کتابخانه تفاسیر
تفسير القرآن العظيم، ج6، ص: 240
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 141]، و قال تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ [المائدة: 52] و قال تعالى مخبرا عنهم هاهنا: وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ثم قال اللّه تعالى: أَ وَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي أو ليس اللّه بأعلم بما في قلوبهم و ما تكنه ضمائرهم، و إن أظهروا لكم الموافقة.
و قوله تعالى: وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ أي و ليختبرن اللّه الناس بالضراء و السراء، ليتميز هؤلاء من هؤلاء، من يطيع اللّه في الضراء و السراء، و من إنما يطيعه في حظ نفسه، كما قال تعالى: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد: 31]، و قال تعالى بعد وقعة أحد التي كان فيها ما كان من الاختبار و الامتحان ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 179] الآية.
[سورة العنكبوت (29): الآيات 12 الى 13]
يقول تعالى مخبرا عن كفار قريش أنهم قالوا لمن آمن منهم و اتبع الهدى: ارجعوا عن دينكم إلى ديننا، و اتبعوا سبيلنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أي و آثامكم إن كانت لكم آثام في ذلك علينا و في رقابنا، كما يقول القائل: افعل هذا و خطيئتك في رقبتي، قال اللّه تعالى تكذيبا لهم وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي: فيما قالوه إنهم يحتملون عن أولئك خطاياهم، فإنه لا يحمل أحد وزر أحد، قال اللّه تعالى: وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى [فاطر: 18] و قال تعالى: وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ [المعارج: 10- 11].
و قوله تعالى: وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ إخبار عن الدعاة إلى الكفر و الضلالة، أنهم يحملون يوم القيامة أوزار أنفسهم و أوزارا أخر بسبب ما أضلوا من الناس من غير أن ينقص من أوزار أولئك شيئا، كما قال تعالى، لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل: 25] الآية، و في الصحيح «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، و من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من آثامهم شيئا» «1» . و في الصحيح «ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه
(1) أخرجه مسلم في العلم حديث 15، 16، و أبو داود في الصلاة باب 51، و السنة باب 6، و الترمذي في العلم باب 15، و النسائي في الإمامة باب 52، و ابن ماجة في المقدمة باب 14، 15، و التجارات باب 56، و مالك في القرآن حديث 41، و أحمد في المسند 2/ 380، 397، 505، 521، 6/ 44.
تفسير القرآن العظيم، ج6، ص: 241
أول من سن القتل» «1» .
و قوله تعالى: وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ أي يكذبون و يختلقون من البهتان، و قد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثا فقال: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة، حدثنا عثمان بن حفص بن أبي العالية، حدثني سليمان بن حبيب المحاربي عن أبي أمامة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بلغ ما أرسل به، ثم قال: «إياكم و الظلم، فإن اللّه يعزم يوم القيامة فيقول: و عزتي و جلالي لا يجوزني اليوم ظلم ثم ينادي مناد فيقول: أين فلان بن فلان؟ فيأتي يتبعه من الحسنات أمثال الجبال، فيشخص الناس إليها أبصارهم حتى يقوم بين يدي الرحمن عز و جل، ثم يأمر المنادي فينادي: من كانت له تباعة أو ظلامة عند فلان بن فلان فهلم، فيقبلون حتى يجتمعوا قياما بين يدي الرحمن، فيقول الرحمن: اقضوا عن عبدي، فيقولون: كيف نقضي عنه؟
فيقول: خذوا لهم من حسناته، فلا يزالون يأخذون منها حتى لا يبقى منها حسنة، و قد بقي من أصحاب الظلامات، فيقول: اقضوا عن عبدي، فيقولون: لم يبق له حسنة، فيقول خذوا من سيئاتهم فاحملوها عليه» ثم نزع النبي صلى اللّه عليه و سلم بهذه الآية الكريمة وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ [النساء: 40]. و هذا الحديث له شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه «إن الرجل ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال و قد ظلم هذا، و أخذ من مال هذا، و أخذ من عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، و هذا من حسناته، فإذا لم تبق له حسنة، أخذ من سيئاتهم فطرح عليه». و قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثنا أبو بشر الحذاء عن أبي حمزة الثمالي عن معاذ بن جبل رضي اللّه عنه قال:
قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «يا معاذ إن المؤمن يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى عن كحل عينيه و عن فتات الطينة بإصبعين، فلا ألفينك تأتي يوم القيامة و أحد أسعد بما آتاك اللّه منك».
