کتابخانه تفاسیر
تفسير القرآن العظيم، ج8، ص: 263
هشام بن عروة عن أبيه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان إذا أوحي إليه و هو على ناقته وضعت جرانها، فما تستطيع أن تحرك حتى يسرى عنه و هذا مرسل، الجران هو باطن العنق، و اختار ابن جرير أنه ثقيل من الوجهين معا، كما قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، كما ثقل في الدنيا ثقل يوم القيامة في الموازين.
و قوله تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا قال أبو إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: نشأ، قام بالحبشة، و قال عمر و ابن عباس و ابن الزبير: الليل كله ناشئة، و كذا قال مجاهد و غير واحد، يقال نشأ إذا قام من الليل و في رواية عن مجاهد: بعد العشاء، و كذا قال أبو مجلز و قتادة و سالم و أبو حازم و محمد بن المنكدر: و الغرض أن ناشئة الليل هي ساعاته و أوقاته و كل ساعة منه تسمى ناشئة و هي الآنات، و المقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب و اللسان و أجمع على التلاوة، و لهذا قال تعالى: هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا أي أجمع للخاطر في أداء القراءة و تفهمها من قيام النهار، لأنه وقت انتشار الناس و لغط الأصوات و أوقات المعاش، و قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا أبو أسامة، حدثنا الأعمش أن أنس بن مالك قرأ هذه الآية إن ناشئة الليل هي أشد وطأ و أصوب قيلا فقال له رجل: إنما نقرؤها وَ أَقْوَمُ قِيلًا ، فقال له: إن أصوب و أقوم و أهيأ و أشباه هذا واحد.
و لهذا قال تعالى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا قال ابن عباس و عكرمة و عطاء بن أبي مسلم: الفراغ و النوم، و قال أبو العالية و مجاهد و أبو مالك و الضحاك و الحسن و قتادة و الربيع بن أنس و سفيان الثوري: فراغا طويلا. و قال قتادة: فراغا و بغية و منقلبا. و قال السدي سَبْحاً طَوِيلًا تطوعا كثيرا. و قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: سَبْحاً طَوِيلًا قال:
لحوائجك فأفرغ لدينك الليل، قال و هذا حين كانت صلاة الليل فريضة ثم إن اللّه تبارك و تعالى منّ على عباده فخففها و وضعها و قرأ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا إلى آخر الآية ثم قرأ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ - حتى بلغ- فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ الليل نصفه أو ثلثه ثم جاء أمر أوسع و أفسح وضع الفريضة عنه و عن أمته فقال و قال تعالى: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] و هذا الذي قاله كما قاله.
و الدليل عليه ما رواه الإمام أحمد «1» في مسنده حيث قال: حدثنا يحيى، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن زرارة بن أوفى، عن سعيد بن هشام أنه طلق امرأته ثم ارتحل إلى المدينة ليبيع عقارا له بها، و يجعله في الكراع و السلاح ثم يجاهد الروم حتى يموت، فلقي رهطا من قومه فحدثوه أن رهطا من قومه ستة أرادوا ذلك على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: «أليس
(1) المسند 6/ 54.
تفسير القرآن العظيم، ج8، ص: 264
لكم فيّ أسوة حسنة؟» فنهاهم عن ذلك فأشهدهم على رجعتها، ثم رجع إلينا فأخبرنا أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال: ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؟ قال نعم، قال: ائت عائشة فسلها ثم ارجع إليّ فأخبرني بردها عليك. قال: فأتيت على حكيم بن أفلح فاستلحقته إليها «1» فقال: ما أنا بقاربها «2» إني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين «3» شيئا فأبت فيهما إلا مضيا، فأقسمت عليه فجاء معي فدخلنا عليها فقالت: حكيم و عرفته قال: نعم.
قالت: من هذا الذي معك؟ قال: سعيد بن هشام. قالت: من هشام؟ قال: ابن عامر. قالت:
فترحمت عليه و قالت: نعم المرء كان عامرا. قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؟ قالت: أ لست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان القرآن، فهممت أن أقوم ثم بدا لي قيام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن قيام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. قالت: أ لست تقرأ هذه السورة يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ؟ قلت: بلى. قالت: فإن اللّه افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم، و أمسك اللّه خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا، ثم أنزل اللّه التخفيف في آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة.
