کتابخانه تفاسیر
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 45
كل موجود سوى اللّه عز و جل، و العالم جمع لا واحد له من لفظه، و العوالم أصناف المخلوقات في السموات و في البر و البحر و كل قرن منها و جيل يسمى عالما أيضا. قال بشر بن عمار عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الحمد للّه الذي له الخلق كله السموات و الأرضون و ما فيهنّ و ما بينهن مما نعلم و مما لا نعلم. و في رواية سعيد بن جبير و عكرمة عن ابن عباس: رب الجن و الإنس، و كذلك قال سعيد بن جبير و مجاهد و ابن جريج و روي عن علي نحوه، قال ابن أبي حاتم: بإسناده لا يعتمد عليه. و استدل القرطبي لهذا القول بقوله تعالى: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: 1] و هم الجن و الإنس. قال الفراء و أبو عبيد:
العالم عبارة عما يعقل و هم الإنس و الجن و الملائكة و الشياطين و لا يقال للبهائم عالم. و عن زيد بن أسلم و أبي محيصن: العالم كل ما له روح ترفرف. و قال قتادة: رب العالمين كل صنف عالم، و قال الحافظ ابن عساكر في ترجمة مروان بن محمد و هو أحد خلفاء بني أمية و هو يعرف بالجعد و يلقب بالحمار أنه قال: خلق اللّه سبعة عشر ألف عالم، أهل السموات و أهل الأرض عالم واحد، و سائرهم لا يعلمهم إلا اللّه عز و جل.
و قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ قال: الإنس عالم [و الجن عالم] «1» و ما سوى ذلك ثمانية عشر ألف أو أربعة عشر ألف عالم- هو يشك- من الملائكة على الأرض و للأرض أربع زوايا، في كل زاوية ثلاثة ألاف عالم و خمسمائة عالم خلقهم اللّه لعبادته. رواه ابن جرير و ابن أبي حاتم «2» . و هذا كلام غريب يحتاج مثله إلى دليل صحيح. و قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الفرات، يعني ابن الوليد، عن معتب بن سمي عن تبيع يعني الحميري في قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ قال: العالمين ألف أمة فستمائة في البحر و أربعمائة في البر «3» ، و حكي مثله عن سعيد بن المسيب و قد روي نحو هذا مرفوعا كما قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى في مسنده: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبيد بن واقد القيسي أبو عباد حدثني محمد بن عيسى بن كيسان حدثنا محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللّه قال: قلّ الجراد في سنة من سني عمر التي ولي فيها، فسأل عنه فلم يخبر بشيء، فاغتم لذلك، فأرسل راكبا يضرب إلى اليمن و آخر إلى الشام و آخر إلى العراق يسأل هل رؤي من الجراد شيء، أم لا؟ قال: فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد، فألقاها بين يديه فلما رآها كبر ثم قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول «خلق اللّه ألف أمة: ستمائة في البحر و أربعمائة في البر، فأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلك تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه» محمد بن عيسى هذا و هو الهلالي
(1) زيادة من الطبري.
(2) تفسير الطبري 1/ 93؛ و الدر المنثور 1/ 37.
(3) الدر المنثور 1/ 37.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 46
ضعيف «1» . و حكى البغوي عن سعيد بن المسيب أنه قال: للّه ألف عالم ستمائة في البحر و أربعمائة في البر، و قال وهب بن منبه: للّه ثمانية عشر ألف عالم الدنيا عالم منها، و قال مقاتل:
العوالم ثمانون ألفا، و قال كعب الأحبار: لا يعلم عدد العوالم إلا اللّه عز و جل نقله البغوي.
