کتابخانه تفاسیر
تفسير القرآن العظيم، ج8، ص: 258
لا نصير و لا ملجأ و في رواية: لا ولي و لا موئل.
و قوله تعالى: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَ رِسالاتِهِ قال بعضهم هو مستثنى من قوله: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا رَشَداً ... إِلَّا بَلاغاً و يحتمل أن يكون استثناء من قوله: لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ أي لا يجيرني منه و يخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها علي، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] و قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً أي إنما أبلغكم رسالة اللّه فمن يعص بعد ذلك فله جزاء على ذلك نار جهنم، خالدين فيها أبدا أي لا محيد لهم عنها و لا خروج لهم منها. و قوله تعالى: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً أي حتى إذا رأى هؤلاء المشركون من الجن و الإنس ما يوعدون يوم القيامة، فسيعلمون يومئذ من أضعف ناصرا و أقل عددا، هم أم المؤمنون الموحدون للّه تعالى، أي بل المشركون لا ناصر لهم بالكلية و هم أقل عددا من جنود اللّه عز و جل.
[سورة الجن (72): الآيات 25 الى 28]
يقول تعالى آمرا رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم أن يقول للناس إنه لا علم له بوقت الساعة و لا يدري أ قريب وقتها أم بعيد قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً أي مدة طويلة، و في هذه الآية الكريمة دليل على أن الحديث الذي يتداوله كثير من الجهلة من أنه عليه الصلاة و السّلام لا يؤلف تحت الأرض كذب لا أصل له، و لم نره في شيء من الكتب.
و قد كان صلّى اللّه عليه و سلّم يسأل عن وقت الساعة فلا يجيب عنها، و لما تبدى له جبريل في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال: يا محمد فأخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» و لما ناداه ذلك الأعرابي بصوت جهوري فقال: يا محمد متى الساعة؟ قال: «ويحك إنها كائنة فما أعددت لها؟» قال: أما إني لم أعد لها كثير صلاة و لا صيام و لكني أحب اللّه و رسوله قال:
«فأنت مع من أحببت» قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث «1» .
و قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مصفّى، حدثنا محمد بن حمير، حدثني أبو بكر بن أبي مريم عن عطاء بن أبي رباح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى، و الذي نفسي بيده إنما توعدون لآت».
(1) أخرجه البخاري في الإيمان باب 37، و تفسير سورة 31، باب 2، و مسلم في الإيمان حديث 1، 5، 7، و أبو داود في السنة باب 16، و الترمذي في الإيمان باب 4، و النسائي في الإيمان باب 5، 6، و ابن ماجة في المقدمة باب 9، و الفتن باب 25، و أحمد في المسند 2/ 426.
تفسير القرآن العظيم، ج8، ص: 259
و قد قال أبو داود «1» في آخر كتاب الملاحم: حدثنا موسى بن سهل، حدثنا حجاج بن إبراهيم، حدثنا ابن وهب، حدثني معاوية بن صالح عن عبد الرّحمن بن جبير عن أبيه عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لن يعجز اللّه هذه الأمة من نصف يوم» انفرد به أبو داود ثم قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبو المغيرة، حدثني صفوان عن شريح بن عبيد عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال: «إني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم» قيل لسعد: و كم نصف يوم؟ قال: خمسمائة عام. انفرد به أبو داود.
و قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ هذه كقوله تعالى: وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ [البقرة: 225] و هكذا قال هاهنا إنه يعلم الغيب و الشهادة و أنه لا يطلع أحد من خلقه على شيء من علمه إلا مما أطلعه تعالى عليه، و لهذا قال:
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ و هذا يعم الرسول الملكي و البشري.
ثم قال تعالى: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً أي يخصه بمزيد معقبات من الملائكة يحفظونه من أمر اللّه و يساوقونه على ما معه من وحي اللّه، و لهذا قال: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً و قد اختلف المفسرون في الضمير الذي في قوله: لِيَعْلَمَ إلى من يعود؟ فقيل إنه عائد على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
و قال ابن جرير «2» : حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب القمي عن جعفر عن سعيد بن جبير في قوله: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً قال: أربعة حفظة من الملائكة مع جبريل لِيَعْلَمَ محمد صلّى اللّه عليه و سلّم أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً و رواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به. و هكذا رواه الضحاك و السدي و يزيد بن أبي حبيب.
و قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ قال: ليعلم نبي اللّه أن الرسل قد بلّغت عن اللّه و أن الملائكة حفظتها و دفعت عنها، و كذا رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة و اختاره ابن جرير، و قيل غير ذلك كما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله:
إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً قال: هي معقبات من الملائكة يحفظون النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من الشيطان حتى يتبين الذي أرسل به إليهم، و ذلك حين يقول ليعلم أهل الشرك أن قد أبلغوا رسالات ربهم. و كذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ قال: ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم، و في هذا
(1) كتاب الملاحم باب 18.
(2) تفسير الطبري 12/ 277.
تفسير القرآن العظيم، ج8، ص: 260
نظر. و قال البغوي: قرأ يعقوب ليعلم بالضم أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا. و يحتمل أن يكون الضمير عائدا إلى اللّه عز و جل، و هو قول حكاه ابن الجوزي في زاد المسير، و يكون المعنى في ذلك أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته و يحفظ ما ينزله إليهم من الوحي ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم، و يكون ذلك كقوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [البقرة: 143] و كقوله تعالى:
وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ [العنكبوت: 11] إلى أمثال ذلك مع العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعا لا محالة، و لهذا قال بعد هذا وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً . آخر تفسير سورة الجن، و للّه الحمد و المنة.
تفسير
سورة المزمل
و هي مكية قال الحافظ أبو بكر بن عمرو بن عبد الخالق البزار: حدثنا محمد بن موسى القطان الواسطي، حدثنا معلى بن عبد الرّحمن، حدثنا شريك عن عبد اللّه بن محمد بن عقيل عن جابر قال: اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسما يصد الناس عنه، فقالوا: كاهن. قالوا: ليس بكاهن. قالوا: مجنون. قالوا: ليس بمجنون. قالوا: ساحر.
قالوا: ليس بساحر، فتفرق المشركون على ذلك فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فتزمل في ثيابه و تدثر فيها. فأتاه جبريل عليه السّلام فقال: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1] ثم قال البزار: معلى بن عبد الرّحمن قد حدث عنه جماعة من أهل العلم و احتملوا حديثه لكنه تفرد بأحاديث لا يتابع عليها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المزمل (73): الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يأمر تعالى رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم أن يترك التزمل و هو التغطي في الليل و ينهض إلى القيام لربه عز و جل كما قال تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة: 16] و كذلك كان صلّى اللّه عليه و سلّم ممتثلا ما أمره اللّه تعالى به من قيام الليل، و قد كان واجبا
تفسير القرآن العظيم، ج8، ص: 261
عليه وحده كما قال تعالى: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] و هاهنا بيّن له مقدار ما يقوم فقال تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا قال ابن عباس و الضحاك و السدي يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ يعني يا أيها النائم. و قال قتادة: المزمل في ثيابه.
و قال إبراهيم النخعي: نزلت و هو متزمل بقطيفة، و قال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قال: يا محمد زملت القرآن و قوله تعالى: نِصْفَهُ بدل من الليل أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي أمرناك أن تقوم نصف الليل بزيادة قليلة أو نقصان قليل لا حرج عليك في ذلك.
و قوله تعالى: وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا أي اقرأه على تمهل فإنه يكون عونا على فهم القرآن و تدبره. و كذلك كان يقرأ صلوات اللّه و سلامه عليه، قالت عائشة رضي اللّه عنها: كان يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. و في صحيح البخاري «1» عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: كانت مدا ثم قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* يمد بسم اللّه و يمد الرّحمن و يمد الرّحيم.
و قال ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة رضي اللّه عنها أنها سئلت عن قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالت: كان يقطع قراءته آية آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 1- 4] «2» رواه أحمد و أبو داود و الترمذي.
و قال الإمام أحمد «3» : حدثنا عبد الرّحمن عن سفيان عن عاصم عن زر عن عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: يقال لقارئ القرآن: اقرأ و ارق و رتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» «4» و رواه أبو داود و الترمذي و النسائي من حديث سفيان الثوري به، و قال الترمذي: حسن صحيح.
و قد قدمنا في أول التفسير الأحاديث الدالة على استحباب الترتيل و تحسين الصوت بالقراءة كما جاء في الحديث زينوا القرآن بأصواتكم «5» و «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» «6» و «لقد أوتي
(1) كتاب فضائل القرآن باب 29.
(2) أخرجه أبو داود في الحروف باب 1، و الترمذي في ثواب القرآن باب 23، و أحمد في المسند 6/ 302.
(3) المسند 2/ 192.
(4) أخرجه أبو داود في الوتر باب 20، و الترمذي في ثواب القرآن باب 18.