فهممت أن أقوم ثم بدا لي وتر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قالت: كنا نعد له سواكه و طهوره فيبعثه اللّه لما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ثم يتوضأ ثم يصلي ثمان ركعات و لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، فيجلس و يذكر ربه تعالى و يدعو ثم ينهض و لا يسلم، ثم يقول ليصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر اللّه وحده ثم يدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلي ركعتين و هو جالس بعد ما يسلم، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني، فلما أسن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أخذه اللحم أوتر بسبع ثم صلّى ركعتين و هو جالس بعد ما يسلم فتلك تسع يا بني، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إذا صلّى صلاة أحب أن يداوم عليها، و كان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض صلّى من النهار ثنتي عشرة ركعة، و لا أعلم نبي اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ القرآن كله في ليلة و لا قام ليلة حتى أصبح و لا صام شهرا كاملا غير رمضان. فأتيت ابن عباس فحدثته بحديثها فقال: صدقت أما لو كنت أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني مشافهة، هكذا رواه الإمام أحمد بتمامه و قد أخرجه مسلم «4» في صحيحه من حديث قتادة بنحوه.
[طريق أخرى عن عائشة رضي اللّه عنها في هذا المعنى] قال ابن جرير «5» : حدثنا ابن وكيع،
(1) استلحقته إليها: أي طلبت منه مرافقته إياي في الذهاب إليها.
(2) ما أنا بقاربها: أي لن اقترب منها، أو لا أريد قربها.
(3) أي أصحاب الجمل و شيعة علي.
(4) كتاب المسافرين حديث 139.
(5) تفسير الطبري 12/ 279.
تفسير القرآن العظيم، ج8، ص: 265
حدثنا زيد بن الحباب، و حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران قالا جميعا، و اللفظ لابن وكيع عن موسى بن عبيدة، حدثني محمد بن طحلاء عن أبي سلمة عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: كنت أجعل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حصيرا يصلي عليه من الليل فتسامع الناس به فاجتمعوا فخرج كالمغضب، و كان بهم رحيما، فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل فقال: «أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن اللّه لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل و خير الأعمال ما ديم عليه» و نزل القرآن يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ حتى كان الرجل يربط الحبل و يتعلق، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر فرأى اللّه ما يبتغون من رضوانه فرحمهم فردهم إلى الفريضة و ترك قيام الليل.
و رواه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عبيدة الربذي و هو ضعيف، و الحديث في الصحيح بدون زيادة نزول هذه السورة و هذا السياق قد يوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة و ليس كذلك، و إنما هي مكية و قوله في هذا السياق إن بين نزول أولها و آخرها ثمانية أشهر غريب، فقد تقدم في رواية أحمد أنه كان بينهما سنة.
و قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة عن مسعر عن سماك الحنفي، سمعت ابن عباس يقول: أول ما نزل أول المزمل كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان، و كان بين أولها و آخرها قريب من سنة، و هكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن أبي أسامة به، و قال الثوري و محمد بن بشر العبدي، كلاهما عن مسعر عن سماك عن ابن عباس كان بينهما سنة، و روى ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس مثله.
و قال ابن جرير «1» : حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران عن سفيان عن قيس بن وهب عن أبي عبد الرّحمن قال: لما نزلت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قاموا حولا حتى ورت أقدامهم و سوقهم حتى نزلت فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ قال: فاستراح الناس. و كذا قال الحسن البصري و السدي.
و قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عبيد اللّه بن عمر القواريري، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعيد بن هشام قال: فقلت يعني لعائشة أخبرينا عن قيام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. قالت: أ لست تقرأ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قلت بلى، قالت: فإنها كانت قيام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه حتى انتفخت أقدامهم و حبس آخرها في السماء ستة عشر شهرا ثم نزل، و قال معمر عن قتادة قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا قاموا حولا أو حولين حتى انتفخت سوقهم و أقدامهم، فأنزل اللّه تخفيفها بعد في آخر السورة.
(1) تفسير الطبري 12/ 280.
تفسير القرآن العظيم، ج8، ص: 266
و قال ابن جرير «1» : حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب القمي عن جعفر عن سعيد هو ابن جبير قال: لما أنزل اللّه تعالى على نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قال: مكث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره، و كانت طائفة من أصحابه يقومون معه فأنزل اللّه تعالى عليه بعد عشر سنين إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ - إلى قوله- وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ فخفف اللّه تعالى عنهم بعد عشر سنين، و رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عمرو بن رافع عن يعقوب القمي به.
و قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا فأمر اللّه نبيه و المؤمنين بقيام الليل إلا قليلا فشق ذلك على المؤمنين ثم خفف اللّه تعالى عنهم و رحمهم فأنزل بعد هذا عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ - إلى قوله تعالى- فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ فوسع اللّه تعالى و له الحمد و لم يضيق.
و قوله تعالى: وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أي أكثر من ذكره و انقطع إليه و تفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك و ما تحتاج إليه من أمور دنياك كما قال تعالى: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ [الشرح: 7] أي إذا فرغت من أشغالك فانصب في طاعته و عبادته لتكون فارغ البال، قاله ابن زيد بمعناه أو قريب منه، قال ابن عباس و مجاهد و أبو صالح و عطية و الضحاك و السدي وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أي أخلص له العبادة، و قال الحسن: اجتهد و ابتل إليه نفسك. و قال ابن جرير «2» : يقال للعابد متبتل، و منه الحديث المروي: نهى عن التبتل يعني الانقطاع إلى العبادة و ترك التزوج.
و قوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا أي هو المالك المتصرف في المشارق و المغارب الذي لا إله إلا هو، و كما أفردته بالعبادة فأفرده بالتوكل فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا كما قال تعالى في الآية الأخرى: فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123] و كقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 4] و آيات كثيرة في هذا المعنى فيها الأمر بإفراد العبادة و الطاعة للّه و تخصيصه بالتوكل عليه.
[سورة المزمل (73): الآيات 10 الى 18]
يقول تعالى آمرا رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم بالصبر على ما يقوله من كذبه من سفهاء قومه، و أن يهجرهم
(1) تفسير الطبري 12/ 279.
(2) تفسير الطبري 12/ 286.
تفسير القرآن العظيم، ج8، ص: 267
هجرا جميلا و هو الذي لا عتاب معه ثم قال له متهددا لكفار قومه و متوعدا، و هو العظيم الذي لا يقوم لغضبه شيء وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ أي دعني و المكذبين المترفين أصحاب الأموال فإنهم على الطاعة أقدر من غيرهم و هم يطالبون من الحقوق بما ليس عند غيرهم وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا أي رويدا كما قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان: 24]، و لهذا قال هاهنا: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا و هي القيود، قاله ابن عباس و عكرمة و طاوس و محمد بن كعب و عبد اللّه بن بريدة و أبو عمران الجوني و أبو مجلز و الضحاك و حماد بن أبي سليمان و قتادة و السدي و ابن المبارك و الثوري و غير واحد.
وَ جَحِيماً و هي السعير المضطرمة وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ قال ابن عباس: ينشب في الحلق فلا يدخل و لا يخرج وَ عَذاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ أي تزلزل وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا أي تصير ككثبان الرمل بعد ما كانت حجارة صماء ثم إنها تنسف نسفا فلا يبقى منها شيء إلا ذهب حتى تصير الأرض قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا أي واديا و لا أمتا أي رابية، و معناه لا شيء ينخفض و لا شيء يرتفع.
ثم قال تعالى مخاطبا لكفار قريش و المراد سائر الناس: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ أي بأعمالكم كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا قال ابن عباس و مجاهد و قتادة و السدي و الثوري أَخْذاً وَبِيلًا أي شديدا أي فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول فيصيبكم ما أصاب فرعون حيث أخذه اللّه أخذ عزيز مقتدر كما قال تعالى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى [النازعات: 25] و أنتم أولى بالهلاك و الدمار إن كذبتم رسولكم، لأن رسولكم أشرف و أعظم من موسى بن عمران، و يروى عن ابن عباس و مجاهد.
و قوله تعالى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً يحتمل أن يكون يَوْماً معمولا لتتقون كما حكاه ابن جرير عن قراءة ابن مسعود فكيف تخافون أيها الناس يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم باللّه و لم تصدقوا به؟ و يحتمل أن يكون معمولا لكفرتم فعلى الأول كيف يحصل لكم أمان من يوم هذا الفزع العظيم إن كفرتم، و على الثاني كيف يحصل لكم تقوى إن كفرتم يوم القيامة و جحدتموه، و كلاهما معنى حسن، و لكن الأول أولى و اللّه أعلم.
و معنى قوله يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً أي من شدة أهواله و زلازله و بلابله، و ذلك حين يقول اللّه تعالى لآدم ابعث النار فيقول من كم. فيقول من كل ألف تسعمائة و تسعة و تسعون إلى النار و واحد إلى الجنة. قال الطبراني: حدثنا يحيى بن أيوب العلاف حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا نافع بن يزيد، حدثنا عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً قال: «ذلك يوم القيامة و ذلك يوم يقول اللّه لآدم قم فابعث من ذريتك بعثا إلى النار، قال من كم يا رب؟
قال من كل ألف تسعمائة و تسعة و تسعون و ينجو واحد» فاشتد ذلك على المسلمين و عرف ذلك
تفسير القرآن العظيم، ج8، ص: 268
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ثم قال حين أبصر ذلك في وجوههم «إن بني آدم كثير، و إن يأجوج و مأجوج من ولد آدم، و إنه لا يموت منهم رجل حتى ينتشر لصلبه ألف رجل ففيهم و في أشباههم جنة لكم» هذا حديث غريب و قد تقدم في أول سورة الحج ذكر هذه الأحاديث.
و قوله تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ قال الحسن و قتادة أي بسببه من شدته و هوله، و منهم من يعيد الضمير على اللّه تعالى: و روي عن ابن عباس و مجاهد و ليس بقوي لأنه لم يجر له ذكر هاهنا، و قوله تعالى: كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا أي كان وعد هذا اليوم مفعولا أي واقعا لا محالة و كائنا لا محيد عنه.
[سورة المزمل (73): الآيات 19 الى 20]
يقول تعالى: إِنَّ هذِهِ أي السورة تَذْكِرَةٌ أي يتذكر بها أولو الألباب، و لهذا قال تعالى: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي ممن شاء اللّه تعالى هدايته كما قيده في السورة الأخرى وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [الإنسان: 30].
ثم قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ أي تارة هكذا و تارة هكذا و ذلك كله من غير قصد منكم و لكن لا تقدرون على المواظبة على ما أمركم به من قيام الليل لأنه يشق عليكم، و لهذا قال: وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ أي تارة يعتدلان و تارة يأخذ هذا من هذا و هذا من هذا عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي الفرض الذي أوجبه عليكم فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أي من غير تحديد بوقت أي و لكن قوموا من الليل ما تيسر، و عبر عن الصلاة بالقراءة كما قال في سورة سبحان وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءتك وَ لا تُخافِتْ بِها [الإسراء: 110].
و قد استدل أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه اللّه بهذه الآية و هي قوله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ على أنه لا يجب تعين قراءة الفاتحة في الصلاة بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن و لو بآية، أجزأه و اعتضدوا بحديث المسيء صلاته الذي في الصحيحين «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» «1» و قد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت و هو في الصحيحين أيضا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» «2» ، و في صحيح مسلم عن أبي
(1) أخرجه البخاري في الاستئذان باب 18، و مسلم في الصلاة حديث 45.
(2) أخرجه الترمذي في المواقيت باب 69، و ابن ماجة في الإقامة باب 11. و مسلم في الصلاة حديث 38.
تفسير القرآن العظيم، ج8، ص: 269
هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج غير تمام» «1» و في صحيح ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعا «لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بأم القرآن».
و قوله تعالى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي علم أن سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار في ترك قيام الليل من مرضى لا يستطيعون ذلك، و مسافرين في الأرض يبتغون من فضل اللّه في المكاسب و المتاجر، و آخرين مشغولين بما هو الأهم في حقهم من الغزو في سبيل اللّه، و هذه الآية بل السورة كلها مكية و لم يكن القتال شرع بعد، فهي من أكبر دلائل النبوة لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة، و لهذا قال تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ أي قوموا بما تيسر عليكم منه.
قال ابن جرير «2» : حدثنا يعقوب، حدثنا ابن علية عن أبي رجاء محمد، قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد ما تقول في رجل قد استظهر القرآن كله عن ظهر قلبه و لا يقوم به إنما يصلي المكتوبة، قال يتوسد القرآن لعن اللّه ذاك، قال اللّه تعالى للعبد الصالح وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ [يوسف: 68] وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ [الأنعام: 91] قلت: يا أبا سعيد، قال اللّه تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ قال نعم و لو خمس آيات، و هذا ظاهر من مذهب الحسن البصري أنه كان يرى حقا واجبا على حملة القرآن أن يقوموا و لو بشيء منه في الليل، و لهذا جاء في الحديث أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سئل عن رجل نام حتى أصبح، فقال: «ذاك رجل بال الشيطان في أذنه» «3» فقيل معناه نام عن المكتوبة، و قيل عن قيام الليل: و في السنن «أوتروا يا أهل القرآن» «4» و في الحديث الآخر «من لم يوتر فليس منا» «5» و أغرب من هذا ما حكي عن أبي بكر بن عبد العزيز من الحنابلة من إيجابه قيام شهر رمضان، فاللّه أعلم.
و قال الطبراني: حدثنا أحمد بن سعيد بن فرقد الجدّي، حدثنا أبو محمد بن يوسف الزبيدي، حدثنا عبد الرّحمن عن محمد بن عبد اللّه بن طاوس من ولد طاوس، عن أبيه عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ قال: «مائة آية» و هذا حديث غريب جدا لم أره إلا في معجم الطبراني رحمه اللّه تعالى.
(1) أخرجه مسلم في الصلاة حديث 41.
(2) تفسير الطبري 12/ 294.
(3) أخرجه البخاري في التهجد باب 13، و مسلم في المسافرين حديث 205.
(4) أخرجه أبو داود في الوتر باب 1، و الترمذي في الوتر باب 5، و النسائي في قيام الليل باب 27، و ابن ماجة في الإقامة باب 114، و أحمد في المسند 1/ 110، 143، 144، 148.