[سورة العنكبوت (29): الآيات 14 الى 15]
هذه تسلية من اللّه تعالى لعبده و رسوله محمد صلى اللّه عليه و سلم، يخبره عن نوح عليه السلام أنه مكث في قومه هذه المدة يدعوهم إلى اللّه تعالى ليلا و نهارا، و سرا و جهارا، و مع هذا ما زادهم ذلك إلا
(1) أخرجه البخاري في الجنائز باب 33، و الديات باب 2، و الاعتصام باب 15، و مسلم في القسامة حديث 27، و الترمذي في العلم باب 14، و النسائي في التحريم باب 1، و ابن ماجة في الديات باب 1، و أحمد في المسند 1/ 383، 430، 433.
تفسير القرآن العظيم، ج6، ص: 242
فرارا عن الحق و إعراضا عنه و تكذيبا له، و ما آمن معه منهم إلا قليل، و لهذا قال تعالى:
فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُونَ أي بعد هذه المدة الطويلة ما نجع فيهم البلاغ و الإنذار، فأنت يا محمد لا تأسف على من كفر بك من قومك و لا تحزن عليهم، فإن اللّه يهدي من يشاء و يضل من يشاء، و بيده الأمر، و إليه ترجع الأمور إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يونس: 96- 97] الآية، و اعلم أن اللّه سيظهرك و ينصرك و يؤيدك، و يذل عدوك و يكبتهم، و يجعلهم أسفل السافلين.
قال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس قال: بعث نوح و هو لأربعين سنة، و لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، و عاش بعد الطوفان ستين عاما حتى كثر الناس و فشوا. و قال قتادة: يقال إن عمره كله ألف سنة إلا خمسين عاما لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة، و دعاهم ثلاثمائة سنة، و لبث بعد الطوفان ثلاثمائة سنة و خمسين عاما، و هذا قول غريب، و ظاهر السياق من الآية أنه مكث في قومه يدعوهم إلى اللّه ألف سنة إلا خمسين عاما. و قال عون بن أبي شداد: إن اللّه تعالى أرسل نوحا إلى قومه و هو ابن خمسين و ثلاثمائة سنة، فدعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما، ثم عاش بعد ذلك ثلاثمائة و خمسين سنة، و هذا أيضا غريب، رواه ابن أبي حاتم و ابن جرير. و قول ابن عباس أقرب، و اللّه أعلم.
و قال الثوري عن سلمة بن كهيل عن مجاهد قال: قال لي ابن عمر: كم لبث نوح في قومه؟
قال: قلت ألف سنة إلا خمسين عاما، قال: فإن الناس لم يزالوا في نقصان من أعمارهم و أحلامهم و أخلاقهم إلى يومك هذا. و قوله تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ أي الذين آمنوا بنوح عليه السلام، و قد تقدم ذكر ذلك مفصلا في سورة هود، و تقدم تفسيره بما أغنى عن إعادته.
و قوله تعالى: وَ جَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ أي و جعلنا تلك السفينة باقية إما عينها، كما قال قتادة: إنها بقيت إلى أول الإسلام على جبل الجودي أو نوعها جعله للناس تذكرة لنعمه على الخلق كيف أنجاهم من الطوفان، كما قال تعالى: وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ - إلى قوله- وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ [يس: 41- 44] و قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ [الحاقة: 11- 12] و قال هاهنا: فَأَنْجَيْناهُ وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ وَ جَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ و هذا من باب التدريج من الشخص إلى الجنس، كقوله تعالى: وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك: 55] أي و جعلنا نوعها رجوما فإن التي يرمى بها ليست هي زينة للسماء، و قال تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ
تفسير القرآن العظيم، ج6، ص: 243
مَكِينٍ [المؤمنون: 12- 13] و لهذا نظائر كثيرة. و قال ابن جرير «1» : لو قيل إن الضمير في قوله: وَ جَعَلْناها عائد إلى العقوبة لكان وجها، و اللّه أعلم.
[سورة العنكبوت (29): الآيات 16 الى 18]
يخبر تعالى عن عبده و رسوله و خليله إبراهيم إمام الحنفاء، أنه دعا قومه إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له و الإخلاص له في التقوى و طلب الرزق منه وحده لا شريك له، و توحيده في الشكر، فإنه المشكور على النعم لا مسدي لها غيره، فقال لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ أي أخلصوا له العبادة و الخوف ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إذا فعلتم ذلك حصل لكم الخير في الدنيا و الآخرة، و اندفع عنكم الشر في الدنيا و الآخرة، ثم أخبر تعالى أن الأصنام التي يعبدونها لا تضر و لا تنفع، و إنما اختلقتم أنتم لها أسماء فسميتموها آلهة و إنما هي مخلوقة مثلكم، هكذا رواه العوفي عن ابن عباس، و به قال مجاهد و السدي، و روى الوالبي عن ابن عباس: و تصنعون إفكا أي تنحتونها أصناما، و به قال مجاهد في رواية، و عكرمة و الحسن و قتادة و غيرهم، و اختاره ابن جرير رحمه اللّه. و هي لا تملك لكم رزقا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ و هذا أبلغ في الحصر كقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ [مريم: 11] و لهذا قال: فَابْتَغُوا أي فاطلبوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ أي لا عند غيره، فإن غيره لا يملك شيئا وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ أي كلوا من رزقه و اعبدوه وحده، و اشكروا له على ما أنعم به عليكم إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله.
