّه أفضل من ذلك» قال القرطبي و غيره: أي لكان إلهامه الحمد للّه أكثر نعمة عليه من نعم الدنيا لأن ثواب الحمد للّه لا يفنى و نعيم الدنيا لا يبقى قال اللّه تعالى: الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلًا [الكهف: 46] و في سنن ابن ماجة عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حدثهم أن عبدا من عباد اللّه قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك و عظيم سلطانك. فعضلت «1» بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى اللّه فقالا: يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال اللّه، و هو أعلم بما قال عبده، ماذا قال عبدي؟ قالا يا رب إنه قال: لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك و عظيم سلطانك. فقال اللّه لهما «اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها» و حكى القرطبي عن طائفة أنهم قالوا: قول العبد (الحمد للّه رب العالمين) أفضل من قوله (لا إله إلا اللّه) لاشتمال الحمد للّه رب العالمين على التوحيد مع الحمد، و قال آخرون (لا إله إلا اللّه) أفضل لأنها تفصل بين الإيمان و الكفر و عليها يقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه، كما ثبت في الحديث المتفق عليه و في الحديث الآخر: «أفضل ما قلت أنا و النبيون من قبلي: لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له» و قد تقدم عن جابر مرفوعا «أفضل الذكر لا إله إلا اللّه و أفضل الدعاء الحمد للّه» و حسنه الترمذي، و الألف و اللام في الحمد لاستغراق جميع أجناس الحمد و صنوفه للّه تعالى كما جاء في الحديث: «اللهم لك الحمد كله و لك الملك كله و بيدك الخير كله و إليك يرجع الأمر كله» الحديث.
[القول في تأويل رَبِّ الْعالَمِينَ ]
و الرب هو المالك المتصرف و يطلق في اللغة على السيد و على المتصرف للإصلاح و كل ذلك صحيح في حق اللّه، و لا يستعمل الرب لغير اللّه بل بالإضافة تقول: رب الدار، رب كذا، و أما الرب «2» فلا يقال إلا للّه عز و جل، و قد قيل إنه الاسم الأعظم. و العالمين جمع عالم، و هو
(1) عضل به الأمر: اشتدّ و استغلق.
(2) أي الرب مطلقا.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 45
كل موجود سوى اللّه عز و جل، و العالم جمع لا واحد له من لفظه، و العوالم أصناف المخلوقات في السموات و في البر و البحر و كل قرن منها و جيل يسمى عالما أيضا. قال بشر بن عمار عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الحمد للّه الذي له الخلق كله السموات و الأرضون و ما فيهنّ و ما بينهن مما نعلم و مما لا نعلم. و في رواية سعيد بن جبير و عكرمة عن ابن عباس: رب الجن و الإنس، و كذلك قال سعيد بن جبير و مجاهد و ابن جريج و روي عن علي نحوه، قال ابن أبي حاتم: بإسناده لا يعتمد عليه. و استدل القرطبي لهذا القول بقوله تعالى: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: 1] و هم الجن و الإنس. قال الفراء و أبو عبيد:
العالم عبارة عما يعقل و هم الإنس و الجن و الملائكة و الشياطين و لا يقال للبهائم عالم. و عن زيد بن أسلم و أبي محيصن: العالم كل ما له روح ترفرف. و قال قتادة: رب العالمين كل صنف عالم، و قال الحافظ ابن عساكر في ترجمة مروان بن محمد و هو أحد خلفاء بني أمية و هو يعرف بالجعد و يلقب بالحمار أنه قال: خلق اللّه سبعة عشر ألف عالم، أهل السموات و أهل الأرض عالم واحد، و سائرهم لا يعلمهم إلا اللّه عز و جل.
و قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ قال: الإنس عالم [و الجن عالم] «1» و ما سوى ذلك ثمانية عشر ألف أو أربعة عشر ألف عالم- هو يشك- من الملائكة على الأرض و للأرض أربع زوايا، في كل زاوية ثلاثة ألاف عالم و خمسمائة عالم خلقهم اللّه لعبادته. رواه ابن جرير و ابن أبي حاتم «2» . و هذا كلام غريب يحتاج مثله إلى دليل صحيح. و قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الفرات، يعني ابن الوليد، عن معتب بن سمي عن تبيع يعني الحميري في قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ قال: العالمين ألف أمة فستمائة في البحر و أربعمائة في البر «3» ، و حكي مثله عن سعيد بن المسيب و قد روي نحو هذا مرفوعا كما قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى في مسنده: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبيد بن واقد القيسي أبو عباد حدثني محمد بن عيسى بن كيسان حدثنا محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللّه قال: قلّ الجراد في سنة من سني عمر التي ولي فيها، فسأل عنه فلم يخبر بشيء، فاغتم لذلك، فأرسل راكبا يضرب إلى اليمن و آخر إلى الشام و آخر إلى العراق يسأل هل رؤي من الجراد شيء، أم لا؟ قال: فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد، فألقاها بين يديه فلما رآها كبر ثم قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول «خلق اللّه ألف أمة: ستمائة في البحر و أربعمائة في البر، فأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلك تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه» محمد بن عيسى هذا و هو الهلالي
(1) زيادة من الطبري.
(2) تفسير الطبري 1/ 93؛ و الدر المنثور 1/ 37.