(5) أخرجه البخاري في التوحيد باب 52، و أبو داود في الوتر باب 20، و النسائي في الافتتاح باب 83، و ابن ماجة في الإقامة باب 176، و الدارمي في فضائل القرآن باب 34، و أحمد في المسند 4/ 283، 285، 296، 304.
(6) أخرجه البخاري في التوحيد باب 44، و أبو داود في الوتر باب 20، و الدارمي في الصلاة باب 171، و فضائل القرآن باب 34، و أحمد في المسند 1/ 172، 175، 179.
تفسير القرآن العظيم، ج8، ص: 262
هذا مزمارا من مزامير آل داود» «1» يعني أبا موسى، فقال أبو موسى: لو كنت أعلم أنك كنت تسمع قراءتي لحبرته لك تحبيرا: و عن ابن مسعود أنه قال: لا تنثروه نثر الرمل و لا تهذوه هذّ «2» الشعر، قفوا عند عجائبه و حركوا به القلوب و لا يكن هم أحدكم آخر السورة، رواه البغوي.
و قال البخاري: حدثنا آدم، حدثنا شعبة حدثنا عمرو بن مرة: سمعت أبا وائل قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة. فقال هذا كهذ الشعر لقد عرفت النظائر التي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين في ركعة «3» .
و قوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا قال الحسن و قتادة: أي العمل به و قيل: ثقيل وقت نزوله من عظمته، كما قال زيد بن ثابت رضي اللّه عنه: أنزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و فخذه على فخذي فكادت ترض فخذي «4» .
و قال الإمام أحمد «5» : حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن عبد اللّه بن عمرو قال: سألت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقلت: يا رسول اللّه هل تحس بالوحي؟
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض» تفرد به أحمد.
و في أول صحيح البخاري عن عبد اللّه بن يوسف عن مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي اللّه عنها: أن الحارث بن هشام سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: «أحيانا يأتي في مثل صلصلة الجرس و هو أشده علي فيفصم عني و قد وعيت عنه ما قال، و أحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة: و لقد رأيته ينزل عليه الوحي صلّى اللّه عليه و سلّم في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و إن جبينه ليتفصد عرقا «6» ، هذا لفظه.
و قال الإمام أحمد «7» : حدثنا سليمان بن داود، أخبرنا عبد الرّحمن عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: إن كان ليوحى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو على راحلته فتضرب بجرانها «8» ، و قال ابن جرير «9» : حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور عن معمر عن
(1) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب 31، و مسلم في المسافرين حديث 235، 236.
(2) أي لا تسرعوا في قراءته كما تسرعوا في قراءة الشعر، و الهذّ: سرعة القطع.
(3) أخرجه البخاري في الأذان باب 106، و أحمد في المسند 1/ 417.
(4) أخرجه البخاري في الصلاة باب 12، و تفسير سورة 4، باب 18.
(5) المسند 2/ 222.
(6) أخرجه البخاري في بدء الوحي باب 2.
(7) المسند 6/ 118.
(8) الجران: باطن العنق، و المعنى: أنها تثبت في مكانها.
(9) تفسير الطبري 12/ 280.
تفسير القرآن العظيم، ج8، ص: 263
هشام بن عروة عن أبيه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان إذا أوحي إليه و هو على ناقته وضعت جرانها، فما تستطيع أن تحرك حتى يسرى عنه و هذا مرسل، الجران هو باطن العنق، و اختار ابن جرير أنه ثقيل من الوجهين معا، كما قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، كما ثقل في الدنيا ثقل يوم القيامة في الموازين.
و قوله تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا قال أبو إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: نشأ، قام بالحبشة، و قال عمر و ابن عباس و ابن الزبير: الليل كله ناشئة، و كذا قال مجاهد و غير واحد، يقال نشأ إذا قام من الليل و في رواية عن مجاهد: بعد العشاء، و كذا قال أبو مجلز و قتادة و سالم و أبو حازم و محمد بن المنكدر: و الغرض أن ناشئة الليل هي ساعاته و أوقاته و كل ساعة منه تسمى ناشئة و هي الآنات، و المقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب و اللسان و أجمع على التلاوة، و لهذا قال تعالى: هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا أي أجمع للخاطر في أداء القراءة و تفهمها من قيام النهار، لأنه وقت انتشار الناس و لغط الأصوات و أوقات المعاش، و قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا أبو أسامة، حدثنا الأعمش أن أنس بن مالك قرأ هذه الآية إن ناشئة الليل هي أشد وطأ و أصوب قيلا فقال له رجل: إنما نقرؤها وَ أَقْوَمُ قِيلًا ، فقال له: إن أصوب و أقوم و أهيأ و أشباه هذا واحد.
و لهذا قال تعالى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا قال ابن عباس و عكرمة و عطاء بن أبي مسلم: الفراغ و النوم، و قال أبو العالية و مجاهد و أبو مالك و الضحاك و الحسن و قتادة و الربيع بن أنس و سفيان الثوري: فراغا طويلا. و قال قتادة: فراغا و بغية و منقلبا. و قال السدي سَبْحاً طَوِيلًا تطوعا كثيرا. و قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: سَبْحاً طَوِيلًا قال:
لحوائجك فأفرغ لدينك الليل، قال و هذا حين كانت صلاة الليل فريضة ثم إن اللّه تبارك و تعالى منّ على عباده فخففها و وضعها و قرأ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا إلى آخر الآية ثم قرأ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ - حتى بلغ- فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ الليل نصفه أو ثلثه ثم جاء أمر أوسع و أفسح وضع الفريضة عنه و عن أمته فقال و قال تعالى: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] و هذا الذي قاله كما قاله.
و الدليل عليه ما رواه الإمام أحمد «1» في مسنده حيث قال: حدثنا يحيى، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن زرارة بن أوفى، عن سعيد بن هشام أنه طلق امرأته ثم ارتحل إلى المدينة ليبيع عقارا له بها، و يجعله في الكراع و السلاح ثم يجاهد الروم حتى يموت، فلقي رهطا من قومه فحدثوه أن رهطا من قومه ستة أرادوا ذلك على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: «أليس
(1) المسند 6/ 54.
تفسير القرآن العظيم، ج8، ص: 264
لكم فيّ أسوة حسنة؟» فنهاهم عن ذلك فأشهدهم على رجعتها، ثم رجع إلينا فأخبرنا أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال: ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؟ قال نعم، قال: ائت عائشة فسلها ثم ارجع إليّ فأخبرني بردها عليك. قال: فأتيت على حكيم بن أفلح فاستلحقته إليها «1» فقال: ما أنا بقاربها «2» إني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين «3» شيئا فأبت فيهما إلا مضيا، فأقسمت عليه فجاء معي فدخلنا عليها فقالت: حكيم و عرفته قال: نعم.
قالت: من هذا الذي معك؟ قال: سعيد بن هشام. قالت: من هشام؟ قال: ابن عامر. قالت:
فترحمت عليه و قالت: نعم المرء كان عامرا. قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؟ قالت: أ لست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان القرآن، فهممت أن أقوم ثم بدا لي قيام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن قيام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. قالت: أ لست تقرأ هذه السورة يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ؟ قلت: بلى. قالت: فإن اللّه افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم، و أمسك اللّه خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا، ثم أنزل اللّه التخفيف في آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة.
فهممت أن أقوم ثم بدا لي وتر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قالت: كنا نعد له سواكه و طهوره فيبعثه اللّه لما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ثم يتوضأ ثم يصلي ثمان ركعات و لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، فيجلس و يذكر ربه تعالى و يدعو ثم ينهض و لا يسلم، ثم يقول ليصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر اللّه وحده ثم يدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلي ركعتين و هو جالس بعد ما يسلم، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني، فلما أسن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أخذه اللحم أوتر بسبع ثم صلّى ركعتين و هو جالس بعد ما يسلم فتلك تسع يا بني، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إذا صلّى صلاة أحب أن يداوم عليها، و كان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض صلّى من النهار ثنتي عشرة ركعة، و لا أعلم نبي اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ القرآن كله في ليلة و لا قام ليلة حتى أصبح و لا صام شهرا كاملا غير رمضان. فأتيت ابن عباس فحدثته بحديثها فقال: صدقت أما لو كنت أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني مشافهة، هكذا رواه الإمام أحمد بتمامه و قد أخرجه مسلم «4» في صحيحه من حديث قتادة بنحوه.
[طريق أخرى عن عائشة رضي اللّه عنها في هذا المعنى] قال ابن جرير «5» : حدثنا ابن وكيع،
(1) استلحقته إليها: أي طلبت منه مرافقته إياي في الذهاب إليها.
(2) ما أنا بقاربها: أي لن اقترب منها، أو لا أريد قربها.
(3) أي أصحاب الجمل و شيعة علي.
(4) كتاب المسافرين حديث 139.