و قوله تعالى: وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ أي فبلغكم ما حل بهم من العذاب و النكال في مخالفة الرسل وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ يعني إنما على الرسول أن يبلغكم ما أمره اللّه تعالى به من الرسالة، و اللّه يضل من يشاء و يهدي من يشاء، فاحرصوا لأنفسكم أن تكونوا من السعداء. و قال قتادة في قوله: وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ قال: يعزي نبيه صلى اللّه عليه و سلم، و هذا من قتادة يقتضي أنه قد انقطع الكلام الأول و اعترض بهذا إلى قوله:
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ و هكذا نص على ذلك ابن جرير أيضا. و الظاهر من السياق أن كل هذا من كلام إبراهيم الخليل عليه السلام، يحتج عليهم لإثبات المعاد لقوله بعد هذا كله فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ و اللّه أعلم.
(1) تفسير الطبري 10/ 128.
تفسير القرآن العظيم، ج6، ص: 244
[سورة العنكبوت (29): الآيات 19 الى 23]
يقول تعالى مخبرا عن الخليل عليه السلام أنه أرشدهم إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه بما يشاهدونه في أنفسهم من خلق اللّه إياهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا، ثم وجدوا و صاروا أناسا سامعين مبصرين، فالذي بدأ هذا قادر على إعادته، فإنه سهل عليه يسير لديه، ثم أرشدهم إلى الاعتبار بما في الآفاق من الآيات المشاهدة من خلق اللّه الأشياء: السموات و ما فيها من الكواكب النيرة الثوابت و السيارات، و الأرضين و ما فيها من مهاد و جبال، و أودية و براري و قفار، و أشجار و أنهار، و ثمار و بحار، كل ذلك دال على حدوثها في أنفسها، و على وجود صانعها الفاعل المختار، الذي يقول للشيء كن فيكون.
و لهذا قال: أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ كقوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] ثم قال تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ أي يوم القيامة إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ و هذا المقام شبيه بقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ [فصلت: 53] و كقوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ [الطور: 35- 36].
و قوله تعالى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ أي هو الحاكم المتصرف الذي يفعل ما يشاء، و يحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، و لا يسأل عما يفعل و هم يسألون، فله الخلق و الأمر مهما فعل فعدل، لأنه المالك الذي لا يظلم مثقال ذرة، كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن «إن اللّه لو عذب أهل سماواته و أهل أرضه لعذبهم و هو غير ظالم لهم» «1» و لهذا قال تعالى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ أي ترجعون يوم القيامة.
و قوله تعالى: وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ أي لا يعجزه أحد من أهل سماواته و أرضه، بل هو القاهر فوق عباده، فكل شيء خائف منه فقير إليه، و هو الغني عما سواه وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ لِقائِهِ أي جحدوها
(1) أخرجه أبو داود في السنة باب 16، و ابن ماجة في المقدمة باب 10، و أحمد في المسند 5/ 182، 185، 186.
تفسير القرآن العظيم، ج6، ص: 245
و كفروا بالمعاد أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي أي لا نصيب لهم فيها وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي موجع شديد في الدنيا و الآخرة.
[سورة العنكبوت (29): الآيات 24 الى 25]
يقول تعالى مخبرا عن قوم إبراهيم في كفرهم و عنادهم و مكابرتهم و دفعهم الحق بالباطل، أنهم ما كان لهم جواب بعد مقالة إبراهيم هذه المشتملة على الهدى و البيان إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ و ذلك لأنهم قام عليهم البرهان و توجهت عليهم الحجة، فعدلوا إلى استعمال جاههم و قوة ملكهم ف قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ [الصافات: 97- 98] و ذلك أنهم حشدوا في جمع أحطاب عظيمة مدة طويلة، و حوطوا حولها، ثم أضرموا فيها النار، فارتفع لها لهب إلى عنان السماء، و لم توقد نار قط أعظم منها، ثم عمدوا إلى إبراهيم فكتفوه و ألقوه في كفة المنجنيق، ثم قذفوه فيها، فجعلها اللّه عليه بردا و سلاما، و خرج منها سالما بعد ما مكث فيها أياما، و لهذا و أمثاله جعله اللّه للناس إماما، فإنه بذل نفسه للرحمن، و جسده للنيران، و سخا بولده للقربان، و جعل ماله للضيفان، و لهذا اجتمع على محبته جميع أهل الأديان.
