کتابخانه تفاسیر
تفسير القرآن العظيم، ج4، ص: 466
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ رواه ابن جرير «1» ، و قال قتادة: لَفِي سَكْرَتِهِمْ أي في ضلالهم يَعْمَهُونَ أي يلعبون، و قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس لَعَمْرُكَ لعيشك إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قال يترددون.
[سورة الحجر (15): الآيات 73 الى 77]
يقول تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ و هي ما جاءهم به من الصوت القاصف عند شروق الشمس و هو طلوعها، و ذلك مع رفع بلادهم إلى عنان السماء، ثم قلبها و جعل عاليها سافلها، و إرسال حجارة السجيل عليهم و قد تقدم الكلام على السجيل في هود بما فيه كفاية. و قوله:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي إن آثار هذه النقم الظاهرة على تلك البلاد لمن تأمل ذلك و توسمه بعين بصره و بصيرته، كما قال مجاهد في قوله: لِلْمُتَوَسِّمِينَ قال: المتفرسين.
و عن ابن عباس و الضحاك: للناظرين. و قال قتادة: للمعتبرين. و قال مالك عن بعض أهل المدينة لِلْمُتَوَسِّمِينَ للمتأملين.
و قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا محمد بن كثير العبدي عن عمرو بن قيس، عن عطية عن أبي سعيد مرفوعا قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور اللّه» ثم قرأ النبي صلى اللّه عليه و سلم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ «2» رواه الترمذي: و ابن جرير من حديث عمرو بن قيس الملائي عن عطية عن أبي سعيد، و قال الترمذي. لا نعرفه إلّا من هذا الوجه.
و قال ابن جرير «3» أيضا: حدثني أحمد بن محمد الطوسي، حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا الفرات بن السائب، حدثنا ميمون بن مهران عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:
«اتقوا فراسة المؤمن، فإن المؤمن ينظر بنور اللّه».
و قال ابن جرير «4» : حدثني أبو شرحبيل الحمصي، حدثنا سليمان بن سلمة، حدثنا المؤمل بن سعيد بن يوسف الرحبي، حدثنا أبو المعلى أسد بن وداعة الطائي، حدثنا وهب بن منبه عن طاوس بن كيسان عن ثوبان قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «احذروا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور اللّه و بتوفيق اللّه». و قال أيضا: حدثنا عبد الأعلى بن واصل، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي، حدثنا عبد الواحد بن واصل، حدثنا أبو بشر المزلق عن ثابت عن أنس بن مالك
(1) تفسير الطبري 7/ 526.
(2) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 15، باب 6، و الطبري في تفسيره 7/ 528.
(3) تفسير الطبري 7/ 528، 529.
(4) تفسير الطبري 7/ 529.
تفسير القرآن العظيم، ج4، ص: 467
قال: قال النبي صلى اللّه عليه و سلم: «إن للّه عبادا يعرفون الناس بالتوسم»، و رواه الحافظ أبو بكر البزار:
حدثنا سهل بن بحر، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي، حدثنا أبو بشر يقال له ابن المزلق قال:
و كان ثقة، عن ثابت عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «إن للّه عبادا يعرفون الناس بالتوسم».
و قوله: وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أي و إن قرية سدوم التي أصابها ما أصابها من القلب الصوري و المعنوي و القذف بالحجارة، حتى صارت بحيرة منتنة خبيثة بطريق مهيع «1» مسالكه مستمرة إلى اليوم، كقوله: وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 137] و قال مجاهد و الضحاك وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ قال: معلم، و قال قتادة: بطريق واضح. و قال قتادة أيضا: بصقع من الأرض واحد، و قال السدي: بكتاب مبين، يعني كقوله: وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ و لكن ليس المعنى على ما قال هاهنا، و اللّه أعلم. و قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي إن الذي صنعنا بقوم لوط من الهلاك و الدمار و إنجائنا لوطا و أهله لدلالة واضحة جلية للمؤمنين باللّه و رسله.
[سورة الحجر (15): الآيات 78 الى 79]
أصحاب الأيكة هم قوم شعيب، قال الضحاك و قتادة و غيرهما: الأيكة الشجر الملتف، و كان ظلمهم بشركهم باللّه و قطعهم الطريق و نقصهم المكيال و الميزان، فانتقم اللّه منهم بالصيحة و الرجفة و عذاب يوم الظلة، و قد كانوا قريبا من قوم لوط بعدهم في الزمان، و مسامتين لهم في المكان، و لهذا قال تعالى: وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أي طريق مبين، قال ابن عباس و مجاهد و الضحاك و غيره: طريق ظاهر، و لهذا لما أنذر شعيب قومه قال في نذارته إياهم وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود: 89].
[سورة الحجر (15): الآيات 80 الى 84]
أصحاب الحجر هم ثمود الذين كذبوا صالحا نبيهم عليهم السلام، و من كذب برسول فقد كذب بجميع المرسلين، و لهذا أطلق عليهم تكذيب المرسلين، و ذكر تعالى أنه أتاهم من الآيات ما يدلهم على صدق ما جاءهم به صالح كالناقة التي أخرجها اللّه لهم بدعاء صالح من صخرة صماء، و كانت تسرح في بلادهم لها شرب و لهم شرب يوم معلوم، فلما عتوا و عقروها قال لهم تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود: 65] و قال تعالى: وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: 17].
و ذكر تعالى أنهم كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ أي من غير خوف و لا احتياج إليها
(1) طريق مهيع: أي طريق سهل واضحة.
تفسير القرآن العظيم، ج4، ص: 468
بل أشرا و بطرا و عبثا كما هو المشاهد من صنيعهم في بيوتهم بوادي الحجر الذي مرّ به رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هو ذاهب إلى تبوك، فقنع رأسه و أسرع دابته، و قال لأصحابه: «لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم».
و قوله: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ أي وقت الصباح من اليوم الرابع فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي ما كانوا يستغلونه من زروعهم و ثمارهم التي ضنوا بمائها عن الناقة حتى عقروها لئلا تضيق عليهم في المياه، فما دفعت عنهم تلك الأموال و لا نفعتهم لما جاء أمر ربك.
[سورة الحجر (15): الآيات 85 الى 86]
يقول تعالى: وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ أي بالعدل لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا [النجم: 31] الآية، و قال تعالى: وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 37] و قال تعالى: أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون: 115- 116] ثم أخبر نبيه بقيام الساعة و أنها كائنة لا محالة ثم أمره بالصفح الجميل عن المشركين في أذاهم له و تكذيبهم ما جاءهم به، كقوله:
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 89] و قال مجاهد و قتادة و غيرهما: كان هذا قبل القتال، و هو كما قالا، فإن هذه مكية و القتال إنما شرع بعد الهجرة.
و قوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ تقرير للمعاد و أنه تعالى قادر على إقامة الساعة فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء، العليم بما تمزق من الأجساد و تفرق في سائر أقطار الأرض، كقوله: أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: 81- 83].
[سورة الحجر (15): الآيات 87 الى 88]
يقول تعالى لنبيه صلى اللّه عليه و سلم: كما آتيناك القرآن العظيم فلا تنظرنّ إلى الدنيا، و زينتها، و ما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية لنفتنهم فيه فلا تغبطهم بما هم فيه، و لا تذهب نفسك عليهم حسرات حزنا عليهم في تكذيبهم لك و مخالفتهم دينك، وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] أي ألن لهم جانبك، كقوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] و قد اختلف في السبع المثاني
تفسير القرآن العظيم، ج4، ص: 469
ما هي؟ فقال ابن مسعود و ابن عمر و ابن عباس و مجاهد و سعيد بن جبير و الضحاك و غيرهم:
هي السبع الطوال، يعنون البقرة، و آل عمران، و النساء، و المائدة، و الأنعام، و الأعراف، و يونس، نص عليه ابن عباس و سعيد بن جبير، و قال سعيد: بين فيهن الفرائض و الحدود و القصص و الأحكام. و قال ابن عباس: بين الأمثال و الخبر و العبر.
و قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر قال: قال سفيان: المثاني: البقرة.
و آل عمران، و النساء، و المائدة، و الأنعام، و الأعراف، و الأنفال و براءة سورة واحدة، قال ابن عباس: و لم يعطهن أحد إلا النبي صلى اللّه عليه و سلم، و أعطي موسى منهن ثنتين، رواه هشيم عن الحجاج عن الوليد بن العيذار عن سعيد بن جبير عنه. و قال الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أوتي النبي صلى اللّه عليه و سلم سبعا من المثاني الطوال، و أوتي موسى عليه السلام ستا، فلما ألقى الألواح ارتفع اثنتان و بقيت أربع.
و قال مجاهد: هي السبع الطوال، و يقال: هي القرآن العظيم. و قال خصيف عن زياد بن أبي مريم في قوله تعالى: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قال: أعطيتك سبعة أجزاء آمر، و أنه، و أبشر، و أنذر، و أضرب الأمثال، و أعدد النعم، و أنبئك بنبإ القرآن. رواه ابن جرير «1» و ابن أبي حاتم [و القول الثاني] أنها الفاتحة، و هي سبع آيات. و روي ذلك عن علي و عمر و ابن مسعود و ابن عباس، قال ابن عباس: و البسملة هي الآية السابعة، و قد خصكم اللّه بها، و به قال إبراهيم النخعي و عبد اللّه بن عبيد بن عمير و ابن أبي مليكة و شهر بن حوشب و الحسن البصري و مجاهد.
و قال قتادة: ذكر لنا أنهن فاتحة الكتاب و أنهن يثنين في كل ركعة مكتوبة أو تطوع، و اختاره ابن جرير، و احتج بالأحاديث الواردة في ذلك، و قد قدمناها في فضائل سورة الفاتحة في أول التفسير و للّه الحمد، و قد أورد البخاري رحمه اللّه هاهنا حديثين:
[أحدهما] قال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر، حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم، عن أبي سعيد بن المعلى قال: مربي النبي صلى اللّه عليه و سلم و أنا أصلي فدعاني فلم آته حتى صليت فأتيته، فقال: «ما منعك أن تأتيني؟» فقلت: كنت أصلي، فقال: «ألم يقل اللّه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد» فذهب النبي صلى اللّه عليه و سلم ليخرج فذكرت فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هي السبع المثاني و القرآن الذي أوتيته» «2» .
[الثاني] قال: حدثنا آدم، حدثنا ابن أبي ذئب، حدثنا المقبري عن أبي هريرة رضي اللّه عنه
(1) تفسير الطبري 7/ 533، 534.
(2) أخرجه البخاري في تفسير سورة 15، باب 3.
تفسير القرآن العظيم، ج4، ص: 470
قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «أم القرآن هي السبع المثاني و القرآن العظيم» «1» .
فهذا نص في أن الفاتحة السبع المثاني و القرآن العظيم، و لكن لا ينافي وصف غيرها من السبع الطوال بذلك، لما فيها من هذه الصفة كما لا ينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضا، كما قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: 23] فهو مثاني من وجه و متشابه من وجه، و هو القرآن العظيم أيضا، كما أنه عليه الصلاة و السلام لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى، فأشار إلى مسجده، و الآية نزلت في مسجد قباء، فلا تنافي، فإن ذكر الشيء لا ينفي ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة، و اللّه أعلم.
و قوله: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أي استغن بما آتاك اللّه من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع و الزهرة الفانية، و من هاهنا ذهب ابن عيينة إلى تفسير الحديث الصحيح «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» «2» إلى أنه يستغني به عما عداه، و هو تفسير صحيح و لكن ليس هو المقصود من الحديث كما تقدم في أول التفسير.
و قال ابن أبي حاتم: ذكر عن وكيع بن الجراح، حدثنا موسى بن عبيدة عن يزيد بن عبد اللّه بن قسيط، عن أبي رافع صاحب النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: ضاف النبي صلى اللّه عليه و سلم ضيف و لم يكن عند النبي صلى اللّه عليه و سلم شيء يصلحه، فأرسل إلى رجل من اليهود «يقول لك محمد رسول اللّه: أسلفني دقيقا إلى هلال رجب» قال: لا، إلا برهن فأتيت النبي صلى اللّه عليه و سلم فأخبرته، فقال: «أما و اللّه إني لأمين من في السماء و أمين من في الأرض، و لئن أسلفني أو باعني لأؤدين إليه» فلما خرجت من عنده نزلت هذه الآية لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا إلى آخر الآية، كأنه يعزيه عن الدنيا، قال العوفي عن ابن عباس لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ قال: نهى الرجل أن يتمنى ما لصاحبه. و قال مجاهد إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ هم الأغنياء.
[سورة الحجر (15): الآيات 89 الى 93]
يأمر تعالى نبيه صلى اللّه عليه و سلم أن يقول للناس: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ البين النذارة، نذير للناس من عذاب أليم أن يحل بهم على تكذيبه كما حل بمن تقدمهم من الأمم المكذبة لرسلها، و ما أنزل اللّه عليهم من العذاب و الانتقام. و قوله: الْمُقْتَسِمِينَ أي المتحالفين، أي تحالفوا على مخالفة الأنبياء و تكذيبهم و أذاهم، كقوله تعالى إخبارا عن قوم صالح إنهم قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَ أَهْلَهُ [النمل: 49] الآية، أي نقتلهم ليلا، قال مجاهد: تقاسموا و تحالفوا
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 15، باب 3، و أبو داود في الوتر باب 15.
(2) أخرجه البخاري في التوحيد باب 44، و أبو داود في الوتر باب 20، و الدارمي في الصلاة باب 171، و فضائل القرآن باب 34، و أحمد في المسند 1/ 172، 175، 179.
تفسير القرآن العظيم، ج4، ص: 471
وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل: 38] أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم: 44] الآية أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ [الأعراف: 49] فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء من الدنيا إلا أقسموا عليه فسموا مقتسمين، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: المقتسمون أصحاب صالح الذين تقاسموا باللّه لنبيتنه و أهله.
و في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: «إنما مثلي و مثل ما بعثني اللّه به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، و إني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا و انطلقوا على مهلهم فنجوا، و كذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم و اجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني و اتبع ما جئت به و مثل من عصاني و كذب ما جئت به من الحق» «1» .
و قوله: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أي جزءوا كتبهم المنزلة عليهم فآمنوا ببعض و كفروا ببعض. قال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم، أنبأنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ قال: هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه و كفروا ببعضه. حدثنا عبيد اللّه بن موسى عن الأعمش عن أبي ظبيان، عن ابن عباس جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ قال: هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه و كفروا ببعضه. حدثنا عبيد اللّه بن موسى عن الأعمش عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ قال هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه و كفروا ببعضه، حدثنا عبيد اللّه بن موسى عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ قال: آمنوا ببعض و كفروا ببعض اليهود و النصارى.
قال ابن أبي حاتم: و روي عن مجاهد و الحسن و الضحاك و عكرمة و سعيد بن جبير و غيرهم نحو ذلك، و قال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ قال:
السحر، و قال عكرمة: العضه السحر بلسان قريش تقول للساحرة إنها العاضهة، و قال مجاهد:
عضوه أعضاء، قالوا سحر، و قالوا كهانة، و قالوا أساطير الأولين، و قال عطاء: قال بعضهم ساحر، و قالوا مجنون، و قال كاهن، فذلك العضين، و كذا روي عن الضحاك و غيره.
و قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش، و كان ذا شرف فيهم، و قد حضر الموسم فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، و إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه و قد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، و لا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، و يرد قولكم بعضه بعضا، فقالوا: و أنت يا أبا عبد شمس فقل و أقم لنا رأيا نقول به، قال: بل أنتم
(1) أخرجه البخاري في الرقاق باب 26، و الاعتصام باب 2، و مسلم في الفضائل حديث 16.
تفسير القرآن العظيم، ج4، ص: 472
قولوا لأسمع، قالوا: نقول كاهن، قال: ما هو بكاهن، قالوا: فنقول مجنون، قال: ما هو بمجنون، قالوا: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر، قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، قالوا: فماذا نقول؟ قال: و اللّه إن لقوله لحلاوة، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، و إن أقرب القول أن تقولوا هو ساحر، فتفرقوا عنه بذلك، و أنزل اللّه فيهم الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أصنافا فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ أولئك النفر الذين قالوا لرسول اللّه.
و قال عطية العوفي عن ابن عمر في قوله: لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ قال: عن لا إله إلا اللّه. و قال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري عن ليث هو ابن أبي سليم عن مجاهد في قوله تعالى: لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ قال: عن لا إله إلا اللّه، و قد روى الترمذي و أبو يعلى الموصلي و ابن جرير و ابن أبي حاتم من حديث شريك القاضي، عن ليث بن أبي سليم عن بشير بن نهيك، عن أنس عن النبي صلى اللّه عليه و سلم فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ قال: عن لا إله إلا اللّه، و رواه ابن إدريس عن ليث عن بشير عن أنس موقوفا.
و قال ابن جرير «1» : حدثنا أحمد، حدثنا أبو أحمد، حدثنا شريك عن هلال عن عبد اللّه بن عكيم، قال: و رواه الترمذي و غيره من حديث أنس مرفوعا، و قال عبد اللّه هو ابن مسعود:
و الذي لا إله غيره ما منكم من أحد إلا سيخلو اللّه به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر، فيقول: ابن آدم ماذا غرك مني بي؟ ابن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟
و قال أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية في قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ قال: يسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة: عما كانوا يعبدون، و ماذا أجابوا المرسلين، و قال ابن عيينة عن عملك و عن مالك.
و قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثنا يونس الحذاء عن أبي حمزة الشيباني عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «يا معاذ إن المرء يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى كحل عينيه، و عن فتات الطينة بإصبعه، فلا ألفينك يوم القيامة واحد غيرك أسعد بما آتاك اللّه منك» و قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ثم قال: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌ قال:
لا يسألهم هل عملتم كذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم، و لكن يقول: لم عملتم كذا و كذا؟.