(3) الدر المنثور 1/ 37.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 46
ضعيف «1» . و حكى البغوي عن سعيد بن المسيب أنه قال: للّه ألف عالم ستمائة في البحر و أربعمائة في البر، و قال وهب بن منبه: للّه ثمانية عشر ألف عالم الدنيا عالم منها، و قال مقاتل:
العوالم ثمانون ألفا، و قال كعب الأحبار: لا يعلم عدد العوالم إلا اللّه عز و جل نقله البغوي.
و حكى القرطبي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: إن للّه أربعين ألف عالم الدنيا من شرقها إلى مغربها عالم واحد منها، و قال الزجاج: العالم كل ما خلق اللّه في الدنيا و الآخرة قال القرطبي:
و هذا هو الصحيح إنه شامل لكل العالمين كقوله: قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ. قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [الشعراء: 23] و العالم مشتق من العلامة (قلت) لأنه علم دال على وجود خالقه و صانعه و وحدانيته كما قال ابن المعتز:
فيا عجبا كيف يعصى الإله
أم كيف يجحده الجاحد
و في كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
[سورة الفاتحة (1): آية 3]
و قوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تقدم الكلام عليه في البسملة بما أغنى عن الإعادة. قال القرطبي «2» : إنما وصف نفسه بالرحمن الرحيم بعد قوله رب العالمين ليكون من باب قرن الترغيب بعد الترهيب كما قال تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر: 49- 50] و قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 165] قال: فالرب فيه ترهيب و الرحمن الرحيم ترغيب. و في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «لو يعلم المؤمن ما عند اللّه من العقوبة ما طمع في جنته أحد و لو يعلم الكافر ما عند اللّه من الرحمة ما قنط من رحمته «3» أحد».
[سورة الفاتحة (1): آية 4]
قرأ بعض القراء (ملك يوم الدين) و قرأ آخرون (مالك) و كلاهما صحيح متواتر في السبع «4» ، و يقال ملك بكسر اللام و بإسكانها، و يقال مليك أيضا و أشبع نافع كسرة الكاف فقرأ (ملكي يوم الدين) و قد رجح كلا من القراءتين مرجّحون من حيث المعنى و كلتاهما صحيحة حسنة، و رجح الزمخشري ملك لأنها قراءة أهل الحرمين و لقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] و قوله:
قَوْلُهُ الْحَقُّ وَ لَهُ الْمُلْكُ [الأنعام: 73] و حكي عن أبي حنيفة أنه قرأ: ملك يوم الدين على
(1) الحديث رواه السيوطي في الدر المنثور (1/ 37) و قال: بسند ضعيف.
(2) تفسير القرطبي 1/ 139، و ابن كثير ينقل هنا عن القرطبي بتصرّف.
(3) في القرطبي 1/ 139 و صحيح مسلم (توبة حديث 23): «جنته».
(4) أي القراءات السبع المشهورة.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 47
أنه فعل و فاعل و مفعول و هذا شاذ غريب جدا و قد روى أبو بكر بن أبي داود في ذلك شيئا غريبا حيث قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الأزدي، حدثنا عبد الوهاب بن عدي بن الفضل عن أبي المطرف عن ابن شهاب أنه بلغه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أبا بكر و عمر و عثمان و معاوية و ابنه يزيد بن معاوية كانوا يقرءون (مالك يوم الدين) قال ابن شهاب: و أول من أحدث «ملك» مروان (قلت) مروان عنده علم بصحة ما قرأه لم يطلع عليه ابن شهاب و اللّه أعلم. و قد روي من طرق متعددة أوردها ابن مردويه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان يقرؤها (مالك يوم الدين) و مالك مأخوذ من الملك كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها وَ إِلَيْنا يُرْجَعُونَ [مريم: 40] و قال قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ [الناس: 1- 2] و ملك مأخوذ من الملك كما قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ و قال قَوْلُهُ الْحَقُّ وَ لَهُ الْمُلْكُ و قال: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً [الفرقان: 26] و تخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين و ذلك عامّ في الدنيا و الآخرة، و إنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هنالك شيئا و لا يتكلم أحد إلا بإذنه كما قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً [النبأ: 38] و قال تعالى:
وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه: 108] و قال تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ [هود: 105] و قال الضحاك عن ابن عباس مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يقول: لا يملك أحد معه في ذلك اليوم حكما كملكهم في الدنيا، قال: و يوم الدين يوم الحساب للخلائق و هو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيرا فخير و إن شرا فشر إلا من عفا عنه «1» . و كذلك قال غيره من الصحابة و التابعين و السلف و هو ظاهر. و حكى ابن جرير «2» عن بعضهم أنه ذهب إلى أن تفسير مالك يوم الدين أنه القادر على إقامته، ثم شرع يضعفه، و الظاهر أنه لا منافاة بين هذا القول و ما تقدم و أن كلا من القائلين هذا القول و بما قبله يعترف بصحة القول الآخر و لا ينكره، و لكن السياق أدل على المعنى الأول من هذا، كما قال تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً و القول الثاني يشبه قوله تعالى: وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ و اللّه أعلم. و الملك في الحقيقة هو اللّه عز و جل، قال اللّه تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ [الحشر: 23] و في الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه مرفوعا «أخنع اسم عند اللّه رجل تسمى بملك الأملاك و لا مالك إلا اللّه «3» » و فيهما عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال «يقبض اللّه الأرض و يطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك
(1) أخرجه ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس (الدر المنثور 1/ 9)
(2) تفسير الطبري 1/ 96.