و قوله تعالى: فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ أي سلمه منها بأن جعلها عليه بردا و سلاما إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَ قالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يقول لقومه مقرعا لهم و موبخا على سوء صنيعهم في عبادتهم للأوثان: إنما اتخذتم هذه لتجتمعوا على عبادتها في الدنيا صداقة و ألفة منكم بعضكم لبعض في الحياة الدنيا، و هذا على قراءة من نصب مودة بينكم على أنه مفعول له، و أما على قراءة الرفع، فمعناه إنما اتخاذكم هذا لتحصل لكم المودة في الدنيا فقط ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ينعكس هذا الحال، فتبقى هذه الصداقة و المودة بغضا و شنآنا ثم يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ أي تتجاحدون ما كان بينكم وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي يلعن الأتباع المتبوعين، و المتبوعون الأتباع كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الأعراف:
38] و قال تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] و قال هاهنا:
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَ مَأْواكُمُ النَّارُ الآية، أي و مصيركم و مرجعكم بعد عرصات القيامة إلى النار و ما لكم من ناصر ينصركم، و لا منقذ ينقذكم من عذاب اللّه، و هذا حال الكافرين، و أما المؤمنون فبخلاف ذلك.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا أبو عاصم الثقفي، حدثنا
تفسير القرآن العظيم، ج6، ص: 246
الربيع بن إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن جعدة بن هبيرة المخزومي عن أبيه عن جده، عن أم هانئ أخت علي بن أبي طالب قالت: قال لي النبي صلى اللّه عليه و سلم: «أخبرك أن اللّه تعالى يجمع الأولين و الآخرين يوم القيامة في صعيد واحد، فمن يدري أين الطرفان؟- قالت: اللّه و رسوله أعلم- ثم ينادي مناد من تحت العرش: يا أهل التوحيد، فيشرئبون- قال أبو عاصم يرفعون رؤوسهم- ثم ينادي: يا أهل التوحيد، ثم ينادي الثالثة: يا أهل التوحيد، إن اللّه قد عفا عنكم- قال- فيقوم الناس قد تعلق بعضهم ببعض في ظلمات الدنيا- يعني المظالم- ثم ينادي: يا أهل التوحيد ليعف بعضكم عن بعض، و على اللّه الثواب».
[سورة العنكبوت (29): الآيات 26 الى 27]
يقول تعالى مخبرا عن إبراهيم أنه آمن له لوط، يقال إنه ابن أخي إبراهيم، يقولون هو لوط بن هاران بن آزر، يعني و لم يؤمن به، من قومه سواه و سارة امرأة إبراهيم الخليل، لكن يقال كيف الجمع بين هذه الآية و بين الحديث الوارد في الصحيح أن إبراهيم حين مر على ذلك الجبار فسأل إبراهيم عن سارة ما هي منه، فقال: أختي، ثم جاء إليها فقال لها: إني قد قلت له إنك أختي فلا تكذبيني، فإنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري و غيرك، فأنت أختي في الدين. و كأن المراد من هذا- و اللّه أعلم- أنه ليس على وجه الأرض زوجان على الإسلام غيري و غيرك، فإن لوطا عليه السلام آمن به من قومه، و هاجر معه إلى بلاد الشام، ثم أرسل في حياة الخليل إلى أهل سدوم و أقام بها، و كان من أمرهم ما تقدم و ما سيأتي.
و قوله تعالى: وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي يحتمل عود الضمير في قوله وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ على لوط. لأنه هو أقرب المذكورين، و يحتمل عوده إلى إبراهيم، قال ابن عباس و الضحاك، و هو المكنى عنه بقوله: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ أي من قومه، ثم أخبر عنه بأنه اختار المهاجرة من بين أظهرهم ابتغاء إظهار الدين و التمكن من ذلك و لهذا قال: إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي له العزة و لرسوله و للمؤمنين به، الحكيم في أقواله و أفعاله و أحكامه القدرية و الشرعية.
و قال قتادة: هاجروا جميعا من كوثى، و هي من سواد الكوفة إلى الشام. قال: و ذكر لنا أن نبي اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «إنها ستكون هجرة بعد هجرة ينحاز أهل الأرض إلى مهاجر إبراهيم، و يبقى في الأرض شرار أهلها حتى تلفظهم أرضهم، و تقذرهم روح اللّه عز و جل، و تحشرهم النار مع القردة و الخنازير، تبيت معهم إذا باتوا، و تقيل معهم إذا قالوا، و تأكل ما سقط منهم».
و قد أسند الإمام أحمد «1» هذا الحديث فرواه مطولا من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص