کتابخانه تفاسیر
تفسير القرآن العظيم، ج4، ص: 248
و البراهين على صدق ما جاءوهم به فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أي فما كانت الأمم لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم بسبب تكذيبهم إياهم أول ما أرسلوا إليهم كقوله تعالى:
وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ [الأنعام: 110] الآية و قوله: كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ أي كما طبع اللّه على قلوب هؤلاء فما آمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم هكذا يطبع اللّه على قلوب من أشبههم ممن بعدهم و يختم على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، و المراد أن اللّه تعالى أهلك الأمم المكذبة للرسل و أنجى من آمن بهم و ذلك من بعد نوح عليه السلام فإن الناس كانوا من قبله من زمان آدم عليه السلام على الإسلام إلى أن أحدث الناس عبادة الأصنام فبعث اللّه إليهم نوحا عليه السلام.
و لهذا يقول له المؤمنون يوم القيامة: أنت أول رسول بعثه اللّه إلى أهل الأرض. و قال ابن عباس: كان بين آدم و نوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، و قال اللّه تعالى: وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [الإسراء: 17] الآية، و في هذا إنذار عظيم لمشركي العرب الذين كذبوا سيد الرسل و خاتم الأنبياء و المرسلين فإنه إذا كان قد أصاب من كذب بتلك الرسل ما ذكره اللّه تعالى من العذاب و النكال فماذا ظن هؤلاء و قد ارتكبوا أكبر من أولئك.
[سورة يونس (10): الآيات 75 الى 78]
يقول تعالى: ثُمَّ بَعَثْنا من بعد تلك الرسل مُوسى وَ هارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أي قومه بِآياتِنا أي حججنا و براهيننا فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ أي استكبروا عن اتباع الحق و الانقياد له و كانوا قوما مجرمين فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ كأنهم قبحهم اللّه أقسموا على ذلك و هم يعلمون أن ما قالوه كذب و بهتان كما قال تعالى: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا [النمل: 14] الآية قالَ لهم مُوسى منكرا عليهم أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَ سِحْرٌ هذا وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا أي تثنينا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي الدين الذي كانوا عليه وَ تَكُونَ لَكُمَا أي لك و لهارون الْكِبْرِياءُ أي العظمة و الرياسة فِي الْأَرْضِ وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ .
و كثيرا ما يذكر اللّه تعالى قصة موسى عليه السلام مع فرعون في كتابه العزيز لأنها من أعجب القصص فإن فرعون حذر من موسى كل الحذر فسخره القدر أن ربي هذا الذي يحذر منه على فراشه و مائدته بمنزلة الولد ثم ترعرع و عقد اللّه له سببا أخرجه من بين أظهرهم و رزقه النبوة و الرسالة و التكليم و بعثه إليه ليدعوه إلى اللّه تعالى ليعبده و يرجع إليه هذا مع ما كان عليه
تفسير القرآن العظيم، ج4، ص: 249
فرعون من عظمة المملكة و السلطان، فجاءه برسالة اللّه تعالى و ليس له وزير سوى أخيه هارون عليه السلام، فتمرد فرعون و استكبر و أخذته الحمية، و النفس الخبيثة و قوى رأسه و تولى بركنه و ادعى ما ليس له و تجهرم على اللّه و عتا و بغى و أهان حزب الإيمان من بني إسرائيل و اللّه تعالى يحفظ رسوله موسى عليه السلام و أخاه هارون و يحطوهما بعنايته و يحرسهما بعينه التي لا تنام و لم تزل المحاجة و المجادلة و الآيات تقوم على يدي موسى شيئا بعد شيء، و مرة بعد مرة مما يبهر العقول و يدهش الألباب مما لا يقوم له شيء و لا يأتي به إلا من هو مؤيد من اللّه و ما تأتيهم مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها و صمم فرعون و ملؤه قبحهم اللّه على التكذيب بذلك كله و الجحد و العناد و المكابرة حتى أحل اللّه بهم بأسه الذي لا يرد، و أغرقهم في صبيحة واحدة أجمعين فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام: 45].