و حكى القرطبي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: إن للّه أربعين ألف عالم الدنيا من شرقها إلى مغربها عالم واحد منها، و قال الزجاج: العالم كل ما خلق اللّه في الدنيا و الآخرة قال القرطبي:
و هذا هو الصحيح إنه شامل لكل العالمين كقوله: قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ. قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [الشعراء: 23] و العالم مشتق من العلامة (قلت) لأنه علم دال على وجود خالقه و صانعه و وحدانيته كما قال ابن المعتز:
فيا عجبا كيف يعصى الإله
أم كيف يجحده الجاحد
و في كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
[سورة الفاتحة (1): آية 3]
و قوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تقدم الكلام عليه في البسملة بما أغنى عن الإعادة. قال القرطبي «2» : إنما وصف نفسه بالرحمن الرحيم بعد قوله رب العالمين ليكون من باب قرن الترغيب بعد الترهيب كما قال تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر: 49- 50] و قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 165] قال: فالرب فيه ترهيب و الرحمن الرحيم ترغيب. و في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «لو يعلم المؤمن ما عند اللّه من العقوبة ما طمع في جنته أحد و لو يعلم الكافر ما عند اللّه من الرحمة ما قنط من رحمته «3» أحد».
[سورة الفاتحة (1): آية 4]
قرأ بعض القراء (ملك يوم الدين) و قرأ آخرون (مالك) و كلاهما صحيح متواتر في السبع «4» ، و يقال ملك بكسر اللام و بإسكانها، و يقال مليك أيضا و أشبع نافع كسرة الكاف فقرأ (ملكي يوم الدين) و قد رجح كلا من القراءتين مرجّحون من حيث المعنى و كلتاهما صحيحة حسنة، و رجح الزمخشري ملك لأنها قراءة أهل الحرمين و لقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] و قوله:
قَوْلُهُ الْحَقُّ وَ لَهُ الْمُلْكُ [الأنعام: 73] و حكي عن أبي حنيفة أنه قرأ: ملك يوم الدين على
(1) الحديث رواه السيوطي في الدر المنثور (1/ 37) و قال: بسند ضعيف.
(2) تفسير القرطبي 1/ 139، و ابن كثير ينقل هنا عن القرطبي بتصرّف.
(3) في القرطبي 1/ 139 و صحيح مسلم (توبة حديث 23): «جنته».
(4) أي القراءات السبع المشهورة.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 47
أنه فعل و فاعل و مفعول و هذا شاذ غريب جدا و قد روى أبو بكر بن أبي داود في ذلك شيئا غريبا حيث قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الأزدي، حدثنا عبد الوهاب بن عدي بن الفضل عن أبي المطرف عن ابن شهاب أنه بلغه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أبا بكر و عمر و عثمان و معاوية و ابنه يزيد بن معاوية كانوا يقرءون (مالك يوم الدين) قال ابن شهاب: و أول من أحدث «ملك» مروان (قلت) مروان عنده علم بصحة ما قرأه لم يطلع عليه ابن شهاب و اللّه أعلم. و قد روي من طرق متعددة أوردها ابن مردويه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان يقرؤها (مالك يوم الدين) و مالك مأخوذ من الملك كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها وَ إِلَيْنا يُرْجَعُونَ [مريم: 40] و قال قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ [الناس: 1- 2] و ملك مأخوذ من الملك كما قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ و قال قَوْلُهُ الْحَقُّ وَ لَهُ الْمُلْكُ و قال: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً [الفرقان: 26] و تخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين و ذلك عامّ في الدنيا و الآخرة، و إنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هنالك شيئا و لا يتكلم أحد إلا بإذنه كما قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً [النبأ: 38] و قال تعالى:
وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه: 108] و قال تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ [هود: 105] و قال الضحاك عن ابن عباس مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يقول: لا يملك أحد معه في ذلك اليوم حكما كملكهم في الدنيا، قال: و يوم الدين يوم الحساب للخلائق و هو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيرا فخير و إن شرا فشر إلا من عفا عنه «1» . و كذلك قال غيره من الصحابة و التابعين و السلف و هو ظاهر. و حكى ابن جرير «2» عن بعضهم أنه ذهب إلى أن تفسير مالك يوم الدين أنه القادر على إقامته، ثم شرع يضعفه، و الظاهر أنه لا منافاة بين هذا القول و ما تقدم و أن كلا من القائلين هذا القول و بما قبله يعترف بصحة القول الآخر و لا ينكره، و لكن السياق أدل على المعنى الأول من هذا، كما قال تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً و القول الثاني يشبه قوله تعالى: وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ و اللّه أعلم. و الملك في الحقيقة هو اللّه عز و جل، قال اللّه تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ [الحشر: 23] و في الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه مرفوعا «أخنع اسم عند اللّه رجل تسمى بملك الأملاك و لا مالك إلا اللّه «3» » و فيهما عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال «يقبض اللّه الأرض و يطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك
(1) أخرجه ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس (الدر المنثور 1/ 9)
(2) تفسير الطبري 1/ 96.
(3) أخرجه البخاري (أدب، باب 114) و أبو داود (أدب، باب 63). و الترمذي (أدب، باب 66) و أحمد في المسند ج 3 ص 40. قال عبد اللّه ابن الإمام أحمد: قال أبي: سألت أبا عمرو الشيباني عن أخنع اسم عند اللّه؟ قال: أوضع اسم عند اللّه.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 48
الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ «1» » و في القرآن العظيم لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] فأما تسمية غيره في الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز كما قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً [البقرة: 247] وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف: 79] إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً [المائدة: 20] و في الصحيحين «مثل الملوك على الأسرة».
و الدين الجزاء و الحساب كما قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَ [النور: 25] و قال أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات: 53] أي مجزيون محاسبون، و في الحديث «الكيّس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت» أي حاسب نفسه كما قال عمر رضي اللّه عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، و تأهبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ . [الحاقة: 18].
[سورة الفاتحة (1): آية 5]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
قرأ السبعة و الجمهور بتشديد الياء من إياك و قرأ عمرو بن فائد بتخفيفها مع كسر الهمزة و هي قراءة شاذة مردودة لأن إيا: ضوء الشمس «2» ، و قرأ بعضهم أياك بفتح الهمزة و تشديد الياء، و قرأ بعضهم هياك بالهاء بدل الهمزة كما قال الشاعر: [الطويل]
فهياكو الأمر الذي إن توسّعت
موارده ضاقت عليك مصادره «3»
و نستعين بفتح النون أول الكلمة في قراءة الجميع سوى يحيى بن وثاب و الأعمش فإنهما كسراها و هي لغة بني أسد و ربيعة و بني تميم، و العبادة في اللغة من الذلة يقال طريق معبد و بعير معبد أي مذلل، و في الشرع: عبارة عما يجمع كمال المحبة و الخضوع و الخوف. و قدم المفعول و هو إياك و كرر للاهتمام و الحصر أي لا نعبد إلا إياك و لا نتوكل إلا عليك و هذا هو كمال الطاعة، و الدين كله يرجع إلى هذين المعنيين، و هذا كما قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن، و سرها هذه الكلمة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فالأول تبرؤ من الشرك، و الثاني تبرؤ من الحول
(1) أخرجه مسلم (منافقين، حديث 24) و أبو داود (سنة، باب 19) و ابن ماجة (مقدمة، باب 13؛ و زهد، باب 33) و أحمد في المسند (ج 3 ص 309)
(2) في لسان العرب (أيا): إيا الشمس و أياؤها: نورها و ضوؤها و حسنها. و كذلك إياتها و أياتها، و جمعها آياء و إياء كأكمة و إكام. و أنشد الكسائي:
سقته إياة الشمس إلا لثاته
أسفّ و لم تكدم عليه بإثمد
و الشاهد في القرطبي 1/ 146.
(3) البيت لمضرس بن ربعي في شرح شواهد الشافية ص 476؛ و لطفيل الغنوي أو لمضرس في ديوان طفيل ص 102؛ و بلا نسبة في الإنصاف 1/ 215؛ و سر صناعة الإعراب 2/ 552؛ و شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1152؛ و شرح شافية ابن الحاجب 3/ 223؛ و شرح المفصل 8/ 118؛ و لسان العرب (هيا، أيا)؛ و المحتسب (1/ 40)
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 49
و القوة و التفويض إلى اللّه عز و جل، و هذا المعنى في غير آية من القرآن كما قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود: 123]، قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنا [الملك: 29]، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: 9] و كذلك هذه الآية الكريمة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ و تحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب و هو مناسبة لأنه لما أثنى على اللّه فكأنه اقترب و حضر بين يدي اللّه تعالى فلهذا قال إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ و في هذا دليل على أن أول السورة خبر من اللّه تعالى بالثناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى و إرشاد لعباده بأن يثنوا عليه بذلك و لهذا لا تصح صلاة من لم يقل ذلك و هو قادر عليه كما جاء في الصحيحين عن عبادة بن الصامت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال:
«لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» «1» و في صحيح مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن مولى الحرقة عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «يقول اللّه تعالى: قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين فنصفها لي و نصفها لعبدي و لعبدي ما سأل إذا قال العبد الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال اللّه: حمدني عبدي، و إذا قال الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال اللّه: أثنى علي عبدي، فإذا قال مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال اللّه مجدني عبدي، و إذا قال إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال: هذا بيني و بين عبدي و لعبدي ما سأل، فإذا قال اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ قال: هذا لعبدي و لعبدي ما سأل» «2» و قال الضحاك عن ابن عباس رضي اللّه عنهما إِيَّاكَ نَعْبُدُ يعني إياك نوحد و نخاف و نرجو يا ربنا لا غيرك وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ على طاعتك و على أمورنا كلها «3» . و قال قتادة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يأمركم أن تخلصوا له العبادة و أن تستعينوه على أموركم. و إنما قدم إِيَّاكَ نَعْبُدُ على وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لأن العبادة له هي المقصودة و الاستعانة وسيلة إليها و الاهتمام و الحزم تقديم ما هو الأهم فالأهم و اللّه أعلم. فإن قيل: فما معنى النون في قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فإن كانت للجمع فالداعي واحد و إن كانت للتعظيم فلا يناسب هذا المقام؟ و قد أجيب بأن المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد و المصلي فرد منهم و لا سيما إن كان في جماعة، أو إمامهم فأخبر عن نفسه و عن إخوانه المؤمنين بالعبادة التي خلقوا لأجلها و توسط لهم بخير، و منهم من قال: يجوز أن تكون للتعظيم. قيل: إذا كنت داخل العبادة فأنت شريف وجاهك عريض فقل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ و إن كنت خارج العبادة فلا تقل نحن و لا فعلنا و لو كنت في مائة ألف أو ألف ألف لاحتياج الجميع إلى اللّه عز و جل و فقرهم إليه. و منهم من قال: إياك نعبد ألطف في التواضع من إياك عبدنا لما في الثاني من تعظيم نفسه من جعله نفسه وحده أهلا
(1) البخاري (توحيد، باب 48) و مسلم (صلاة، حديث 34)
(2) صحيح مسلم، صلاة، حديث 38 و 40.
(3) أخرجه ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس (الدر المنثور 1/ 39)
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 50
لعبادة اللّه تعالى الذي لا يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته و لا يثني عليه كما يليق به، و العبادة مقام عظيم يشرف به العبد لانتسابه إلى جناب اللّه تعالى كما قال بعضهم: [السريع]
لا تدعني إلا بيا عبدها
فإنه أشرف أسمائي
و قد سمى اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و سلم بعبده في أشرف مقاماته فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الكهف: 1] وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: 19]، سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] فسماه عبدا عند إنزاله عليه و عند قيامه في الدعوة و إسرائه به و أرشده إلى القيام بالعبادة في أوقات يضيق صدره من تكذيب المخالفين حيث يقول: وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 97- 99] و قد حكى الرازي في تفسيره عن بعضهم أن مقام العبودية أشرف من مقام الرسالة لكون العبادة تصدر من الخلق إلى الحق و الرسالة من الحق إلى الخلق، قال:
و لأن اللّه يتولى مصالح عبده و الرسول يتولى مصالح أمته، و هذا القول خطأ و التوجيه أيضا ضعيف لا حاصل له و لم يتعرض له الرازي بتضعيف و لا رد، و قال بعض الصوفية: العبادة إما لتحصيل ثواب أو درء عقاب، قالوا: و هذا ليس بطائل إذ مقصوده تحصيل مقصوده، و إما للتشريف بتكاليف اللّه تعالى و هذا أيضا عندهم ضعيف، بل العالي أن يعبد اللّه لذاته المقدسة الموصوفة بالكمال، قالوا: و لهذا يقول المصلي: أصلي للّه، و لو كان لتحصيل الثواب و درء العقاب لبطلت الصلاة و قد رد ذلك عليهم آخرون و قالوا: كون العبادة للّه عز و جل لا ينافي أن يطلب معها ثوابا و لا أن يدفع عذابا كما قال ذلك الأعرابي: أما أني لا أحسن دندنتك و لا دندنة معاذ إنما أسأل اللّه الجنة و أعوذ به من النار فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلم «حولها ندندن» «1» .
[سورة الفاتحة (1): آية 6]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
قراءة الجمهور بالصاد و قرئ السراط و قرئ بالزاي، قال الفراء: و هي لغة بني عذرة و بني كلب. لما تقدم الثناء على المسؤول تبارك و تعالى ناسب أن يعقب بالسؤال كما قال: «فنصفها لي و نصفها لعبدي و لعبدي ما سأل» و هذا أكمل أحوال السائل أن يمدح مسؤوله ثم يسأل حاجته و حاجة إخوانه المؤمنين بقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ لأنه أنجح للحاجة و أنجع للإجابة، و لهذا أرشد اللّه إليه لأنه الأكمل، و قد يكون السؤال بالإخبار عن حال السائل و احتياجه كما قال موسى عليه السلام رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24] و قد يتقدمه مع ذلك وصف المسؤول كقول ذي النون لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ و قد يكون بمجرد الثناء على المسؤول كقول الشاعر: [الوافر]
(1) الحديث أخرجه أحمد في المسند (ج 5 ص 386) عن بعض أصحاب النبي و أخرجه أبو داود (صلاة، باب 124) و ابن ماجة (إقامة، باب 46؛ و دعاء، باب 4)
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 51
أ أذكر حاجتي أم قد كفاني
حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما
كفاه من تعرضه الثناء
و الهداية هاهنا الإرشاد و التوفيق، و قد تعدى الهداية بنفسها كما هنا اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فتضمن معنى ألهمنا أو وفقنا أو ارزقنا أو أعطنا وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] أي بينا له الخير و الشر، و قد تعدى بإلى كقوله تعالى: اجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل:
121] فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 23] و ذلك بمعنى الإرشاد و الدلالة و كذلك قوله وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] و قد تعدى باللام كقول أهل الجنة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف: 43] أي وفقنا لهذا و جعلنا له أهلا.
و أما الصراط المستقيم فقال الإمام أبو جعفر بن جرير «1» : أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعا على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه و كذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخطفي: [الوافر]
أمير المؤمنين على صراط
إذا اعوج الموارد مستقيم «2»
قال: و الشواهد على ذلك أكثر من أن تحصر. قال: ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل قول و عمل وصف باستقامة أو اعوجاج فتصف المستقيم باستقامته و المعوج باعوجاجه. ثم اختلفت عبارات المفسرين من السلف و الخلف في تفسير الصراط، و إن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد و هو المتابعة للّه و للرسول، فروي أنه كتاب اللّه، قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة حدثني يحيى بن يمان عن حمزة الزيات عن سعد و هو أبو المختار الطائي عن ابن أخي الحارث الأعور عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «الصراط المستقيم كتاب اللّه» و كذلك رواه ابن جرير «3» من حديث حمزة بن حبيب الزيات. و قد تقدم في فضائل القرآن فيما رواه أحمد و الترمذي «4» من رواية الحارث الأعور عن علي مرفوعا «و هو حبل اللّه المتين و هو الذكر الحكيم و هو الصراط المستقيم» و قد روي هذا موقوفا عن علي رضي اللّه عنه و هو أشبه و اللّه أعلم. و قال الثوري عن منصور عن أبي وائل عن عبد اللّه قال:
الصراط المستقيم كتاب اللّه، و قيل هو الإسلام. قال الضحاك عن ابن عباس قال: قال جبريل لمحمد عليهما السلام «قل يا محمد اهدنا الصراط المستقيم» يقول: اهدنا الطريق الهادي و هو
(1) تفسير الطبري 1/ 103.
(2) البيت لجرير في ديوانه ص 218؛ و تهذيب اللغة 12/ 330؛ و تاج العروس (ورد)؛ و جمهرة اللغة ص 714؛ و مقاييس اللغة 6/ 105؛ و أساس البلاغة (ورد)؛ و لسان العرب (ورد، سرط)؛ و مجمل اللغة 4/ 522.
(3) تفسير الطبري 1/ 104.