[سورة يونس (10): الآيات 79 الى 82]
ذكر اللّه سبحانه قصة السحرة مع موسى عليه السلام في سورة الأعراف و قد تقدم الكلام عليها هناك و في هذه السورة و في سورة طه و في الشعراء و ذلك أن فرعون لعنه اللّه أراد أن يتهرج على الناس و يعارض ما جاء به موسى عليه السلام من الحق المبين، بزخارف السحرة و المشعبذين، فانعكس عليه النظام و لم يحصل له من ذلك المرام، و ظهرت البراهين الإلهية في ذلك المحفل العام وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ [الشعراء: 46- 48] فظن فرعون أنه يستنصر بالسحار، على رسول اللّه عالم الأسرار فخاب و خسر الجنة و استوجب النار وَ قالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ و إنما قال لهم ذلك لأنهم لما اصطفوا و قد وعدوا من فرعون بالتقريب و العطاء الجزيل قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قالَ بَلْ أَلْقُوا [طه: 65- 66] فأراد موسى أن تكون البداءة منهم ليرى الناس ما صنعوا ثم يأتي بالحق بعده فيدمغ باطلهم.
و لهذا لما أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف: 116] فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه: 67- 69] فعند ذلك قال موسى لما ألقوا: ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَ يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ و قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عمار بن الحارث حدثنا عبد الرحمن يعني الدشتكي أخبرنا أبو جعفر الرازي عن ليث و هو ابن أبي سليم قال: بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن اللّه تعالى تقرأ في إناء فيه ماء ثم يصب على رأس المسحور
تفسير القرآن العظيم، ج4، ص: 250
الآية التي من سورة يونس فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَ يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ و الآية الأخرى فَوَقَعَ الْحَقُّ وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ إلى آخر أربع آيات، و قوله إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه: 69].
[سورة يونس (10): آية 83]
يخبر تعالى أنه لم يؤمن بموسى عليه السلام مع ما جاء به من الآيات البينات و الحجج القاطعات و البراهين الساطعات إلا قليل من قوم فرعون من الذرية و هم الشباب على و جل و خوف منه و من ملئه أن يردوهم إلى ما كانوا عليه من الكفر، لأن فرعون لعنه اللّه كان جبارا عنيدا مسرفا في التمرد و العتو و كانت له سطوة و مهابة تخاف رعيته منه خوفا شديدا، قال العوفي عن ابن عباس: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ قال: فإن الذرية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل من قوم فرعون يسير منهم امرأة فرعون: و مؤمن آل فرعون و خازن فرعون و امرأة خازنه «1» .
و روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ يقول بني إسرائيل «2» و عن ابن عباس و الضحاك و قتادة: الذرية القليل و قال مجاهد في قوله: إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ قال: هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان و مات آباؤهم «3» و اختار ابن جرير قول مجاهد في الذرية أنها من بني إسرائيل لا من قوم فرعون لعود الضمير على أقرب المذكورين، و في هذا نظر لأنه أراد بالذرية الأحداث و الشباب و أنهم من بني إسرائيل.
فالمعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى عليه السلام و استبشروا به و قد كانوا يعرفون نعته و صفته و البشارة به من كتبهم المتقدمة و أن اللّه تعالى سينقذهم من أسر فرعون و يظهرهم عليه و لهذا لما بلغ هذا فرعون حذر كل الحذر فلم يجد عنه شيئا، و لما جاء موسى آذاهم فرعون أشد الأذى، و قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ و إذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم موسى و هم بنو إسرائيل عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِمْ أي و أشراف قومه أن يفتنهم و لم يكن في بني إسرائيل من يخاف منه أن يفتن عن الإيمان سوى قارون فإنه كان من قوم
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 592.
(2) تفسير الطبري 6/ 592.
(3) تفسير الطبري 6/ 591، 592.
تفسير القرآن العظيم، ج4، ص: 251
موسى فبغى عليهم لكنه كان طاويا إلى فرعون متصلا به متعلقا بحباله و من قال إن الضمير في قوله و ملئهم عائد إلى فرعون و عظم الملك من أجل اتباعه أو بحذف آل فرعون و إقامة المضاف إليه مقامه فقد أبعد و إن كان ابن جرير قد حكاه عن بعض النحاة. و مما يدل على أنه لم يكن في بني إسرائيل إلا مؤمن، قوله تعالى:
[سورة يونس (10): الآيات 84 الى 86]
يقول تعالى مخبرا عن موسى أنه قال لبني إسرائيل: يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ أي فإن اللّه كاف من توكل عليه أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] و كثيرا ما يقرن اللّه تعالى بين العبادة و التوكل كقوله تعالى: فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123] قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنا [الملك:
29] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: 9] و أمر اللّه تعالى المؤمنين أن يقولوا في كل صلواتهم مرات متعددة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5].
و قد امتثل بنو إسرائيل ذلك فقالوا: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي لا تظفرهم بنا و تسلطهم علينا فيظنوا أنهم إنما سلطوا لأنهم على الحق و نحن على الباطل فيفتنوا بذلك هكذا روي عن أبي مجلز و أبي الضحى «1» ، و قال ابن أبي نجيح و غيره عن مجاهد لا تعذبنا بأيدي آل فرعون و لا بعذاب من عندك فيقول قوم فرعون لو كانوا على حق ما عذبوا و لا سلطنا عليهم فيفتنوا «2» بنا و قال عبد الرزاق أنبأنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ لا تسلطهم علينا فيفتنونا «3» . و قوله: وَ نَجِّنا بِرَحْمَتِكَ أي خلصنا برحمة منك و إحسان مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي الذين كفروا الحق و ستروه و نحن قد آمنا بك و توكلنا عليك.
[سورة يونس (10): آية 87]
يذكر تعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون و قومه و كيفية خلاصهم منهم و ذلك أن اللّه تعالى أمر موسى و أخاه هارون عليهما السلام أن يتبوآ أي يتخذا لقومهما بمصر بيوتا، و اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً فقال الثوري و غيره عن خصيف عن
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 594، 595.
(2) تفسير الطبري 6/ 595.
(3) تفسير الطبري 6/ 594.
تفسير القرآن العظيم، ج4، ص: 252
عكرمة عن ابن عباس وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال: أمروا أن يتخذوها مساجد «1» ، و قال الثوري أيضا عن ابن منصور عن إبراهيم، وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال: كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم «2» و كذا قال مجاهد و أبو مالك و الربيع بن أنس و الضحاك و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم و أبوه زيد بن أسلم و كأن هذا و اللّه أعلم لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون و قومه و ضيقوا عليهم أمروا بكثرة الصلاة كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ [البقرة: 153].
و في الحديث كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا حزبه أمر صلى، أخرجه أبو داود «3» ، و لهذا قال تعالى في هذه الآية: وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي بالثواب و النصر القريب، و قال العوفي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال: قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة فأذن اللّه لهم أن يصلوا في بيوتهم و أمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة «4» ، و قال مجاهد وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً لما خاف بنو إسرائيل من فرعون أن يقتلوا في الكنائس الجامعة أمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سرا «5» و كذا قال قتادة و الضحاك و قال سعيد بن جبير وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أي يقابل بعضها بعضا «6» .
[سورة يونس (10): الآيات 88 الى 89]
هذا إخبار من اللّه تعالى عما دعا به موسى عليه السلام على فرعون و ملئه لما أبوا قبول الحق و استمروا على ضلالهم و كفرهم معاندين جاحدين ظلما و علوا و تكبرا و عتوا قال موسى:
رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً أي من أثاث الدنيا و متاعها وَ أَمْوالًا أي جزيلة كثيرة فِي هذه الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ بفتح الياء أي أعطيتهم ذلك و أنت تعلم أنهم لا يؤمنون بما أرسلتني به إليهم استدراجا منك لهم كقوله تعالى: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ* و قرأ آخرون ليضلوا بضم الياء أي ليفتتن بما أعطيتهم من شئت من خلقك ليظن من أغويته أنك إنما
(1) تفسير الطبري 6/ 596.
(2) تفسير الطبري 6/ 596.
(3) لم أجد الحديث في سنن أبي داود، و الحديث أخرجه النسائي في المواقيت باب 46، و أحمد في المسند 1/ 206، 268، 280، 5/ 388.
(4) تفسير الطبري 6/ 597.
(5) تفسير الطبري 6/ 597.
(6) تفسير الطبري 6/ 598.
تفسير القرآن العظيم، ج4، ص: 253
أعطيتهم هذا لحبك إياهم و اعتنائك بهم رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ قال ابن عباس و مجاهد:
أي أهلكها، و قال الضحاك و أبو العالية و الربيع بن أنس: جعلها اللّه حجارة منقوشة كهيئة ما كانت «1» ، و قال قتادة بلغنا أن زروعهم تحولت حجارة، و قال محمد بن كعب القرظي جعل سكرهم حجارة.
و قال ابن أبي حاتم حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث حدثنا يحيى بن أبي بكير عن أبي معشر حدثني محمد بن قيس أن محمد بن كعب قرأ سورة يونس على عمر بن عبد العزيز حتى بلغ وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا إلى قوله: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ الآية، فقال عمر: يا أبا حمزة أي شيء الطمس؟ قال: عادت أموالهم كلها حجارة، فقال عمر بن عبد العزيز لغلام له: ائتني بكيس فجاءه بكيس فإذا فيه حمص و بيض قد حول حجارة.
و قوله: وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ قال ابن عباس: أي اطبع عليها فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ و هذه الدعوة كانت من موسى عليه السلام غضبا للّه و لدينه على فرعون و ملئه الذين تبين له أنهم لا خير فيهم و لا يجيء منهم شيء كما دعا نوح عليه السلام فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح: 26- 27] و لهذا استجاب اللّه تعالى لموسى عليه السلام فيهم هذه الدعوة التي أمن عليها أخوه هارون فقال تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما قال أبو العالية و أبو صالح و عكرمة و محمد بن كعب القرظي و الربيع بن أنس دعا موسى و أمن هارون أي قد أجبنا كما فيما سألتما من تدمير آل فرعون، و قد يحتج بهذه الآية من يقول: إن تأمين المأموم على قراءة الفاتحة ينزل منزلة قراءتها لأن موسى دعا و هارون أمن، و قال تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما الآية، أي كما أجيبت دعوتكما فاستقيما على أمري قال ابن جريج عن ابن عباس: فاستقيما فامضيا لأمري و هي الاستقامة قال ابن جريج يقولون إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة، و قال محمد بن علي بن الحسين أربعين يوما.
[سورة يونس (10): الآيات 90 الى 92]
يذكر تعالى كيفية إغراقه فرعون و جنوده فإن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر بصحبة موسى عليه السلام و هم فيما قيل ستمائة ألف مقاتل سوى الذرية و قد كانوا استعاروا من القبط
(1) انظر تفسير الطبري 6/ 600.
تفسير القرآن العظيم، ج4، ص: 254
حليا كثيرا فخرجوا به معهم فاشتد حنق فرعون عليهم فأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من أقاليمه فركب وراءهم في أبهة عظيمة و جيوش هائلة لما يريده اللّه تعالى بهم و لم يتخلف عنه أحد ممن له دولة و سلطان في سائر مملكته فلحقوهم وقت شروق الشمس فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61] و ذلك أنهم لما انتهوا إلى ساحل البحر و فرعون وراءهم و لم يبق إلا أن يتقاتل الجمعان و ألح أصحاب موسى عليه السلام عليه في السؤال كيف المخلص مما نحن فيه؟ فيقول: إني أمرت أن أسلك هاهنا كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62].
فعند ما ضاق الأمر اتسع فأمره اللّه تعالى أن يضرب البحر بعصاه فضربه فانفلق البحر فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء: 13] الآية أي كالجبل العظيم و صار اثني عشر طريقا لكل سبط واحد و أمر اللّه الريح فنشفت أرضه فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى [طه: 77] و تخرق الماء بين الطرق كهيئة الشبابيك ليرى كل قوم الآخرين لئلا يظنوا أنهم هلكوا. و جاوزت بنو إسرائيل البحر فلما خرج آخرهم منه انتهى فرعون و جنوده إلى حافته من الناحية الأخرى و هو في مائة ألف أدهم سوى بقية الألوان، فلما رأى ذلك هاله و أحجم و هاب و همّ بالرجوع و هيهات و لات حين مناص، نفذ القدر، و استجيبت الدعوة.
و جاء جبريل عليه السلام على فرس وديق حائل فمر إلى جانب حصان فرعون فحمحم إليها و اقتحم جبريل البحر فاقتحم الحصان وراءه و لم يبق فرعون يملك من نفسه شيئا فتجلد لأمرائه و قال لهم ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا فاقتحموا كلهم عن آخرهم و ميكائيل في ساقتهم لا يترك منهم أحدا إلا ألحقه بهم، فلما استوسقوا فيه و تكاملوا و همّ أولهم بالخروج منه أمر اللّه القدير البحر أن يرتطم عليهم فارتطم عليهم فلم ينج منهم أحد و جعلت الأمواج ترفعهم و تخفضهم و تراكمت الأمواج فوق فرعون و غشيته سكرات الموت فقال و هو كذلك:
آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فآمن حيث لا ينفعه الإيمان فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ [غافر: 84- 85] و لهذا قال اللّه تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ أي أ هذا الوقت تقول، و قد عصيت اللّه قبل هذا فيما بينك و بينه وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أي في الأرض الذين أضلوا الناس وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ [القصص: 41] و هذا الذي حكى اللّه تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله ذلك من أسرار الغيب التي أعلم اللّه بها رسوله صلى اللّه عليه و سلم و لهذا قال الإمام أحمد بن حنبل «1» رحمه اللّه: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا